الأحد، 10 نوفمبر 2013

خلك بائس

"عائلة البائس" تعود تسميتها قبل مائتي سنة إلى جدها "البائس الأول". لقّبَت الأسرة بذلك لفقر جدهم الشديد الذي ورّثه لأبنائه ، ليصبح "البائس" لقبهم الدائم جيلاً تلو الآخر. بسبب الفاقة ، كانت الخدمة في البيوت هي الحل الوحيد المتوفر لأبناء "البائس" في تلك الفترة. 

  وجدوا أبناء "البائس" الستر عندما خدموا جيرانهم من بيت "المعزّب" ولأجيال عدة. بعكس عائلة "البائس" ، كانت "المعزّب" عائلة تجّار أباً عن جد. أموالهم طائلة بسبب تجارتهم الرابحة المتشعبة في كل مجال منذ القِدَم. إبن "المعزّب" كان يولَد و في فمه ملعقة من ذهب ، يحملها له دائماً خادمه الأمين ابن البائس. 

  أبناء "البائس" كانوا يخجلون من لقب عائلتهم و لأسباب واضحة. كان الفرد منهم يعرّف نفسه للغير على أنه فلان بن علّان فقط ، دون ذكر اسم العائلة. وصلت المرحلة عند البعض بحذف إسم "البائس" من جواز سفرهم و بطاقة هويتهم الشخصية. وبالرغم من كل هذا   التضليل و الاختباء، إلا أن أبناء "الفريج الواحد" كانوا يعرفون من هم البؤساء و من هم المعازيب. عوائل الفريج كانت لا تناسب البؤساء لفقرهم. لذلك كان البؤساء يضطرون عادة للزواج من الخارج. 

  قبل بضع سنوات ، ظهر في عائلة البائس شاباً قصير القامة ضئيل البنية يدعى "حنظل".
حنظل كان يعمل فرّاشاً في شركة تنظيف تملكها عائلة "المعزّب". بالرغم من ساعات عمله الطويلة و المتعبة ، إلا أنه أصرّ على إكمال تعليمه في المدارس المسائية. و بعد فترة قياسية ، تخرج حنظل و حصل على شهادة البكالوريوس من كلية إدارة الأعمال و بإمتياز. بسبب مؤهله الجامعي و نشاطه و إبداعه في العمل ، رقته إدارة الشركة إلى رئيس الفراشين. و مع مرور الوقت و لفته لأنظار المسئولين بإبتكاراته في الإدارة ، صعد حنظل تدريجياً على سلم الترقيات إلى أن انتهى به الأمر بتنصيبه مديراً عاماً لشركة "المعزّب" لخدمات التنظيف. 

  عصفت أزمة اقتصادية حادة بعائلة "المعزب" ، ذلك لأن الجيل الجديد من العائلة بطر بالنعمة و بذّرها على الشهوات و النزوات. مستنزفين في ذلك الثروة التي كافح أسلافهم في تجميعها. وقتها عرض "المدير حنظل البائس" على أبناء المعزب شراء الشركة منهم و بثمن زهيد نسبياً. كان توقيت حنظل بمثابة الطرقة القوية على الحديد أحمر الحرارة. ذلك بسبب الهبوط الحاد لأسهم شركات "المعزب" في البورصة في تلك الفترة. وافق على إثرها أبناء المعزب دون مساومة. و أضحى حنظل البائس ، الفقير سليل الخَدَم ، صاحباً لأكبر شركة لخدمات التنظيف. 

  تحسنت أمور الشركة من صفقة تجارية إلى أخرى. بدأت "شركة البائس للتنظيف" (شركة المعزب سابقاً) بالنمو السريع و التشعّب للإستثمار في مجالات أخرى غير خدمات التنظيف. زادت أملاك "المليونير" حنظل ، الذي بنى بعد ذلك ديوان ضخم للعائلة ، كتب على واجهته و بالخط العريض "ديوان البؤساء". الديوان كان ملتقى أبناء البائس في الأعياد و المناسبات و الأفراح. أغلب أبناء البائس تركوا الخدمة في منازل "المعازيب" و حصلوا على وظائف في شركات حنظل التي انتشرت في كل أرجاء البلاد.  

سبحان مغير الأحوال...
صارت عوائل الفريج الواحد تتشرف بمصاهرة عائلة البائس.
هناك من الغرباء في البلد من نَسَب نفسه لعائلة البائس دون إذنهم.
وصلت المرحلة إلى نسب بعض الأجانب من الدول المجاورة أنفسهم لعائلة البائس.
كان تعليلهم في ذلك "نحن ننحدر أصلاً من البؤساء ، و لكن جدنا هاجر إلى قلعة وادرين لطلب لقمة العيش و استقر هناك!!!".

في الجانب الآخر من الفريج ، أبناء المعزب أصبحوا على عتبة الفقر. بالكاد يوفرون قوت يومهم.
و لكنهم بالرغم من حالتهم المادية الصعبة إلا أن هندامهم لم يتغير. و سياراتهم الفارهة لم تتبدل.
ظلوا مرفوعين الرأس. إذ كانوا يفضلون البطالة و الموت جوعاً على طلب وظيفة في إحدى شركات البائس.
و ظلّوا يردّدون لكل من زارهم 

"البؤساء كانوا خدماً عندنا ، و سيبقون كذلك. حتى لو ملكوا الدنيا و ما فيها. فالبائس بائس و المعزّب معزّب مهما كانت الظروف".

إلا أن الحسرة كانت تحرقهم من الداخل.
فمهما كانوا بارعين في تمثيلهم ، إلا أن لغة جسدهم كانت أحياناً تفضحهم. 

هنا يأتي سؤال الفلاسفة الأزلي: أيهما أتى أولاً. البيضة أو الدجاجة؟

هذه القصة القصيرة الخيالية تطرح سؤالاً مشابهاً لسؤال الفلاسفة:  
هل الفرد يبرز اسم العائلة؟ أو اسم العائلة يبرز الفرد؟

في الحياة الأكاديمية هناك العديد من الأمثلة المشابهة لأفراد تربويون. بجهودهم و عبقريتهم حوّلوا المدارس الفاشلة إلى مدارس عباقرة. في الحياة السياسية أيضاً هناك قادة حوّلوا مدنهم و دولهم من معاقل للجريمة إلى جنّات.

السؤال هنا: كم منّا لديه ميول "حنظلية"؟ و كم واحد منا يفضل أن يبقى معزّباً؟

تنويه: أسماء كل العوائل والأفراد في هذه القصة القصيرة من نسج خيال المؤلف. 
أي تشابه بينها و بين الواقع هو من محض الصدفة البحتة. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق