الأحد، 29 ديسمبر 2013

ليست الأشياء كما تبدو

الظاهر رقم ١
"عبدالوهاب" شاب وسيم طويل القامة. هو في الواقع أطول شخص في العائلة. 
وسامته تتمثل في حجم يديه الكبيرتين و بروز جبهته و عرض فكّه. 

الظاهر رقم ٢
"محمد" و "فرج" أخوان توأم من مواليد دولة عربية. "محمد" ترك المدرسة في سن مبكرة و عمل في محل للأقمشة. بينما أخوه "فرج" أكمل تعليمه الجامعي في الهندسة و هاجر إلى كندا. محمد نجح في تجارته و أضحى تاجراً غنياً للأقمشة. لكن أمه كانت دائماً تقول له "لماذا لم تفلح في دراستك لتلحق بأخيك فرج في كندا؟"

الظاهر رقم ٣
أمم أخرى متقدمة علينا في العلم و التكنولوجيا و السياحة والإقتصاد ، بالرغم من صغر سنها.
كل إنجازاتها تشير إلى تقدمها القياسي في شتى المجالات إلى درجة مضاهاتها لدول الغرب.
البعض يظن بأنها ستستغني عن النفط كمصدر رئيسي للدخل في المستقبل القريب. 


الباطن رقم ١
طول قامة "عبدالوهاب" و ملامح وجهه البارزة و أطرافه الضخمة (Acromegaly) سببها ورم في الغدة النخامية يفرز هرمون النمو بغزارة. هرمون النمو الزائد على المدى البعيد يسبب إرتفاع في ضغط الدم و ضعف في عضلة القلب.  

الباطن رقم ٢
"فرج" تخرج من كلية الهندسة و هاجر كندا بالفعل. لكنه يعمل هناك نادلاً في مقهى. ذلك لأن شهادته غير معترَف بها في كندا. حتى إذا كانت شهادته معتَرَف بها ، التنافس على الوظائف لا يرحم. أولوية التوظيف لخريجي الجامعات الكندية المحلية. لذلك وضع "فرج" شهادته الجامعية في إطار فاخر و علّقها في شقته لتصبح جزءاً من ديكور البيت.

الباطن رقم ٣
الأمم "الأخرى" إنجازاتها الملموسة تلفت الأنظار بالفعل. تشيّد ناطحات للسحاب تبهر الأبصار. تجذب كل المستثمرين و المواهب و العقول. لكن لمحة واحدة للتاريخ القصير لهذه الأمم يكفي لمعرفة البئر و غطاه.

ليس لديها بنية تحتية. و لا دستور. و لا حقوق إنسان. المساواة فيها معدومة. تقييم الناس يتم حسب العرق و الأصل و اسم العائلة و الدين و المذهب بدلاً من الكفاءة. "الرجل" فيها هو العالم كله. بينما المرأة فيها مكسورة الجناح تعيش فقط تحت ظل الرجل لتخدمه.
هذه الأمم لديها برلمان صوري بديمقراطية زائفة (هذا إذا كان لديها برلمان أصلاً).

هذه الأمم تعتقد بأن المال يشتري كل شيء.
لذلك تشتري اللاعبين المحترفين لمنتخباتها. و تشتري العلماء للتدريس في جامعاتها.
و تشتري الطائرات المدنية (و الطيارين أيضاً) بالجملة لدعم أسطولها الضخم. 
و تشتري بالمال أهل الإختصاص لكل إختصاص. 

أما عن وضع الإعلام في هذه الأمم فهو المضحك المبكي. 
تغطيتها الإعلامية مكثّفة لأي إنجاز ضخم. و تعتيمها الإعلامي لأي فضيحة أو فساد فيها.

لا تدرك هذه الأمم بأن كاميرات الهواتف النقالة و الانترنت تفضح أي فساد مستور في عصرنا هذا. 
الإعلام في هذه الدول يشابه الأم التي تفرض على أبنائها الإبتسام أمام الكاميرا لإقناع العالم بأن حياتها الأسرية سعيدة. أو الممثل الكوميدي الذي يصفّي كل من لا يضحك على نكاته ليقف أمام جمهوره المرعوب ليضحك على أي نكتة مهما كانت "بايخة".

"علاقتنا بالغرب هي كالعلاقة بين التلميذ و الأستاذ. بينما علاقة العرب بالغرب هي كالعلاقة بين البائع و المشتري".
هذه الحكمة البليغة منسوبة إلى أسد ماليزيا "د. مهاتير محمد" (لا أعلم إن كانت حقاً حكمته).

القصد من هذا المقال أن ظاهر الأمور غير باطنها. و الأشياء ليست كما تبدو. و ليس كل ما يلمع ذهباً.

الأحد، 15 ديسمبر 2013

متميّزون محلّيون

  بين الحين و الأخر ربما نصادف رجلاً كبيراً في السن يفتخر بأنه كان يعرف أحد عظماء عصره. مصطلح "عظماء" أقصد به ناس صنعوا التاريخ بإنجازاتهم. في أغلب الأحيان نجد الكثير من أترابهم في الساحة ، لكن العظيم منهم يبرز عن البقية: إما بموهبة نادرة ، أو موقف بطولي ، أو اختراع ثوري ، أو مبادرة فريدة من نوعها.    

في رأيي المتواضع ، تاريخ كل العظماء يحوي عنصرين رئيسيين:
١. مواجهتهم لعقبات و صعاب من كل الأنواع. بمعنى أن طريقهم لم يكن سهلاً.   
٢. كيف تصرفوا / عالجوا / كافحوا / عاندوا هذه العقبات بتسخير الوسائل المتوفرة لديهم. 

  في أول سنة لي خلال غربتي في إيرلندا،  تعرفت على زميل عزيز أكبر مني سنّاً إسمه "عمّار جعفر". كنتُ مراهقاً مغترباً وحيداً غير معتاد على الحياة دون أهلي. عمّار إعتنى بي في تلك الفترة وكأنني أخاه الأصغر. في شقته (حيث كنا ندرس معاً) كانت هناك صورة شخصية على الرف لطفل يشبه عمّار كثيراً. سألت عمّار "من هذا الطفل؟" فقال لي "هذا أخي الصغير مصطفى".

  بضع سنوات مضت. و لم يبق على تخرجي الكثير. قابلت في شقة عمار فتى يافع يشبه عمّار في نبرة الصوت. قال لي بأنه "مصطفى". مصطفى الطفل الصغير الذي كانت صورته على الرف! أتى إلى دبلن لدراسة الثانوية العامة الإيرلندية. طبعاً كل من درس في الخارج يعرف عقبة دراسة اللغة و تحدياتها. ذلك لأن الإنجليزي الذي درسناه في مدارس الكويت آنذاك يختلف عن الإنجليزي "الفعلي" في المملكة المتحدة و ايرلندا.

  ساعدت مصطفى في تعلّم اللغة. هذا أقل شيء قدمته مقابل مساعدة أخاه لي في بداية غربتي. أبهرني بسرعة إستيعابه للمفردات و القواعد و اكتسابها في زمن قياسي. لتقوية اللغة ، نصحته بالقراءة. كانت كتب علوم البحار تحوز على إهتمامه أكثر من أي كتب أخرى. مرت السنوات. و انشغل كل منا في الحياة و متاعبها. في يوم من الأيام لفت نظري في قناة الراي و مجلة "ليالينا" شخص متميّز. وجهه لم يكن غريب عليّ. إسمه "كبير مدربي الغوص الكابتن مصطفى جعفر".

كبير مدربي الغوص الكابتن مصطفى جعفر

  بعدما تخرجت و توظفت في الكويت ، إلتحقت بالبورد الكويتي للأمراض الباطنية (Internal medicine). في سنتي الأولى بعد تخرجي تعرفت على طالب للطب اسمه "جراح الطبيّخ" من جامعة الكويت. كان يحمل في يده رسومات جميلة. سألته "أنت الذي رسمتها؟" هزّ رأسه بالإيجاب. من يومها أصبحنا أصدقاء تجمعنا هواية الرسم و قراءة القصص المصورة (كوميكس).  

  بعدما تخرج د. جراح ، أراد الإلتحاق ببورد الأشعة في الكويت (Radiology). إيماناً منه بأنه سيجد ضالته المنشودة في هذا التخصص. في تلك الفترة كان قد أسّس لنفسه سمعة طيبة في الوسط الطبي بإحترافه للرسم و توظيفه في عدة مجالات منها التوضيح الطبي (Medical illustration) و رسم القصص المصورة خارج النطاق الطبي أيضاً (أسطورة المرأة الأفعى).

  صُعِقَ في المقابلات الشخصية عندما رفضوه مسئولو البورد دون إبداء الأسباب. هذا أمر عادي في الكويت. فمستشفياتنا تعتمد على العمالة الأجنبية في كل التخصصات. و بالرغم من قلة الأطباء الكويتيين نسبياً و إنخفاض المنافسة ، إلا أن "أصحاب" البورد يقبلون فلان و يرفضون علان حسب أجندتهم الخفية دون معايير واقعية ملموسة.

  "لا يضيع حق وراءه مطالب". هذا ما آمن به صاحبي الذي أوصل شكواه على هذا التعسف إلى أعلى المراكز و حصل على حقه بالإلتحاق بالبورد متأخراً عن دفعته ببضعة أشهر. مسئول البورد المحلي في تلك الفترة أرسل له رسالة فحواها بين السطور "لا تتوقع أنك إذا مشّيت كلامك علينا معناها إحنا بنسكت عنك". بدأ معه بعد ذلك مسلسل التطفيش المشهور جداً في كل الجهات الحكومية.

 وقتها كان باب الإبتعاث لبورد الأشعة في ألمانيا مفتوحاً. انتهز صاحبي الفرصة و سافر إلى ميونخ ليبدأ صفحة جديدة هناك. فماذا كانت النتيجة؟ أصدر كتابين في تخصص الأشعة من دار سبرنغر العالمية للنشر (موقع أمازون ١ ، موقع أمازون ٢). هذا غير مجموعة لا بأس بها من الأوراق العلمية.

 لو كان مقبولاً في بورد الأشعة في الكويت ، هل سيتسنّى له إصدار هذه المؤلفات؟  
بعد إصدار كتابه الأول (Congenital Diseases and Syndromes) قابل د. جراح بالصدفة أحد "الجهابذة" الذين ساهموا في تطفيشه. قال له "سمعنا عن كتابك. بغينا نسخة منه عشان ندرّسه لتلاميذنا". أتوقع لسان حال د. جراح قال حينذاك "تو الناس!".

د. جراح الطبيّخ.
  أحد إخواني كان و لا يزال يذهب إلى "الديوانية" مرة كل أسبوع. و في إحدى المرات عرض علي الذهاب معه. كانت "ديوانية" تختلف في قالبها عن بقية الدواوين الكويتية التقليدية. رواد الديوانية جامعيين تخصصاتهم متشابهة و أعمارهم متقاربة و ثقافتهم كانت بالدرجة الأولى باللغة الإنجليزية. عددهم محدود و يجمعهم كلهم شغف واحد: التكنولوجيا. عرّفني أخي على صاحب الديوانية. إنسان محترم دمث الخلق. أسلوبه في الحديث هاديء متروّي ، يذكرني كثيراً بأسلوب الفلكي الراحل كارل سيغن.

د. محمد قاسم
   صاحب الديوانية كانت له نظرة تختلف عن باقي أصحابه. أراد نشر المعرفة بين الناس الناطقة بالعربية دون الحاجة بالضرورة لتعلم لغة أجنبية. العالم العربي في العلوم ، مقارنة بباقي دول العالم في مؤخرة الركب. و السكوت على الجهل يساهم في تعزيزه. لذلك قرر صاحب الديوانية نشر المعرفة و العلم و التكنولوجيا عن طريق الإنترنت بتأسيس "السايوير بودكاست" الذي لديه الآن آلاف المستمعين من كل أنحاء لعالم. هذا الإنسان هو د. محمد قاسم.    

  عندما كنت طبيباً باطنياً (قبل تخصصي في أمراض القلب)، قابلتُ رجلاً رزيناً متواضعاً في منتصف العمر في العيادة الخارجية للمستشفى. كان متابعاً لأحد أقاربه المرضى. أجريتُ لقريبه اللازم من إجراء الفحوصات و صرف العلاج المطلوب. تابعتُ معه حالة قريبه على مدى الأشهر التالية. كان هذا الرجل دائم الإبتسامة مهما كانت ظروفه صعبة. لحيته البيضاء الخفيفة كانت تخبيء نضالاً قديماً لم أعرفه آنذاك. 

  كنت أتصفح إحدى الجرائد في نهاية الأسبوع. و إذا بي رأيت مقابلة طويلة لأديب كويتي معروف بحملته لتشجيع حب القراءة لدى الأطفال. هذا الأديب له مساهماته أيضاً في السوق ، خصوصاً في مجال القصة القصيرة. اتصلت به فور قراءتي للمقابلة. سألته "لمَ لم تقل لي أنك أديب معروف؟". قال لي " أنت رأيتني على حقيقتي و هذا كافي". هذا الشخص هو الأديب الكويتي وليد المسلم.  



  الإنترنت تحوي سيرة العظماء من كل زمان و مكان. الويكيبيديا بالذات مليئة بقصصهم. و لكنني في هذا المقال اكتفيت بالتعريف عن بعض هؤلاء العظماء من بلدي. حصل لي شرف التعرف عليهم شخصياً. معرفتهم مكسب لي لأنهم غيروا حياتي مثلما غيروا حياة الناس. الفرق بيني و بين الغير ، أنني أقول بكل فخر "إي أعرفه. فلان صاحبي". البعض يساهم في إبراز إسم الكويت في سجل الإنسانية. لكن العظيم منهم يبرز إسم البلد أكثر من غيره.

الاثنين، 2 ديسمبر 2013

انت غلطان

  بيئة عملي تتطلب التعرض للأشعة السينية (أشعة إكس) معظم الوقت. لذلك يستوجب علي ارتداء سترة واقية مبطّنة بالرصاص. هذا بالإضافة إلى استخدام نظارة طبية خاصة تحمي العيون من الإشعاع. في مقر عملي حالياً طلبت مني رئيسة الممرضات قياسات نظري كي يتسنى لهم تفصيل نظارة طبية خاصة لي. طلبوا مني فحصاً لما يسمّى بالبعد بين البؤبؤين (pupillary distance - PD).  

  ذهبتُ إلى محل للنظارات و طلبتُ من أخصائي البصريات إجراء هذا الفحص لي. قال لي أخصائي البصريات في المحل غاضباً "ممنوع بحكم القانون هنا في إقليم كيبيك قياس البعد بين البؤبؤين ، لذلك أطلب منك بأدب الرحيل". تفاجأت من ردة فعله غير المتوقعة والمبالغ فيها. فأنا لم أطلب منه تعليمي كيفية بناء ترسانة نووية مثلاً. كل ما طلبته كان قياس بسيط للعين و ذلك لمصلحة عملي بصفتي طبيب يتعرض للإشعاع يومياً.

  لأنني لا أفهم في علم البصريات ، بحثت في محرك "غوغل" عن ما قاله لي أخصائي البصريات "أبو العرّيف".  اكتشفت خلال دقائق بأن الفحص المطلوب يستغرق من الوقت عشر ثوان فقط. و لا يوجد أي قانون في اقليم كيبيك (بل و في العالم كله) يمنع هذا الفحص. منتديات أخصائيي العيون فضحتهم. وضّحت بصريح العبارة أن الزبائن يجرون هذا الفحص عندهم في محلات النظارات مجاناً و بنتائجه يطلبون نظاراتهم من مواقع الإنترنت لأنها أرخص بكثير. لذلك فرضت بعض المحلات رسوم مقابل إجراء هذا الفحص الذي كان في السابق مجاناً. محلات أخرى تشترط على الزبون شراء النظارات من المحل في حال طلب الفحص. 

القصد من هذه القصة القصيرة
  للأسف حتى يومنا هذا ، الكثير من أصحاب الخبرة و القرار يظنون بأنهم إذا أدلوا بتصريح أو أصدروا قرار ، فلن يكون هناك من يبحث في صحة تصريحاتهم و قراراتهم. طبعاً في الدول القمعية و الأنظمة الاستبدادية على كل المستويات هذا الأمر صحيح و مقبول. لأن "اللي في أمه خير" يعارض "صاحب القرار". هنا يأتي معنى "أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". 


مقطع من مسرحية سيف العرب

  أما في دول المؤسسات و الأنظمة الديمقراطية ، المسئول محاسَب و مفضوح على كل كلمة غبية أو تصريح متخلف أو قرار جائر و متعسّف. في عصر التقنية المتسارعة و الانترنت ، المعلومات متوفرة للجميع و بكبسة زر. و اليوتيوب يصيد زلّة كل لسان. لذلك المسئول المستبد مفضوح للجميع. يا ما شاهدنا القنوات الأمريكية وهي تسخر من الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الإبن الذي كان يفتقر للفصاحة و قوة الإرتجال في تصريحاته.  

في الأوساط العلمية ، اذا استخلص العالِم نتائجه النهائية لبحثه العلمي ، أمطروه زملاؤه بالأسئلة و النقاشات التي تضرب صميم بحثه من الأساس (Peer Review). لذلك العالِم عليه مراجعة طرق بحثه و نتائجه عدة مرات قبل عرضها للعامة ليحفظ على الأقل ماء وجهه. بينما بعض علمائنا "الفطاحل" يطلقون صواريخهم  إحم ، عفواً ، يطلقون تصريحاتهم ، و يظنون بأن أحداً لن يحاسبهم. الانترنت ليست فقط منبعاً للمعلومات المجانية ، و إنما أصبحت أيضاً متنفساً لهؤلاء للأحرار المتهكمين الساخرين الذين كانت أفواههم مكممة قبل بزوغ شمس الانترنت. يستطيعون السخرية من العلماء المتسلطون تحت أسماء مستعارة و هويات وهمية.   

  باللغة الانجليزية كلمة "Authority" تعني "سُلطة" ، و تعني أيضاً "خبير" أو "عالم". ربما أصل التسمية المشتركة هي أن العالِم و السلطة لهما عامل مشترك: الناس تستمع لرأيهم و تمتثل لأوامرهم دون نقاش. سلوك الناس هذا هو جزء من سياسة "القطيع". فالجماعة بطبيعة الحال تشعر بالأمن و الأمان إذا إتبعت الشخص الفاهم. أصدقائي في المسائل الفقهية يقولون "حطها في رأس العالم و تعال سالم" (المقصود بالعالم هنا هو عالم الدين).  

رسالتي لكل "خبير" متجبّر 
١. إذا ظهرتَ  طال عمرك للملأ بهيبتك الإعلامية الجبارة و ألقابك المهنية الرنانة (دكتور / بروفيسور / عقيد / الطفل المعجزة...الخ) و أدليتَ بتصريحاتك النارية. هل تعتقد فعلاً  بأن أحداً لن يبحث في صحة كلامك أو عن مصداقية شهاداتك الدراسية أو خبرتك العلمية و العملية في مجالك؟

٢. عصر "الجدل من منطلق السلطة" (Argument from authority) راح و ولّى إلى غير رجعة.

٣. عبارة "نفّذ أوامري دون أن تقلدني" (Do as I say, not do as I do) ليس لها معنى في عصرنا الحالي.
"القدوة" يفعل و الناس تقلده. شئتَ أم أبيت.

و حتى إذا قرارات هذا المسئول المتجبر تنفّذَت. 
فهو حتماً سينقش اسمه في التاريخ ، مخلداً نفسه بقراراته الغبية غير المدروسة.

الثلاثاء، 26 نوفمبر 2013

المدرسة القديمة

 التقنيات الحديثة في تطوّر مستمر و سريع. التقنية التي يتعلمها جيل اليوم ستصبح قديمة لجيل الغد. لكن التقنية القديمة تهمّشت لسبب وجيه. لأن التقنية الحديثة أثبتت وجودها و أفضليتها من القديمة. نفس الأمر ينطبق على الجيل القديم. لنا كل التقدير و الإحترام للجيل القديم. لكن إذا الجيل القديم لم يحدّث معلوماته و مهاراته و تمسّك بمفاهيمه الغابرة ، سيهمّشه الجيل الجديد عاجلاً أم آجلاً. 

  في اللغة الإنجليزية يُطلَق على الخبير المتمسّك بالمباديء العلمية القديمة مصطلح "المدرسة القديمة" (Old School). التعبير يُستٓخدٓم كإطراء عموماً. ذلك لأن الجيل القديم عادةً يستهزيء بالطرق الحديثة لأنها غير مألوفة لديه. الجيل القديم لا يستوعب بأن العلم "ليس له صاحب". البحث العلمي في تطور مستمر. و الحقائق العلمية المسلّم بها اليوم من الممكن أن تصبح باطلة غداً و العكس صحيح :  المعلومات الباطلة اليوم ربما تثبت صحتها غداً.

  نقطة الجدل هنا أن الغرب أدرك هذه المشكلة خلال العقدين الماضيين فقط. أعني بها مشكلة الجيل القديم الذي يقمع الجيل الجديد. الجيل القديم له أسبابه الخفية و العلنية في شن مثل هذه الحرب. أياً كانت الأسباب ، هذه الحملة ضد "الدماء الجديدة" تستهلك الموارد و تعطّل التنمية و بالتالي  ليست في مصلحة البلد. لذلك الدول الغربية  تهتم الآن بتنمية أفكار و ابداعات الجيل الجديد أكثر من أي وقت مضى. 

  في حال حدوث جريمة ،  الشرطة في العقود السابقة كانت تعتمد في تحقيقها على الإستجواب المباشر و شهود العيان و بصمات الأصابع و الحدس (إحساسي يقول لي بأن فلان متورط في الجريمة). أما الآن ، وسائل التحقيق تطوّرت ، منها البصمة الوراثية بالحمض النووي (DNA)  و الطب الشرعي (Forensic Medicine) و انتشار تقنية كاميرات المراقبة في الأماكن العامة أكثر بكثير من السابق. الأمر الذي استدعى إعادة فتح ملفات التحقيق في جرائم قديمة تمت فيها إدانة أبرياء سُجِنوا لجرائم لم يرتكبوها. و تم إطلاق سراح هؤلاء الذين أثبت الدليل العلمي الحديث براءتهم من الجريمة ، لكن بعد فوات الأوان: بعدما أمضوا زهرة شبابهم في السجون. 

  نفس الوضع في الجراحة. في بعض الحالات الجراحية ، بعض الجراحين القدامى يفضّلون الجراحة المفتوحة على جراحة المناظير. بالرغم من الدليل العلمي الذي يفضل جراحة المناظير التي مضاعفاتها أقل و تعافي المريض منها أسرع و ندباتها الجراحية على الجلد أقل. 

  عشّاق المدرسة القديمة يتمسكون بها و بالسلوكيات المصاحبة لها أيضاً. أساتذة المدرسة القديمة عاشوا شبابهم في حقبة لم يكن فيها التعليم النظامي و التخصصي متوفراً و بسهولة للجميع كما هو الآن. لم تكن هناك هواتف نقالة أو انترنت. كان التعليم محصوراً  لفئة محدودة و رفيعة من الناس. الأمر الذي جعل المتعلّم (و المختص) في تلك الفترة له مكانة مرموقة و إمتيازات خاصة و معاملة مختلفة.  رأي المتعلم في أي موضوع كان حاسماً غير قابل للمناقشة أو الدحض. فلم يكن غريباً على المتعلم في تلك الأيام "نفش ريشه" على الغير. ألقاب مثل "دكتور" أو "بروفيسور" أو "مهندس" أو "محامي" كان لها وقعها على الأذن في فترة كانت أعلى شهادة دراسية عند أغلب الناس هي الثانوية العامة.

"سلوكيات" المدرسة القديمة من الممكن تلخيصها في النقاط التالية:
١. إزدواجية المعايير منهج حياة.
٢. مبدأ "القيادة بالقدوة" مرفوض. 
٣. الإهتمام بالمظهر أهم من الإهتمام بالجوهر.
 ٤. العبقري الأجنبي دائماً أفضل من العبقري المحلّي.
٥. الصورة الإعلامية للعامة يجب أن لا تعكس الواقع.
٦. إختيار رئيس البحث العلمي يتم حسب شروط معيّنة ، " الأقدمية" أهمّها ، و "الكفاءة" ليست منها. 
٧. الكبير كلمته مسموعة حتى لو كان غبياً. و الصغير كلمته مقموعة حتى لو كان عبقرياً.   
٨. الكبير يفهم في كل شيء. حتى في الأمور الخارجة عن اختصاصه (الجدل من منطلق السّلطة).
٩. الإعتماد على العاطفة و الأحاسيس و المعتقدات الشخصية و المنطق في اتخاذ القرار ، بدلاً من التجربة العلمية. 
١٠. يبقى الحال العام على ما هو عليه. القديم مقبول و الجديد مرفوض. واللي مش عاجبه يخبط راسه في الحيط!

ما هو العامل المشترك لكل سلوكيات المدرسة القديمة المذكورة أعلاه؟
سلوكيات المدرسة القديمة تشير إلى النفس البشرية "الأمّارة بالسوء". بمعنى أن الإنسان بطبيعته غالباً ما يميل إلى الفساد في قراراته لخدمة مصالحه  الشخصية ، ما لم يضع لنفسه ضوابط تردعه. و بالضوابط هنا أعني استراتيجيات البحث العلمي التي تأسّست عليها المدرسة الحديثة. أما عن سلوكيات المدرسة الحديثة فإنها عمداً تناقض كل سلوكيات المدرسة القديمة

في عالمنا العربي قبل عدة عقود ، كانت المدرسة القديمة البديل الأمثل للجهل و الأمّية و لأسباب واضحة. أما الآن ، المدرسة الحديثة بالرغم من انتشارها صورياً ، إلا أنها عاجزة عن تطوير واقعنا العربي و لسببين أساسيين:

١. أتباع المدرسة القديمة متمسكون بمناصبهم بالنواجذ و يقمعون الدماء الجديدة الناهضة.

٢. أتباع المدرسة الحديثة من جيلنا الحالي متمسكون بسلوكيات المدرسة القديمة (ما طاح ، إلا انبطح)! 

بوجود هاذين السببين ، لن ترقى الجامعات العربية إلى مستوى نظيراتها من الجامعات الغربية. و بالتالي سنظل نحتاج لإبتعاث أبنائنا و بناتنا للدراسة في الخارج و في كل التخصصات ، لا سيما الطب. صحيح أن مباني جامعاتنا آية في الجمال المعماري الحديث (خصوصاً في دول الخليج العربية) ، إلا أن العقول التي تدير هذه الصروح التعليمية لا تزال تعبد المدرسة القديمة من أيام العصر البرونزي ، وتبرمج تلاميذها عليها.  

الأحد، 24 نوفمبر 2013

خلك موهوب

في أحيان كثيرة عندما أدرّس أساسيات أمراض القلب لطلبة الطب أو الأطباء المقيمين ، يصفونني بأنني "ذكي" أو "متميّز".

و عندما أنكر هذه الصفات يصفونني بالمتواضع. المسألة أصلاً لا علاقة لها بالتواضع. الأمر الذي أوحى لي كتابة هذا المقال البسيط لأوضح وجهة نظر مهمة ربما تفيد البعض. لا سيما زملائي الأطباء في بداية مشوارهم المهني. ما سأشرحه لا يقال في قاعة المحاضرات. لكنه واقعي حتى النخاع. ربما أكثر ما يميّز الإنسان عن بقية المخلوقات رغبته في تطوير نفسه. والتطوير بالضرورة يعني تعليم الغير.

إذا أردتَ أن تجعل لحياتك معنى و رغبتَ في العلم ، ضع في بالك ثلاث أسئلة أساسية. 

السؤال الأول: من الذي يحدد مستواك و يقرر مصيرك؟

 لا يعتمد التلميذ المجتهد على أستاذه "القدوة" في اكتساب المعلومات فحسب. و إنما يهتم أيضاً لرأيه و تقييمه (بالإنجليزية feedback). فإذا قيّم المدرس تلميذه بعبارة "إبقى قابلني إزا فلحت"، ربما هذا التقييم سيؤثر على أداء الطالب في المستقبل سلبياً. 

أطلق علماء النفس على هذا التأثير مصطلح "النبوءة المحققة لذاتها" (self-fulfilling prophecy).

فإذا كان "القدوة" ذو وزن و قيمة في حياة التلميذ ، سيطبق هذا التلميذ لا إرادياً ما يتنبأ به هذا القدوة. 

لنربط الآن حقيقتين مهمتين معاً
الحقيقة الأولى: النبوءة المحققة لذاتها.

الحقيقة الثانية: البشر لا يعلمون الغيب و غير معصومين عن الخطأ. 

من الوارد جداً للقدوة  أن يكون مخطئاً في رأيه أو حكمه أو تقييمه لأداء تلميذه. هذه الإحتمالية تزداد إذا كان المدرّس لديه أصلاً تحفظات مسبقة ضد هذا التلميذ. الجانب الإيجابي لهذا الربط يفسح للتلميذ المجال لتحديد مصيره بنفسه و تكذيب "نبوءات" قدوته و ربما التفوق على أستاذه أيضاً في يوم ما.  

  في البرامج الفنية لإستعراض المغنيين المغمورين مثل "أميريكان آيدول" أو "إكس فاكتور" و ما شابهها من البرامج في اللغات الأخرى (منها اللغة العربية) تبحث عن المواهب الدفينة. لجنة التحكيم فيها تتكون عادة من ثلاث إلى أربع فنّانين مشهورين. يُشتَرط في أحدهم أن يكون وقحاً و كلامه "سم في البدن".

يستمتع و يتفنن هذا الحَكَم الوقح  في شتم و تهزيء المتسابقين الذين يفتقرون للموهبة. و يكتفي بإبتسامة فقط للموهوبين منهم (داق الثقل). فإذا كان هناك فرضاً متسابق موهوب فعلاً و لكنه لم يفز في هذا البرنامج ، فهل معناها  أن رأي لجنة التحكيم فيه كان صائباً؟ المسخرة في الموضوع أن أعضاء لجنة التحكيم أنفسهم ربما يفتقرون للموهبة. حصلوا على نصيبهم من الشهرة في الوسط الفني بوسائل أخرى غير الموهبة مثل الحظ والأقدمية و المحسوبية وغياب المنافسين في زمانهم. 

في الأوساط العلمية ، تحليل و نقاش و نقض تصريحات "القدوة" يشكّل حجر أساس البحث العلمي. و الحال لا يختلف في هذا السياق عن النجاح الشخصي و تحقيق الذات. 

السؤال الثانيأين المدرّس الممتاز؟

 عندما تخرجت من بورد الأمراض الباطنية ، أبلغتُ رئيس القسم في أحد المستشفيات الحكومية رغبتي في التخصص بأمراض القلب و  العمل في وحدة العناية القلبية (CCU) كمرحلة انتقالية قبل الإلتحاق ببرنامج زمالة أمراض القلب. قال لي "إزا كنت عايز تشتغل في وحدة السي سي يو لازم تبدأ من الصفر لأنك ما تعرفش حاجة في الألب".

  مستواي في أمراض القلب في تلك الفترة فعلاً لم يكن عالياً. لكن رئيس القسم آنذاك كان مشهوراً بتفاديه المتعمّد لتدريب أطباء البورد. و لأنه لم يذكر أسباب رفضه تدريبنا. وقع  استنتاج الأسباب على عاتقنا نحن المتدربون. المضحك المبكي في الموضوع أن هذا الإستشاري نفسه كان دائم التذمر من تدني المستوى التعليمي للأطباء المتدربين. سؤالي له: كيف تتذمر من مشكلة أنت سبباً أساسياً فيها؟ علّمني أسرار الصنعة ثم إنتقدني. لا تنتقدني قبل أن تعلمني.

مع العلم ان رئيس القسم نفسه ترقّى بشهادة عضوية الكلية الملكية البريطانية (MRCP) والتي يحصل عليها الطبيب عادةً  بالدراسة المنزلية دون تدريب مهني منظّم ومقنن. شهادة العضوية البريطانية هذه بحد ذاتها لا قيمة لها في بريطانيا حالياً. إذ أن المملكة المتحدة لديها برامجها التدريبية المهنية المكثفة المعتمدة الخاصة بها و تسمى "CSST".  

سافرت إلى المملكة العربية السعودية و التحقت ببرنامج الزمالة التخصصية لأمراض القلب للكبار (adult cardiology). و من حسن حظي أصبحت تلميذاً لأروع أستاذ لأمراض القلب: د. بهاء فاضل. 

علّمني د. فاضل التخصص على أصوله بطريقة مبسّطة أشك في قدرة الكثير على مضاهاتها. المدرس الممتاز لا يبسط المعلومة فحسب ، بل و يعمل على صقل المواهب الدفينة لدى تلاميذه. ليستوعب كل تلميذ المعلومة على طريقته الخاصة. كل تلميذ لديه مواهب دفينة تحتاج لمن يصقلها.

قال فلاسفة الشرق الأقصى منذ القدم "لا يوجد هناك طالب سيء. فقط هناك مدرس سيء"
 There is no such thing as a bad student, only a bad teacher


د. بدر المهدي (يمين): جائزة أفضل طبيب زمالة لأمراض القلب لسنة ٢٠١٢
د. بهاء فاضل (يسار) جائزة أفضل مدرس لزمالة أمراض القلب لسنة ٢٠١٢

السؤال الثالثالتكرار يعلم الشطّار

  ربما المعنى الموازي لهذا المثل في الإنجليزية هو "الممارسة سر الإتقان" (Practice makes perfect).

تعلّم مهارة جديدة أو علم جديد ربما يكون صعباً في بدايته. لكن الصعوبة تتلاشى تدريجياً بممارسة تلك المهارة. إلى مرحلة عندما تُمارَس المهارة تلقائياً دون تفكير واعٍ. لذلك الجراح الذي يمارس الجراحة منذ ثلاثين سنة مثلاً أبرَع من الطبيب المتدرب سنة أولى في بورد الجراحة.

القكرة من تكرار دراسة نفس المعلومة أو ممارسة نفس المهارة بأن التكرار يُظهِر "نَمطاً" معيّناً (pattern) في سيل المعلومات. التعرف على هذا النمط يسهّل استيعاب المعلومة. 

- في المرحلة المتوسطة (على أيامنا) تعلم اللغة الانجليزية للمرة الأولى كان صعباً جداً بالنسبة لي.

- في كلية الطب قيل لي بأن الدراسة صعبة لأنها باللغة الانجليزية ، و مطلوب مني حفظ اسم كل عظمة و عضلة و عصب و عضو في جسم الإنسان في مادة التشريح (anatomy). 

العبقرية تكمن في اكتساب المعلومات في زمن قياسي.
مثلاً بعض الأطفال الذين يتخرجون من الجامعة بشهادات الماجستير و الدكتوراه قبل سن البلوغ.

العبقرية تكمن في إبتكار مفاهيم علمية ثورية جديدة. 
مثلاً أينشتاين و نظريته النسبية.

العبقرية تكمن في في إتقان مهارة معينة دون تدريب مسبق. 
مثلاً موزارت (Mozart) و عزفه على الآلات الموسيقية.

أما الإنسان الذي يقرر مصيره بنفسه.
و يتحدّى آراء النقّاد الراغبين في إحباطه مهما كانت أسبابهم.
و يتتلمذ على يد أفضل الأساتذة في مجاله.
و يصقل معلوماته و يتقن مهاراته بالتدريب المستمر.
ربما صفاته الحميدة كثيرة. لكن "العبقرية" ليست منها. 

الأحد، 10 نوفمبر 2013

العينة المحفوظة


  يبحث علم الأحافير عن كائنات حية سادت ثم بادت. المميز في البعض منها أنها بقيت محفوظة بين طبقات الأرض و لم تتحلّل. ربما أشهرها الحيوان الشبيه بالفيل المسمى "الماموث". حيوانات الماموث عندما انقرضت حُفِظَت في الجليد بكامل لحمها و عظمها و شعرها ولم تتحلل. هنا يأتي التشبيه بالعينة المحفوظة (The preserved specimen).

 يتغرب المواطن العربي في لطلب الرزق أو العلم. ليجد ضالته المنشودة في دول الغرب. لكن الحياة في الغرب غير محصورة فقط في طلب العلم. إذ تسنح الفرصة للمغترب لإكتساب صفات فكرية غربية ربما تحتاجها العقلية العربية (و تحتاجها بشدة) منها للمثال  التواضع و المساواة و الشغف في العمل و روح الفريق والتعددية العرقية. 

 من ما لاحظته من إحتكاكي ببعض العرب في الغربة بأنهم يحرصون (بشكل إرادي أو عفوي) للإحتفاظ بعقليتهم العربية والتفاني في الدفاع عنها مهما كان الثمن و مهما طال الزمن. منهم من يعيش في الغرب لسنوات طويلة دون ممارسة لغة أهل البلد الذي أمضى أحلى سنوات عمره فيه و تخرج منه. قابلت بعض العرب المقيمين هنا في إقليم "كيبيك" الناطق باللغة الفرنسية منذ سنوات و لا يتحدثون اللغة الفرنسية إطلاقاً !

هذا الانسان العربي المغترب بشكل عام. لنرَ الآن الرجل الخليجي بشكل خاص. الخليجي في بلده يتسم ببعض أو كل السمات الآتية:

١. نشاطه البدني يتضاءل تدريجياً كلما كبر في السن.
ليصل إلى أدنى مستوياته بعد الزواج. لذلك يفضّل قضاء حوائجه بالسيارة حتى لو كانت مشاويره قريبة. 
بالنسبة له الرز (بالكويتي: العيش) هو عصب الحياة.
و الكرش رمز النعمة و الخير.

٢. المساواة مرفوضة بأي شكل من الأشكال وعلى كل المستويات.
فالكبير في السن أفضل من اليافع.
و الذكَر أفضل من الأنثى.
و الحُر أفضل من العبد.
و العربي أفضل من الأجنبي.
و قبيلته/عائلته أفضل من القبائل/العوائل الأخرى.
حتى بين أبناء قبيلته/عائلته أنفسهم ، ابن المرأة العربية أفضل من ابن المرأة الأجنبية.
و إبن الحرّة أفضل من إبن العبدة/الخادمة. (في الحوار الدارج ، الإبن المنبوذ بين اخوته يصف نفسه مجازاً على أنه "إبن العبدة").
و البشرة البيضاء أفضل من البشرة البنية أو الصفراء أو السوداء.
هذا غير الطائفية ، فأتباع مذهبه أفضل عنده من أتباع المذاهب الأخرى. 

٣. المظهر الخارجي أهم بكثير من الجوهر.
لا ضير هنا في تطوير الجوهر ، ولكن المظهر الخارجي له الأولوية دائماً.
و بالمظهر لا أعني به حسن الهندام فحسب ، وإنما بالهيبة و الكاريزما و الحضور و اللقب (دكتور/بروفيسور/صاحب المعالي..الخ). 

٤. حب القوة بحد ذاتها و احترامها من سمات العرب.
بغض النظر عن ما إذا كانت خيّرة أو شريرة. فالقوي محبوب لأنه مهيمن ، لا يجرؤ أحد على عراكه أو مساومته أو نقاشه. بينما الطيّب منبوذ لأنه "ضعيف" لا يحب المشاكل ولا يفضّل جذب العداوات. ربما هذا السبب الرئيسي لوجود العديد من محبي المقبور صدام حسين في العالم العربي إلى يومنا هذا
 
٥. الخليجي يؤمن بالميتافيزيائيات والخرافات والسحر و بشدّة.
لذلك يقضي كل حوائجه بالكتمان الشديد.
زوجته تحبل و تلد بالسر. و يترقى في عمله بالسر. كل ذلك خوفاً من الحسد.
أما إذا نزلت عليه مصيبة ، مهما كان حجمها ، فسببها بالتأكيد "عين ما صلّت على النبي".
أما إذا حصل خلاف بينه و بين أهله ، أو كان مزاجه متعكراً في يوم من الأيام ، أو كان جسده واهناً ، فذلك بالتأكيد بسبب "سحر".
و إذا كان يحب زوجته و يعشقها ولا يستطيع العيش بدونها ، فذلك بالتأكيد لأنها إستعانت بساحر ليعمل لها "عمل" تربطه به.     


يسافر الخليجي الى دول الغرب بهذه العقلية "الفريدة من نوعها" ، ليجد نفسه في عالم غريب عليه ، كأنه "ألِيس في بلاد العجائب" (Alice in Wonderland). يجد نفسه بين ناس متعددة الأعراق و الألوان و الأديان. يجمعها عامل المصالح المشتركة فقط. الغرب سئم من العقلية السطحية التافهة التي تستنزف طاقة الناس دون جدوى. حتى لو كانت رواسبها لا تزال تحت السطح.

يلاحظ الطالب الخليجي في "بلاد العجائب" رئيسه "البروفيسور جوزيف" (الكل يناديه "جو" Joe) يذهب الى الجامعة مبكراً قبل كل الطلبة كل يوم. مرتدياً ملابس متواضعة (كاجوال Casual). عندما يلقي "جو" محاضراته ، يبدأ كل درس بعبارة "ربما أكون مخطئاً ، ولكن...". الجدير بالذكر هنا أن "جو" من أصل أوروبي أبيض البشرة أزرق العينين. و زوجته سمراء عيونها مسحوبة ، أصولها كورية/هندية.  

ينبهر هذا الخليجي أكثر عندما يتمشى في الشارع في الصباح الباكر ليرى رجالاً و نساء أعمارهم فوق الستين سنة يهرولون يومياً.

في البقالات ، أسعار السجائر مبالغ فيها. و السن القانوني الأدنى للتدخين ٢٥ سنة. الأماكن العامة و الخاصة التي تسمح بالتدخين قليلة.    

في أي مكان مزدحم بالزبائن (مثلاً شباك التذاكر / الكاشير في الأسواق) الناس تقف تلقائياً منتظمة في طوابير. دون الحاجة لرجل أمن أو مسئول لتنظيم وتقنين هذه الطوابير. الغربيون تعلّموا بالتجربة أن الكل سيحصل على ما يريده بالتنظيم.

و بالرغم من معايشة هذه "العجائب" لسنوات طويلة ، يتخرج صاحبنا العربي أبو العناتر ليرجع الى الخليج مرفوع الرأس. مصطحباً معه "درزن" من الشهادات اللامعة في إطارات ذهبية. يعلقها في مكتبه للتباهي ونفش الريش. بينما عقليته "عينة محفوظة" هي نفسها لم تتغير أبداً.

- كرشه يمتد أمامه كأنه إمرأة حامل في شهرها التاسع. لأن الكرش رمز النعمة.

- آخر من يداوم و أول من يرجع بيته. 

- لا يرضى أن يناديه أحد بإسمه دون ألقاب (دكتور / بروفيسور .. الخ). 

- يرتدي أفخر الملابس دائماً في كل الأوقات ، كأنه سفير في مهمة دبلوماسية أو "جيمس بوند"!

- لا يزال ينظر إلى "كومار الهندي" على أنه دون البشر ، حتى لو كان "كومار" هذا مليونيراً أو عالِماً.

- لا يزال ينظر إلى المرأة على أنها مخلوقة فقط لخدمة الرجل. حتى لو كانت هذه المرأة أمه و أخته و إبنته.

- لا يزال ينتفض خائفاً عند سماع حديثاً عن الجن و العفاريت ، مردداً بعد انتفاضته عبارة "سكّنهم بمساكنهم".

- لا يزال يعظّم القوي فقط لأنه قوي. حتى لو كان هذا القوي ديكتاتور طاغية مجرم. يترحّم مثلاً على صدام حسين لأنه قتل "الشيعة المجوس" و يعشق هتلر لأنه حرق "اليهود أحفاد القردة و الخنازير". 

أحيّيك يا ابن الصحراء.
في النهاية لا فرق بينك و بين ابن بلدك الذي لم يتغرّب. 


خلك بائس

"عائلة البائس" تعود تسميتها قبل مائتي سنة إلى جدها "البائس الأول". لقّبَت الأسرة بذلك لفقر جدهم الشديد الذي ورّثه لأبنائه ، ليصبح "البائس" لقبهم الدائم جيلاً تلو الآخر. بسبب الفاقة ، كانت الخدمة في البيوت هي الحل الوحيد المتوفر لأبناء "البائس" في تلك الفترة. 

  وجدوا أبناء "البائس" الستر عندما خدموا جيرانهم من بيت "المعزّب" ولأجيال عدة. بعكس عائلة "البائس" ، كانت "المعزّب" عائلة تجّار أباً عن جد. أموالهم طائلة بسبب تجارتهم الرابحة المتشعبة في كل مجال منذ القِدَم. إبن "المعزّب" كان يولَد و في فمه ملعقة من ذهب ، يحملها له دائماً خادمه الأمين ابن البائس. 

  أبناء "البائس" كانوا يخجلون من لقب عائلتهم و لأسباب واضحة. كان الفرد منهم يعرّف نفسه للغير على أنه فلان بن علّان فقط ، دون ذكر اسم العائلة. وصلت المرحلة عند البعض بحذف إسم "البائس" من جواز سفرهم و بطاقة هويتهم الشخصية. وبالرغم من كل هذا   التضليل و الاختباء، إلا أن أبناء "الفريج الواحد" كانوا يعرفون من هم البؤساء و من هم المعازيب. عوائل الفريج كانت لا تناسب البؤساء لفقرهم. لذلك كان البؤساء يضطرون عادة للزواج من الخارج. 

  قبل بضع سنوات ، ظهر في عائلة البائس شاباً قصير القامة ضئيل البنية يدعى "حنظل".
حنظل كان يعمل فرّاشاً في شركة تنظيف تملكها عائلة "المعزّب". بالرغم من ساعات عمله الطويلة و المتعبة ، إلا أنه أصرّ على إكمال تعليمه في المدارس المسائية. و بعد فترة قياسية ، تخرج حنظل و حصل على شهادة البكالوريوس من كلية إدارة الأعمال و بإمتياز. بسبب مؤهله الجامعي و نشاطه و إبداعه في العمل ، رقته إدارة الشركة إلى رئيس الفراشين. و مع مرور الوقت و لفته لأنظار المسئولين بإبتكاراته في الإدارة ، صعد حنظل تدريجياً على سلم الترقيات إلى أن انتهى به الأمر بتنصيبه مديراً عاماً لشركة "المعزّب" لخدمات التنظيف. 

  عصفت أزمة اقتصادية حادة بعائلة "المعزب" ، ذلك لأن الجيل الجديد من العائلة بطر بالنعمة و بذّرها على الشهوات و النزوات. مستنزفين في ذلك الثروة التي كافح أسلافهم في تجميعها. وقتها عرض "المدير حنظل البائس" على أبناء المعزب شراء الشركة منهم و بثمن زهيد نسبياً. كان توقيت حنظل بمثابة الطرقة القوية على الحديد أحمر الحرارة. ذلك بسبب الهبوط الحاد لأسهم شركات "المعزب" في البورصة في تلك الفترة. وافق على إثرها أبناء المعزب دون مساومة. و أضحى حنظل البائس ، الفقير سليل الخَدَم ، صاحباً لأكبر شركة لخدمات التنظيف. 

  تحسنت أمور الشركة من صفقة تجارية إلى أخرى. بدأت "شركة البائس للتنظيف" (شركة المعزب سابقاً) بالنمو السريع و التشعّب للإستثمار في مجالات أخرى غير خدمات التنظيف. زادت أملاك "المليونير" حنظل ، الذي بنى بعد ذلك ديوان ضخم للعائلة ، كتب على واجهته و بالخط العريض "ديوان البؤساء". الديوان كان ملتقى أبناء البائس في الأعياد و المناسبات و الأفراح. أغلب أبناء البائس تركوا الخدمة في منازل "المعازيب" و حصلوا على وظائف في شركات حنظل التي انتشرت في كل أرجاء البلاد.  

سبحان مغير الأحوال...
صارت عوائل الفريج الواحد تتشرف بمصاهرة عائلة البائس.
هناك من الغرباء في البلد من نَسَب نفسه لعائلة البائس دون إذنهم.
وصلت المرحلة إلى نسب بعض الأجانب من الدول المجاورة أنفسهم لعائلة البائس.
كان تعليلهم في ذلك "نحن ننحدر أصلاً من البؤساء ، و لكن جدنا هاجر إلى قلعة وادرين لطلب لقمة العيش و استقر هناك!!!".

في الجانب الآخر من الفريج ، أبناء المعزب أصبحوا على عتبة الفقر. بالكاد يوفرون قوت يومهم.
و لكنهم بالرغم من حالتهم المادية الصعبة إلا أن هندامهم لم يتغير. و سياراتهم الفارهة لم تتبدل.
ظلوا مرفوعين الرأس. إذ كانوا يفضلون البطالة و الموت جوعاً على طلب وظيفة في إحدى شركات البائس.
و ظلّوا يردّدون لكل من زارهم 

"البؤساء كانوا خدماً عندنا ، و سيبقون كذلك. حتى لو ملكوا الدنيا و ما فيها. فالبائس بائس و المعزّب معزّب مهما كانت الظروف".

إلا أن الحسرة كانت تحرقهم من الداخل.
فمهما كانوا بارعين في تمثيلهم ، إلا أن لغة جسدهم كانت أحياناً تفضحهم. 

هنا يأتي سؤال الفلاسفة الأزلي: أيهما أتى أولاً. البيضة أو الدجاجة؟

هذه القصة القصيرة الخيالية تطرح سؤالاً مشابهاً لسؤال الفلاسفة:  
هل الفرد يبرز اسم العائلة؟ أو اسم العائلة يبرز الفرد؟

في الحياة الأكاديمية هناك العديد من الأمثلة المشابهة لأفراد تربويون. بجهودهم و عبقريتهم حوّلوا المدارس الفاشلة إلى مدارس عباقرة. في الحياة السياسية أيضاً هناك قادة حوّلوا مدنهم و دولهم من معاقل للجريمة إلى جنّات.

السؤال هنا: كم منّا لديه ميول "حنظلية"؟ و كم واحد منا يفضل أن يبقى معزّباً؟

تنويه: أسماء كل العوائل والأفراد في هذه القصة القصيرة من نسج خيال المؤلف. 
أي تشابه بينها و بين الواقع هو من محض الصدفة البحتة. 

الأربعاء، 6 نوفمبر 2013

برمجتنا واحدة !

  كلما استنكرنا ظاهرة سلبية في مجتمعنا ، ضربنا المثل بالدول المتقدمة و "صرّحنا" بأن هذه الظاهرة تحدث هنا و لكنها لا تحدث هناك. في رأيي المتواضع ، إذا تراجعنا خطوتان إلى الوراء و رأينا الصورة الكاملة ربما سنلاحظ بأننا نحن بني آدم كلنا طباعنا و سلوكياتنا متشابهة. و نقاط تشابهنا أكثر بكثير من نقاط إختلافنا. بمعنى آخر ، كلنا لنا "سوفت-وير" واحد و برمجة واحدة.  

  نظرتنا للغرب على أنهم ناس متحضرون و تقنيتهم متقدمة جداً و عقلياتهم راقية و أخلاقهم عالية و يحترمون حقوق الإنسان ، بعكس دول العالم الثالث. جزء كبير من هذا الكلام صحيح. لكن هناك وجه آخر للغرب ربما لا يعرفه الكثير من الناس ، لا سيما العرب منهم. حبنا أو احترامنا للغرب و انجازاته ربما يعمي أعيننا عن بعض الحقائق الذي يتشابه فيها معنا و هذا أمر طبيعي. كما قال الشاعر...

عين الرضا عن كل عيب كليلة   و لكن عين السخط تبدي المساويء

في هذا المقال سأطرح ثلاث نقاط فقط (للمثال لا الحصر) نتشابه فيها مع الغرب. أنا أعنى هنا دول الغرب خلال العقود الثلاثة الماضية حتى يومنا هذا. أوروبا في عصور الظلام و خصوصا حقبة الإستجواب في أسبانيا (The Inquisition) تاريخها "سواد وجه" و موثق في الكتب و الإنترنت.  ربما ستلاحظ بأن الغرب - في بعض الأمور - ربما لا يختلف كثيراً عن العرب.

١. الناس تستجيب للحوافز
  كتاب "فريكونوميكس" (Freakonomics) ، من تأليف ستيفن ليڤيت و ستيفن دوبنر ، طرح نقطة مهمة جداً في سلوك البشر: الناس تستجيب للحوافز. هذه الحقيقة مؤلمة خصوصاً إذا تضاربت مع المثاليات. فليس غريباً على الطبيب الذي يعمل لساعات طويلة براتب زهيد إن كان كسولاً يتهرب من العمل. و المشكلة تتفاقم إذا كان المرتب موحداً للنشيط و الكسول على حد سواء. في هذه الحالة حتى الطبيب النشيط سيصاب بالإحباط عاجلاً أم آجلاً.   

هذا هو السبب الرئيسي لتوجه الأطباء في الكويت إلى القطاع الخاص. ففي النهاية الطبيب مجرد إنسان يحتاج المال لتسديد الفواتير و توفير العيش الكريم لأسرته و شراء سكن حاله حال غيره. التفاني و الشغف في العمل مقابل "ملاليم" لا يكفي.  

في كندا عولِجَت هذه المشكلة بنظام الفواتير للأطباء (Billing). فالجرّاح مثلاً بعد إجرائه للعملية الجراحية في المستشفيات العامة ، يرسل فاتورة أتعابه للجهات المعنية للدولة ليحصل على أجرته. في هذه الحالة يعتمد دخل الطبيب على كمية عمله. فهل تحققت "العدالة" للطبيب هنا؟ نعم و لا.

"نعم" لأن التعويض المادي بالطبع منصف للطبيب. و "لا" لأن بعض الأطباء المخضرمين القدامى بدؤوا يحاربون الدماء الجديدة، ذلك لأن الجيل الجديد حتماً سيقاسمهم"الكعكة". هذه الظاهرة برزت في تخصص جراحة القلب. فبالرغم من أن توفر الحاجة لجراحين القلب في كندا ، إلا أن عدد الوظائف المتوفرة لهم محدود جداً. لأن جراحين القلب القدامى لا يريدون من أحد جديد أن "يناشبهم في رزقهم".

هذا الرابط يشرح المشكلة بالتفصيل. 
http://www.royalcollege.ca/portal/page/portal/rc/common/documents/advocacy/hhr_attachment6_e.pdf 


٢. الإعتزاز بالهوية و تعصب الناس الأعمى لها. 
  ظاهرة التعصب الأعمى في الدول العربية للجماعة (على أساس الجنس أو الأصل أو الدين أو المذهب …الخ) متفشّية. و نحن نظن بأن الغرب تغلب على هذه المشكلة بالكامل.

في العمل لدي زميل كندي ، من مواليد كندا و عاش حياته كلها في مونتريال. و لكن لغته الإنجليزية ضعيفة و لغته الفرنسية أضعف! سألته: ما هي لغتك الأم؟ فقال لي: لغتي الأم الإيطالية. والداي هاجرا إلى مونتريال (في الإقليم الفرنسي من كندا) منذ ثلاثين عاماً. و كما كانت الأغلبية الإنجليزية في كندا تضطهد الأقلية الفرنسية ، كانت الأقلية الفرنسية بدورها تضطهد الأقلية الإيطالية (الكل يستعرض عضلاته على من هو أضعف منه). لذلك والداي رفضا مخاطبتي بالإنجليزية أو الفرنسية. ترعرتُ في بيت ينطق الإيطالية فقط. 

المستشفى اليهودي العام في مونتريال 
تأسس إقليم "كيبيك" الفرنسي في كندا أصلاً على يد الفرنسيين الكاثوليك المهاجرين. لذلك موقفهم من المهاجرين اليهود ا(لأقلية) لم يكن جيداً و لأسباب واضحة. فكان المريض اليهودي لا يحصل على نفس العناية الطبية التي يحصل عليها المريض المسيحي. و الطبيب اليهودي الكندي لا يُمنَح فرصة التدريب الإكلينيكي في المستشفيات كبقية زملائه الكنديين المسيحيين.

لذلك قرر أغنياء اليهود بناء مستشفى متكامل لتدريب أبناء جماعتهم. على شرط أن يكون هذا المستشفى مفتوحاً لعلاج كل المرضى دون تمييز أو استثناء ، و مفتوحاً أيضاً لتدريب كل الأطباء من كل الجنسيات و الديانات دون استثناء. المستشفى اليهودي العام مشهور إلى يومنا هذا بجودة تدريبه العالية للأطباء و خدماته الطبية المتكاملة لكل المرضى دون تمييز.

٣. متمردين اليوم ، أبطال الغد: الناس تكره التغيير و تقاومه.
  المسيح (ع) حاربته امبراطورية الروم. بعد ذلك أصبحت المسيحية الدين الرسمي للروم. قريش حاربت الرسول (ص). أصبح الإسلام الدين الرسمي لقريش و كل الجزيرة العربية بعد ذلك. الناس كانت و لا زالت و ستظل تقاوم التغيير. لا سيما التغيير الجذري السريع. و الكل لديه أسبابه. و كما ذكرت في السببين أعلاه ، محاربة التغيير أسبابه ربما التعصب و الحوافز. 

 سأضرب المثل في قسطرة القلب لأنها في مجال عملي.
الأمريكان يتميزون عن غيرهم من دول الغرب بقوتهم في  الإعلام و التسويق.
لذلك يظن الحميع بأن الأمريكان هم الأفضل في كل المجالات.   

  في مجال القسطرة القلبية ، يتم تشخيص و معالجة بعض أمراض القلب بالقساطر. القساطر هي أنابيب يتم إدخالها في شريان الفخذ (Femoral artery) و من ثم تمديدها لوضعها داخل القلب. لسنوات طويلة في كل دول العالم (بقيادة الأمريكان) كانت القسطرة القلبية عن طريق شريان الفخذ (Femoral approach) هي الطريقة المعتمدة. 

شريان الفخذ موقعه حساس ، لأنه يمر بجانب مناطق حيوية حساسة (بين الأعضاء التناسلية و البطن) و بجانبه مباشرة تمر أعصاب الفخذ أيضاً. لذلك المضاعفات المحتملة المصاحبة لقسطرة القلب عن طريق الفخذ كثيرة. أخطرها النزيف الداخلي (داخل البطن) الذي قد يهدد حياة المريض. هذا غير أن المريض عليه أن لا يتحرك من السرير لمدة ست ساعات على الأقل بعد انتهاء القسطرة. و بسبب الحجم الكبير لشريان الفخذ ، هناك تقنيات مبتكرة (لكنها مكلفة) لإغلاق فتحة شريان الفخذ بعد انتهاء القسطرة (Perclose/Angioseal).  

  في الثمانينات من القرن الماضي ،ابتكر الطبيب الفرنسي الكندي "لوسين كامبو" (Lucien Campeau) اسلوب ثوري جديد. ألا و هو القسطرة القلبية عن طريق شريان اليد (الشريان الكعبري Radial artery). بعكس شريان الفخذ ، شريان اليد لا توجد حوله أعضاء حساسة أو أعصاب. و لأن شريان اليد صغير ، لا حاجة لتقنيات خاصة مكلفة لإغلاقه (ضمادة عادية تفي بالغرض). و لأن القسطرة عن طريق اليد ، يستطيع المريض أن يقوم من سريره بعد القسطرة مباشرة. لذلك المضاعفات الناتجة من قسطرة الفخذ تكاد تكون معدومة في قسطرة اليد. 

بالرغم من ميزاتها الكثيرة ، إلا أن القسطرة عن طريق اليد لها شعبية قليلة و انتشارها بطيء جداً في الولايات المتحدة ، مقارنة بكندا و دول أوروبا. فلماذا يا ترى؟ هذه هي الأسباب:

١. القطاع الخاص يتحكم بشكل رئيسي في الخدمة الصحية في أمريكا. لذلك "الحافز" هنا استنزاف جيب المريض (أو بالأحرى شركات التأمين) إلى أقصى درجة ممكنة. إبقاء المريض على سرير المستشفى لمدة ست ساعات و استخدام تقنيات مكلفة لإغلاق جرح شريان الفخذ كلها لها مصاريفها و "الحسّابة بتحسب".

٢. قبل إدخال القسطرة في شريان الفخذ ، يتم تثبيت انبوبة داخلية تحوي صمام (Sheath). في أمريكا ، هناك موظفون متخصصون في "سحب" هذه الأنبوبة بعد نهاية القسطرة ، مسماهم الوظيفي "Sheath Pullers". إذا كانت القسطرة تتم عن طريق اليد ، فلن تبقى هناك وظيفة لهؤلاء الاختصاصيون! 

 ٣. القسطرة عن طريق اليد مهارة تحتاج إلى وقت طويل لإجادتها (مقارنة بقسطرة الفخذ). الوقت المطلوب لإجادة مهارة يسمى بالإنجليزية "Learning curve". بعض الاستشاريين الأمريكان القدامى تعوّدوا على قسطرة الفخذ و غير مستعدين لتعلّم قسطرة اليد (لأنها بالنسبة لهم تقنية جديدة). هؤلاء الاستشاريون بدورهم يدربون الجيل الجديد القسطرة عن طريق الفخذ! و هلم جرّا.


الخلاصة
إذا ركزنا على نقاط تشابهنا . أدركنا بأن عقلياتنا تحتاج للتطوير. و ربما سنجعل مستقبل الأجيال القادمة أفضل من حاضرنا.  

الأحد، 27 أكتوبر 2013

بشرى خير

نشاهد على قناة الناشيونال جيوغرافيك و اليوتيوب القط الذي يطارد ذيله دون توقف ، والأرنب الذي يحاول الوصول إلى الجزرة المعلّقة بخيط أمامه دون كلل. نضحك على هذه الحيوانات و لسان حالنا يقول "نحن بشر. نحن أرقى من أن نتصرف بهذه الطريقة المتخلفة". و لكن هل هذا الكلام صحيح١٠٠٪؟  

أمثلة
طالب الطب يفني سنوات شبابه في دراسة طويلة لا تنتهي. سنوات من العناء و "الكرف" و تحمّل الإهانات من الذين يعلونه رتبة. و يصر على إكمال دراساته العليا في الغرب حتى لو تعطّلت بعثته لسنوات طويلة. كل ذلك لأمله في ارتداء المعطف الأبيض و الاستمتاع بالهيبة المصاحبة للقب "دكتور". طالبة الطب ترفض الزواج في سبيل إكمال المسيرة المهنية نفسها.  

المغترب الآسيوي في دول الخليج العربية يعمل ١٦ ساعة يومياً دون إجازة. على "أمل" أن يرجع لأهله بعد سنوات قليلة غنياً مرفوع الرأس. معه ما يكفي من المال لشراء منزل أو بدء تجارة أو الزواج.

البنت الصغيرة يزوجوها أهلها رجلاً مسنّاً لا تحبه ، لتنجب منه  ١٥ طفلاً. تتحمل المعاناة على مر السنين لأن أهلها أقنعوها بأنها "ستحبّه" مع الزمن ، و إن لم يتغير شعورها تجاهه ، فعلى الأقل بوليصة تأمينها أبناؤها ، أملها في المستقبل. 

الشباب "الأحرار" في الدول القمعية يكافحون الديكتاتور الحالي. يجاهدون لنشر الحرية بين الناس و يوفرون العيش الكريم للشعب. و المواطن البسيط الجائع المغلوب على أمره يسمع وعودهم الجميلة في خطبهم الحماسية الرنانة التي تجيّش العواطف. يصدّقهم و يحارب الديكتاتورية الغاشمة معهم و من أجلهم.  

المواطن الخليجي يؤمن بفكرة "البيت". بعكس بعض العرب الذين يكتفون بالشّقة. الخليجي "يجب" أن يعيش في بيت مهما كان الثمن. يقترض هو و زوجته مبالغ ضخمة. يرهن كل ما يملك. يعيش في حالة تقشّف. كل ذلك في سبيل شراء "بيت العمر".  

الأصلع الوسيم يؤمن بأن الشعر سر الجمال. لذلك يغطي رأسه بأي طريقة ممكنة (شعر مستعار ، غترة + عقال ، قبعة…الخ).

تمضي السنين بسرعة غير ملحوظة
حياة الإنسان ما هي إلا "وميض" في عمر الأرض و الكون. 

و طالب الطب أصبح طبيباً. ولكن بعد الجامعة بدأت سنة التدريب ، تلتها سنوات التخصص العام و التخصص الدقيق و تخصص-التخصص الدقيق (sub-sub-specialty) في الغربة. ليجد نفسه على مشارف الأربعين من العمر وهو لا يزال جالساً في قاعة المحاضرات يدوّن ملاحظاته في دفتره أو حاسوبه الشخصي. بينما أترابه في المهن الأخرى يجهزون خططهم للتقاعد!     

و زميلته الطبيبة سارت في نفس الدرب. "طابور" الرجال الراغبين في الزواج منها إضمحل تدريجياً مع الزمن. لكنها مكرسة كل حياتها في المستشفى. 

و المغترب الآسيوي تصله رسائل من أبنائه الذين تخرجوا من الثانوية و دخلوا الجامعة. يريدون المزيد من المال لتغطية مصاريف الدراسة. وقتها يتذكر أنه عندما ترك أبناءه للعمل في الخليج ، كانوا في سن الرضاعة.

و البنت الصغيرة التي تزوجت و ظنّت بأن كفاحها سينتهي برعاية أبنائها لها. هرمت و أصبحت "جَدّة" تكافح لترعى أحفادها (بينما هي بحاجة لمن يرعاها) ، ذلك لأن أبناؤها يكافحون ، حسبهم في عملهم لتكوين أنفسهم و إثبات وجودهم في هذا العالم الذي لا يرحم. 

و الضباط "الأحرار" قلبوا نظام الحكم بنجاح. قتلوا الديكتاتور و أبادوا جلاوزته. ليتربّعون منتصرين على عرش السلطة. و يكوّنوا  بذلك ديكتاتورية العهد الجديد. الديكتاتورية هي نفسها ولكن بحلّة جديدة و وجه جديد و أسماء جديدة. المواطن البسيط المغفّل لا يزال يشجعهم و يدعو لهم بالتوفيق ، و يصفق لهم ، لأنه يؤمن بمصداقية وعودهم المزيفة.  

و الخليجي بعد دفعه لآخر قسط  لقرض البيت الذي اشتراه منذ عقود. رجع لأهله فخوراً مرتاحاً. لأن البيت أصبح أخيراً ملكه بالكامل (لا طالب و لا مطلوب). لكنه قضى شبابه كله و استهلك كل صحته و ضحّى بمتع الحياة فقط لتسديد هذا القرض. و بعد انتهاء السداد ، أخبرته زوجته بحاجتهم للإقتراض مجدداً لترميم البيت نفسه!

و الأصلع لم يزدَد وسامة. حتى بعد عملية زراعة الشعر.

مالقصد من وراء هذه الأمثلة؟
 لا يأس مع الحياة و لا حياة مع اليأس
قائل هذه العبارة أصاب قلب الهدف دون منازع. ذلك لأننا بني آدم نتنفس الأمل و نقتات عليه ولا نعيش بدونه. و المرء إذا آمَنَ  في مبدأ أو قضية من الصعب عليه إعادة حساباته و تقييم وضعه.  كالقط الذي يؤمن بأنه حتماً سيصطاد ذيله ، أو الأرنب الذي يؤمن بأنه حتماً سيلتقط الجزرة. 

طبعاً هذه الأمثلة افتراضية بحتة و نتائجها ليست حتمية. فالحظ و الأقدار و ظروف الزمان و المكان كلها عوامل تلعب دوراً كبيراً في تقرير المصير. المشكلة هنا في المحتالين و ضعاف النفوس (و السذّج أيضاً) الذين يعرفون قيمة الأمل و كيفية تسويقه لليائس. حتى إذا كان هذا "الأمل" مزيفاً. القلة القليلة من الناس تفهم "اللعبة" و تعيش حياتها حرة خالية من الآمال الكاذبة.  

الجمعة، 25 أكتوبر 2013

المفروض



"الأعراف المطلقة" ... مبادئ تتبناها عقولنا.
نكتسبها من البيئة المحيطة (العائلة/القبيلة/المجتمع) لتتحول بعد ذلك إلى أساسيات راسخة في عقولنا لا تتغيّر. هذه الأعراف غير قابلة للإجتهاد أو المناقشة أو الجدل. أسميتها "مطلقة" لأن عقولنا المحدودة لا تفهم مبدأ "النسبية" و إعتمادها على الزمان و المكان.

المشكلة المطروحة هنا عن هذه الأعراف عندما تترسخ في عقولنا ، نصبح على أثرها أمواتاً أحياء (مثل الزومبي). أعرافنا هذه راكدة جافة جامدة أصلب من الأسمنت المسلّح ، لها لونان فقط: الأبيض و الأسود. لا ننتبه للثغرات الرمادية الموجودة فيها. الثغرات التي في بعض الأحيان قد تدمر قانوناً كاملاً من أساسه. الأمر الذي سوّل للنصابين و ضعاف النفوس تسخيرها لإستغلال بساطة الناس لصالحهم.    

نحن نعيش في زمن التقنية سريعة النمو بدرجة مخيفة. العلوم التي يتعلمها إبني الصغير في المرحلة الإبتدائية اليوم لم تكن متوفرة لنيوتن و غاليليو و ابن سينا في زمانهم. إذا يسألني ابني سؤالاً أجهل إجابته ، يستطيع إيجاد الإجابة خلال ثوانٍ معدودة بالبحث في "غوغل" عن طريق "الآيباد". بالرغم من ذلك ، لا نزال نغذي أبناءنا بهذه الأفكار و نعاقبهم (بنيّة حسنة) إذا ناقشوها أو استفسروا عن مصداقيتها.

في زماننا هذا إذا أمرت إبني مثلاً بعمل سخيف أو غير مجدي،  و ناقشني و أفحمني بأسئلته الوجيهة تجاه هذا العمل (باللهجة الكويتية: إذا غزر علي البحر) ، لا أستطيع أن أصرخ بوجهه قائلاً "لا تناقش و لا تجادل ، أنا أبوك و أنا أدرى بمصلحتك". أضعف أنواع الجدال هو "الجدال من منطلق السلطة" (Argument from authority). و إذا نفع هذا "الأسلوب" معي و مع أبي و جدّي قبلي ، فلا يعني بالضرورة أنه سينفع مع أبنائي.   
   
 "الأعراف المطلقة" (التي سأطرح بعضاً منها هنا للمثال لا الحصر) غدت أمثالاً شعبية دارجة تحدد منهج تفكيرنا و بالتالي نمط حياتنا ، و حتماً مصيرنا. ربما نفعت هذه الأمثال أسلافنا الذين كانوا فريسة سهلة للجوع و الجهل و الخوف و المرض. أما في زماننا هذا ، هذه القوانين تعيق تقدمنا. 

العالم العربي بشكل عام (ودول الخليج العربية بشكل خاص) غني بالموارد والثروات. القصور يكمن في العقلية التي تدير هذه الثروات. و كما ذكرت في مقالة سابقة ، الغربيون ليسوا أذكى الناس. وإنما علّمتهم تجاربهم المريرة على مر القرون بعد المحاولة و الخطأ بأن سر النجاح يكمن في تغيير عقلية استثمار الثروات. في الواقع  الأعراف المطلقة (التي نتشبث بها نحن) تبنّاها الغربيون أنفسهم لأجيال عديدة ولا يزال العديد منهم (لا سيما كبار السن) يتمسكون بها.

 إذا أردتَ أن تعرف ما إذا كان الشخص الذي يتحدث معك من أصحاب هذه العقلية المطلقة (الأغلبية الساحقة في مجتمعنا)، تلاحظ في سياق حديثه تكراراً لمفردات مثل "المفروض" و "دائماً" و "بالتأكيد".

الأعراف المطلقة لأنها صارمة و محدّدة (إما أبيض أو أسود) تعطي المؤمن بها إحساساً "كاذباً" بالأمان والراحة. فالغزال حتماً سيشعر بالأمان إذا أقنع نفسه بأن الذي يقف خلفه أرنباً. حتى لو كان الذي يقف خلفه في الواقع أسداً ! (وقتها لن ينفع الندم). تصنيف الأشياء في خانتين فقط (الأبيض والأسود) مريح جداً. اللون الرمادي بدرجاته العديدة تعيس و مكروه لأنه غير مستقر. لكن الحياة مليئة بدرجات الرمادي. تجاهل هذه الحقيقة لن يحل المشكلة.    

سأسرد بعضاً من هذه القوانين المطلقة و ملاحظاتي عليها.    

من علمني حرفاً صرت له عبداً
و حكمة مماثلة في بيت الشعر "قم للمعلم وفّه التبجيلا ، كاد المعلم أن يكون رسولا".
 لا أنكر هنا فضل المعلّم. ربما التعليم هو إحدى الصفات التي ميّزت الإنسان عن باقي المخلوقات. لكن المبالغة في تعظيم المعلّم (خصوصاً في زماننا هذا)  تجعلنا لا إرادياً نتغاضى عن النقاط التالية:

- المدرّس مجرد إنسان له زلّاته و كبواته. غير معصوم و غير منزّه عن الخطأ. 
- المدرّس موظف ، يمارس مهنة التدريس ليكسب قوت يومه. حاله حال أي موظف في أي وظيفة أخرى. 
- المدرّس محترف. و كأي حرفة في الدنيا ، المحترفون منهم الموهوب ومنهم العادي. منهم الشريف و منهم المرتزقة. منهم الصالح ومنهم الطالح. 
- في أحيان كثيرة التلميذ يتفوّق على أستاذه تحت عدة ظروف. و المدرّس إما يعترف بقصوره و يفتخر بهذا الطالب و إما أن يحجّمه و يقلل من شأنه ، حسب درجة كبرياء هذا المدرّس.  

 لذلك تعظيم المدرس و إيصاله إلى مرتبة الرسل فيه شيء من المبالغة. المشكلة هنا تكمن في الجيل القديم من "التربويّون" الذين يديرون الجهات التعليمية في عالمنا العربي ، لأنهم يحتقرون و يذلون الطلبة ويعاملوهم كالعبيد. ينهون تلاميذهم عن خُلُقٍ و يأتون بمثله دون أن يحاسبهم أحد. متغاضين في ذلك عن مبدأ "القيادة بالقدوة" (Leadership by example). أبسط مثال على ذلك الأستاذ الذي يدخّن بشراهة لسنوات و علبة السجائر لا تفارق جيبه ، هو نفسه الأستاذ الذي ينزّل أشد العقوبة على تلاميذه إذا رأى في حوزة أحدهم سيجارة.  

العين لا تعلو على الحاجب
في العالم الثالث و خصوصاً في العقلية العربية ، العربي يبغض مبدأ المساواة و يكرس كل ما بوسعه لإزالته من عقول أبنائه. هذا غير التمسك اللاإرادي بعقلية "العبد" عند البعض. المقارنة الأدبية هنا بين "الطبقية" و "عدم المساواة" بالوضع التشريحي للوجه (العين تحت الحاجب) .
لذلك في مجتمعنا...
الممرض يرى نفسه أقل من الطبيب.
و المرأة ترى نفسها أقل من الرجل.
و الفقير يرى نفسه أقل من الغني.
والضعيف يرى نفسه أقل حقوقاً من القوي. 
و في زمنٍ أُلغِيَت فيه العبودية ، العبد يرى نفسه أقل من الحر.  

يقال في اللهجة الخليجية "الرؤوس نامت والعصاعص قامت"
إشارة الى أن أسياد القوم أصبحوا في القاع  و في المقابل حثالة المجتمع صعدت إلى القمة. 

أليس هذا هو حال الدنيا؟
الفقير يغتني و السيد يُستَعْبَد. 
المرأة تفوقت على الرجل في عدة مجالات بعد منحها حقوقها.
و الأسوَد لا يقل ذكاءاً عن الأبيض. 

حتى يومنا هذا ، إذا تمنّت البنت المتفوقة أن تمتهن التمريض مثلاً ، قال لها أبوها "لماذا يا بنيتي؟ أحسن لك أن تكوني طبيبة".  
ثم نتساءل لماذا التمريض مهنة طاردة!

وطني لو شغلت بالخلد عنه ، نازعتني اليه في الخلد نفسي
 لا أنكر التراث الأدبي العظيم اللي تركه لنا أمير الشعراء أحمد شوقي في حب الوطن. لا سيما الإعلام العربي الذي ساهم في ذلك كثيراً ، مثل قصيدة "موطني" الشهيرة للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان:

موطني .. الجلال و الجمال و السناء والبهاء في رباك 
والحياة و النجاة والهناء والرجاء في هواك

أو "مصر محتاجة لك يا رأفت" قالها محسن ممتاز لتلميذه رأفت الهجان ، الجاسوس المصري في إسرائيل...
الذي أجابه تلقائياً بعبارة "أنا رقابتي سدّادة".
السؤال هنا : لماذا يعيش الإنسان في بلد ليس له فيها رزق أو كرامة؟
هل "وطني" هو المكان الذي ولدتُ و ترعرعت فيه؟
أم "وطني" هو المكان الذي حصلتُ فيه على كرامتي و رزقي؟  

العقلية العربية التي تعلّم الحب المطلق للوطن لها أبعادها. هناك الكثير من العرب ممن وُلِدوا و ترعرعوا على مدى جيلين أو ثلاثة أجيال في الغربة ، و لا يزال ولاؤهم و حبّهم و انتماؤهم لوطنٍ لم يروه و لم يعيشوا فيه! 

الهجرة ليست عيباً. أرض الله واسعة.
كل الكائنات الحيّة تهاجر من البيئة القاسية إلى البيئة المعتدلة و الإنسان لا يُسْتَثنى من هذا القانون.
حتى النباتات تحاول الإنتشار إلى أماكن أفضل عن طريق نشر حبوب لقاحها و بذورها ، و تستعين بالحشرات و الطيور لهذه المهمة. كذلك الإنسان ، يهاجر بحثاً عن الرزق و الحياة الكريمة. "وطني" هو المكان الذي يوفّر لي رزقي و يحفظ لي كرامتي. 

طاعة الوالدين في كل شيء إلا معصية الخالق
طاعة الوالدين مستحبّة ، ذلك لأن الأب و الأم يضعان مصلحة أبنائهم فوق كل اعتبار. لكن علينا أولاً إدراك حقيقة مهمة ، و هي أن الوالدين بشر غير معصومين عن الخطأ (كالمعلّم). هذا غير أن كل جيل له ظروفه الخاصة. لذلك "القرارات" التي نفعت جيل بسبب ظروف معينة تخص هذا الجيل ، ربما تضر الأجيال اللاحقة. أمثلة بسيطة مقتبسة من قصص واقعية توضح وجهة نظري عن طاعة الوالدين منها:

الأم التي ترفض دراسة إبنها في الخارج و تقول له "إذا أنت سافرت ، أنا سأموت". 

الأب الذي يرفض فكرة تعليم إبنه من الأساس ، تعليله لذلك "أريد إبني أن يرعى الحلال أو يدير المزرعة ، ذلك أفضل له من التعليم الذي لن يفيده في شيء".
الإبن الذي يكره مجموعة من الناس ، بالرغم من أنه لم يقابلهم ولا يعرف أصلاً لماذا يكرههم (أو تعلّم أسباباً مزيّفة). يكرههم فقط لأنه "رضع" كراهيتهم من والديه منذ نعومة أظفاره ، و لا حتى يسأل والديه عن سبب بغضه لهؤلاء الناس.

و ما هو"الثأر" إلا كراهية متوارثة بين الأجيال بسبب الطاعة العمياء للوالدين؟  

من جد وجد ومن زرع حصد ، و من سار على الدرب وصل 
المثل الخليجي الموازي لهذا المثل ويحمل نفس المعنى "اللي في الأولي لاعب في التالي تاعب". هذه الأمثال لها صحتها ، لكنها لا تخلو من الإستثناءات. هذا المثل يتغاضى عن عوامل مستقلة مهمة ، ليس لها علاقة بالجد و الإجتهاد. منها الحظ و الظروف و المواهب

كالذي يربح الملايين بعد فوزه بتذكرة اليانصيب. 
أو الذي يربح الملايين لأنه يدير مؤسسة والده الضخمة.
أو الذي يحقق إنجازات ضخمة منقطعة النظير من العدم لأن طريقه أصلاً خالي من العقبات (أساساً غني و لديه نفوذ).   
أو الذي يكسب الملايين لإمتلاكه مهارة / موهبة فريدة من نوعها في تخصص نادر.       

أكبر منك بيوم ،  أفهم منك بسنة 
ليس المقصود "بالفهم" هنا الحكمة و الخبرة فحسب. و إنما الأولوية للأقدمية في كل شيء. 

فالإبن البكر (بمباركة من الوالدين طبعاً) له الحق في إضطهاد و إهانة إخوته الصغار والتجبّر عليهم دون سبب. فقط لأنه وُلِدَ قبلهم.
حتى لو كان هذا الإبن البكر فاشلاً في حياته لقراراته الخاطئة ، و لايستحق بذلك أن يكون مثلاً يُقتَدى به من الأساس. 
لا يقف هذا المثل المتخلف هنا فقط. بل و يمتد إلى الولاء الأعمى للأقدمية. في زمن تتطوّر فيه العلوم بسرعة لا تضاهيها حتى طباعة الكتب العلمية نفسها. في الجراحة على سبيل المثال ، أساليب و تقنيات جراحية تستحدث بشكل دوري. الأمر الذي جعل الجراحين القدامى في وضع محرج ، لأنهم أمضوا سنوات طويلة لإتقان طرقهم الجراحية التي أصبحت حالياً ملغية تحت ظل التقنيات الحديثة. لذلك بعض هؤلاء الجراحين تأخذهم العزة بالإثم و يرفضون التقنيات الجديدة حتى لو كانت تفوق مهاراتهم القديمة التي تعوّدوا عليها. يبررون رفضهم لأي حوار بإستعراض عدد سنوات خبرتهم.

"أنا جراح منذ ٢٥ سنة". 
"أنا أمارس هذا النوع من العمليات منذ ٣٠ سنة".
"في الوقت الذي كانت فيه أمك تبدّل حفاظتك ، أنا كنت جرّاحاً مرموقاً".   

أنا لا أقلل من أهمية الخبرة هنا. لكن الخبرة ليست كل شيء. لا سيما في زماننا هذا حيث أبناؤنا لديهم نبع من المعرفة (الانترنت) لم يكن متوفراً لدينا عندما كنّا صغاراً. فالخبير في زماننا إذا أدلى برأيه في أي موضوع ، فليعلم علم اليقين بأن هناك من يقف له بالمرصاد ليتأكد من صحة آرائه و على استعداد لفضحه إذا كانت آراؤه غير صائبة لأي سبب. قيل في الغرب بأن مهمة أهل العلم الأساسية في الحياة هو البحث عن الحقيقة ، حتى لو كان ثمنها دحض نظرية الخبير "أبو ثلاثين سنة خبرة". 

في الاتحاد دائماً قوة
الحكايات والأمثال الشعبية القديمة تركّز على أهمية الإتحاد (قوم تعاونوا ما ذلّوا). لا سيما القصة الكلاسيكية للأولاد الذين عجزوا عن كسر حزمة من أعواد الخشب المربوطة ، بينما استطاعوا تكسيرها واحدة تلو الأخرى بسهولة بعد فك رباطها. 

كونوا جميعاً يابني إذا إعترى  ...  خطبٌ ولا تتفرقوا آحـادا

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً ... وإذا افترقنَ تكسّرت أفرادا

لنرجع الى أرض الواقع و نسأل أنفسنا ، إذا إتحد طرفان (أو أكثر) ، هل هو إتحاد حقيقي؟
أم انه في الواقع طرفاً قام بإلتهام / ضم / طمس الطرف الآخر؟

على المستوى الإقتصادي (لا سيما دول العالم الثالث) دول فقيرة مكتظة بالسكان إتحدت مع دول غنية قليلة السكان ، فمالذي حدث؟ المواطنون الجياع من الدولة الفقيرة إلتهموا خيرات الدولة الغنية ، لم يتركوا شيئاً لمواطني الدولة الغنية الصغيرة الذين كانوا يعيشون حياة رغدة كريمة قبل هذا الإتحاد. الثروة المحدودة تقسّمت على شريحة كبيرة من السكّان. هذا يفسر لماذا الدول الغنية تفرض  ضوابط و شروط صعبة و كثيرة (أحياناً تعجيزية) للهجرة و التجنيس ، بالذات على مواطني الدول الفقيرة. أشهر مثال على أرض الواقع وحدة مصر و سوريا في عهد جمال عبدالناصر. 

و على مستويات أخرى ، اتحاد الأكثرية مع الأقلية ربما ينتهي بطمس هوية الأقلية. سواءاً كانت هذه الهوية دينية أو مذهبية أو عنصرية أو حضارية أو حتى لغوية. أبسط مثال على ذلك إقليم "كيبيك" (Quebec) الفرنسي في كندا. أهالي هذا الإقليم يكافحون (حتى يومنا هذا) للمحافظة على هويتهم الفرنسية من الإنقراض. لأنهم أقلية تتكلم الفرنسية (Francophone) ضمن أغلبية تتكلم الإنجليزية (Anglophone). بالنسبة لهم المسألة صراع خاسر. فالفرنسي الكندي لا يستطيع الحصول على وظيفة في كيبيك إلا إذا كان يجيد اللغة الإنجليزية. هذا غير بعض الجامعات التي تدرّس باللغة الإنجليزية في كيبيك ، أشهرها و أقدمها جامعة ميغيل (McGill).   

بالملخص ، إذا اتحد القوي مع الضعيف...
ربما القوي يُسْتَنزَف لأن الضعيف يستعين به.
و ربما الضعيف يُضطَهَد و يُستَعبَد لأن القوي يتجبر عليه. 

الدم أبداً لا يصبح ماء
و أمثال مشابهة منها "الظفر ما يطلع من اللحم" و "هذا خشمك حتى لو كان أعوج".

ربما العرب من أكثر الناس اهتماماً بقرابة الدم بكل درجاتها. فأنا مع أخي ضد إبن عمي ، و أنا مع إبن عمي ضد الغريب. و هذا أمر مفهوم. قرابة الدم كانت مهمة جداً للقبائل في الصحراء. "القرابة" عند العرب تعني بالضرورة "الولاء" لضمان البقاء على قيد الحياة  ، في بيئة حارة جافة شحيحة الموارد. يأكل القوي فيها الضعيف دون رحمة. ذلك الصراع من أجل البقاء. لذلك كانت المصاهرة من أنجح وسائل إحلال السلام بين القبائل. لأن القبيلة لا تُغير على قبيلة مجاورة إذا كان بينهم أهالي و صلة رحم. 

أما في عصرنا الحالي ، حيث الموارد وفيرة و التقنية الحديثة طوّرَت نمط الحياة و وفّرت لنا سبل الرفاهية. نعيش في مجتمعات حضرية متعددة الأعراق. يتضح لنا أن صفات كالإنسانية و الصداقة و الكفاءة تضمن لنا حياة أفضل و أكرم ، و هي بالتالي أهم من قرابة الدم. 

أيّهما تفضّل: صديق حميم لا يقرب لك ، تستمتع بصحبته و يقف معك في الشدائد؟ 
أم قريب لك تكره حتى الجلوس معه لفترة وجيزة خلال المناسبات و الأعياد؟

إذا صادفتَ شخصاً في وضع حرج بحاجة ماسّة لأدنى مساعدة (غريق / مفلس / في حالة صحية طارئة).
هل تساعده حتى لو لم يكن بينك و بينه قرابة دم؟

إذا كنتَ صاحب عمل و لديك وظيفة شاغرة.
هل توظّف أخاك الفاشل؟ 
أم توظّف الغريب الذي يستوفي كل شروط الوظيفة؟

إذا جاء رجل محتَرَم و أنت تعرفه جيداً (لكنه لا يقرب إليك) لطلب يد إبنتك أو أختك.
هل ترحب به؟ أم تفضّل زواج البنت من ابن عمّها مهما كانت العواقب؟ 

"تقديس" قرابة الدم ربما لا يلفت النظر كثيراً في الحياة اليومية. على الرغم من سماعنا بين فترة وأخرى عن "فلان"  الذي ترقى مؤخراً لمنصب "مدير عام" في جهة حكومية ، و وظّف كل أبناء قبيلته أو عشيرته أو أسرته في إدارته في اليوم التالي من تولّيه المنصب مباشرة.

الأمر يلفت الأنظار و بشكل مستفز في الظروف الحرجة. على سبيل المثال ، في فترة الغزو العراقي للكويت ، انقسم "الصف" العربي بين مؤيد و معارض لما اقترفه النظام العراقي في حق جاره المسالم. ولكن في المقابل ، الأغلبية الساحقة من العرب استنكرَت الغزو الأمريكي للعراق و شنت حرباً إعلامية ضد الأمريكان.

من المنظور الإنساني ، في الحالتين (الغزو العراقي للكويت و الغزو الأمريكي للعراق) مفهوم الغزو و انتهاك سيادة الدولة واحد بغض النظر عن الأسباب و مصداقيتها (رجوع "الفرع للأصل" أو "تحرير العراق" للبحث عن أسلحة "الدمار الشامل").

لمعرفة المنظور العربي في هذا الخصوص ، سألت أحد إخواننا المفكرين العرب عن إزدواجية المعايير هذه ، فقال لي مفسّراً: الغزو العراقي للكويت كان كالأخ الكبير الذي إعتدى على أخاه الصغير. بينما الغزو الأمريكي إحتلال غاشم من استعمار غريب لبلد عربي شقيق عريق ذو سيادة ، و نحن لا نرضى بذلك! بصراحة: عجز لساني عن التعليق.

الماضي الجميل 
بعكس ما يظنه البعض ، الذاكرة البشرية بطبيعتها انتقائية و ليست تصويرية. بمعنى أن العقل ينتقي ما يتذكره و ينسى الباقي. و في أغلب الأحيان عملية الإنتقاء لا إرادية. و العرب ليسوا إستثناء من هذه القاعدة.

لذلك عندما يتحدث كبار السن عن فترة شبابهم ، سواء أهل الخليج قبل النفط أو مباشرة بعد ظهور النفط ، أو في بقية العالم العربي إبان "عصره الذهبي":
كانت الحياة بسيطة و النوايا صافية.
كانت الناس طموحة و كادحة. و الكل يساعد الكل دون مقابل.
كانت صلة الرحم موجودة.
كانت أسعار السلع معقولة.
كانت الرواتب مرتفعة ، و طمع التجّار لم يكن موجوداً.
كانت ظاهرة الطلاق شبه معدومة.
كانت الناس قوية و بصحّتها.
حتى درجة حرارة الجو في الصيف لم تكن مرتفعة آنذاك كأيامنا هذه.  

ولكن إذا بحثت في التاريخ و سمعت القصص الواقعية من "بعض" كبار السن العقلانيين لتتأكد من صحة "الماضي الجميل" ، تجد بأن الماضي لم يكن جميلاً  على الإطلاق. المجتمع آنذاك كان تحت وطأة الوحوش الفتاكة الثلاثة: الجهل والفقر والمرض.

الحياة كانت صعبة و شاقة.
العامل كان يسعى لاهثاً لكسب قوت يومه.
لا وجود لخطة تقاعدية أو تأمينات إجتماعية. لا وجود لهيئات تعليمية متقدمة ولا لخدمات صحية حديثة. 

نوايا الناس كانت في الماضي (كيومنا هذا) متنوعة بتنوّع الناس أنفسهم.
منهم النشيط و منهم الكسول. 
منهم الطيب ومنهم الخبيث.
منهم المضحّي و منهم الأناني.
منهم المتأني و منهم الأرعَن. 

طمع التجار واحتكارهم لم و لن يتغيّر.

الناس كانت بصحّتها في الماضي؟
لأن قوي البنية كان يعيش ، بينما العليل كان يموت صغيراً من أبسط الأمراض  لعدم توافر أدنى وسائل الطب الحديث.
مريض الصرع كان يتشنج بسبب الجن والعفاريت.
موت الفجأة لم يكن له تعليل غير الأقدار (الله يرحمه ، كان يومه) أو الحسد (عين ما صلّت على النبي).
المرأة كانت تحبل ٢٠ مرة ، و تنجب في حياتها بالمتوسط عشرة أطفال ، ليبقى نصفهم على قيد الحياة على الأقل حتى سن البلوغ.
هذا غير الأوبئة التي حصدت أرواح الآلاف من الأبرياء على مر السنين كالجدري والطاعون والدرن والإنفلونزا. 
الطلاق في الماضي كان نادراً ؟
لأن المرأة كانت مكسورة الجناح مسلوبة الحقوق. تعتمد على زوجها إعتماداً كليّاً.
وصمة العار التي كانت تلازم "المطلّقة" وأهلها فرضَت على المرأة بلع الجمرة لتعيش تحت سقف واحد مع زوج لا تحبّه.
صلة الرحم لم تكن مقطوعة؟
لأن "عميد العائلة" كانت له اليد العليا و السلطة المطلقة في "فرض" لم شمل العائلة على كل أبناء الأسرة و إرغامهم على التجمّع تحت سقف واحد في كل المناسبات ، شاء من شاء و أبى من أبى. هذا غير أن الأبناء كانوا يسكنون في بيوت أهاليهم حتى بعد زواجهم لأسباب مادية و اجتماعية.  

و الجو الصحراوي في الصيف كان و لا زال حاراً لا يرحم.
لم يكن هناك تكييف يخفف من وطأة الحر الشديد.
كان الطعام يتعفّن بسرعة لعدم توفر تقنية التبريد (الثلاجات).  

و بالرغم من كل ذلك ، يبقى التأمل بالماضي "الجميل" من سمات العربي المعاصر. ينقل الآباء صورة محسنة (مزيّفة) لهذا الماضي (بعد تعديلها ذهنياً بالفوتوشوب) للأبناء الذين لم يعاصروا هذه الحقبة التعيسة (لحسن حظهم).     

الخلاصة
هذا المقال لا يشير إلى اقتراب نهاية العالم العربي! إنما بالعكس ، على الرغم من كل العقبات الفكرية سابقة الذكر ، إلا أن الجيل العربي الحالي بدأ يفهم قوانين اللعبة الحقيقية ، و كيّف نمط حياته حسب هذه القوانين و ترك القوانين القديمة البالية وراءه. لكن لا تزال هناك شريحة من العرب تتمسك بالقوانين المطلقة و لن تتنازل عنها مهما كان الثمن.