كلما استنكرنا ظاهرة سلبية في مجتمعنا ، ضربنا المثل بالدول المتقدمة و "صرّحنا" بأن هذه الظاهرة تحدث هنا و لكنها لا تحدث هناك. في رأيي المتواضع ، إذا تراجعنا خطوتان إلى الوراء و رأينا الصورة الكاملة ربما سنلاحظ بأننا نحن بني آدم كلنا طباعنا و سلوكياتنا متشابهة. و نقاط تشابهنا أكثر بكثير من نقاط إختلافنا. بمعنى آخر ، كلنا لنا "سوفت-وير" واحد و برمجة واحدة.
نظرتنا للغرب على أنهم ناس متحضرون و تقنيتهم متقدمة جداً و عقلياتهم راقية و أخلاقهم عالية و يحترمون حقوق الإنسان ، بعكس دول العالم الثالث. جزء كبير من هذا الكلام صحيح. لكن هناك وجه آخر للغرب ربما لا يعرفه الكثير من الناس ، لا سيما العرب منهم. حبنا أو احترامنا للغرب و انجازاته ربما يعمي أعيننا عن بعض الحقائق الذي يتشابه فيها معنا و هذا أمر طبيعي. كما قال الشاعر...
عين الرضا عن كل عيب كليلة و لكن عين السخط تبدي المساويء
في هذا المقال سأطرح ثلاث نقاط فقط (للمثال لا الحصر) نتشابه فيها مع الغرب. أنا أعنى هنا دول الغرب خلال العقود الثلاثة الماضية حتى يومنا هذا. أوروبا في عصور الظلام و خصوصا حقبة الإستجواب في أسبانيا (The Inquisition) تاريخها "سواد وجه" و موثق في الكتب و الإنترنت. ربما ستلاحظ بأن الغرب - في بعض الأمور - ربما لا يختلف كثيراً عن العرب.
١. الناس تستجيب للحوافز
كتاب "فريكونوميكس" (Freakonomics) ، من تأليف ستيفن ليڤيت و ستيفن دوبنر ، طرح نقطة مهمة جداً في سلوك البشر: الناس تستجيب للحوافز. هذه الحقيقة مؤلمة خصوصاً إذا تضاربت مع المثاليات. فليس غريباً على الطبيب الذي يعمل لساعات طويلة براتب زهيد إن كان كسولاً يتهرب من العمل. و المشكلة تتفاقم إذا كان المرتب موحداً للنشيط و الكسول على حد سواء. في هذه الحالة حتى الطبيب النشيط سيصاب بالإحباط عاجلاً أم آجلاً.
هذا هو السبب الرئيسي لتوجه الأطباء في الكويت إلى القطاع الخاص. ففي النهاية الطبيب مجرد إنسان يحتاج المال لتسديد الفواتير و توفير العيش الكريم لأسرته و شراء سكن حاله حال غيره. التفاني و الشغف في العمل مقابل "ملاليم" لا يكفي.
في كندا عولِجَت هذه المشكلة بنظام الفواتير للأطباء (Billing). فالجرّاح مثلاً بعد إجرائه للعملية الجراحية في المستشفيات العامة ، يرسل فاتورة أتعابه للجهات المعنية للدولة ليحصل على أجرته. في هذه الحالة يعتمد دخل الطبيب على كمية عمله. فهل تحققت "العدالة" للطبيب هنا؟ نعم و لا.
"نعم" لأن التعويض المادي بالطبع منصف للطبيب. و "لا" لأن بعض الأطباء المخضرمين القدامى بدؤوا يحاربون الدماء الجديدة، ذلك لأن الجيل الجديد حتماً سيقاسمهم"الكعكة". هذه الظاهرة برزت في تخصص جراحة القلب. فبالرغم من أن توفر الحاجة لجراحين القلب في كندا ، إلا أن عدد الوظائف المتوفرة لهم محدود جداً. لأن جراحين القلب القدامى لا يريدون من أحد جديد أن "يناشبهم في رزقهم".
هذا الرابط يشرح المشكلة بالتفصيل.
http://www.royalcollege.ca/portal/page/portal/rc/common/documents/advocacy/hhr_attachment6_e.pdf
٢. الإعتزاز بالهوية و تعصب الناس الأعمى لها.
ظاهرة التعصب الأعمى في الدول العربية للجماعة (على أساس الجنس أو الأصل أو الدين أو المذهب …الخ) متفشّية. و نحن نظن بأن الغرب تغلب على هذه المشكلة بالكامل.
في العمل لدي زميل كندي ، من مواليد كندا و عاش حياته كلها في مونتريال. و لكن لغته الإنجليزية ضعيفة و لغته الفرنسية أضعف! سألته: ما هي لغتك الأم؟ فقال لي: لغتي الأم الإيطالية. والداي هاجرا إلى مونتريال (في الإقليم الفرنسي من كندا) منذ ثلاثين عاماً. و كما كانت الأغلبية الإنجليزية في كندا تضطهد الأقلية الفرنسية ، كانت الأقلية الفرنسية بدورها تضطهد الأقلية الإيطالية (الكل يستعرض عضلاته على من هو أضعف منه). لذلك والداي رفضا مخاطبتي بالإنجليزية أو الفرنسية. ترعرتُ في بيت ينطق الإيطالية فقط.
المستشفى اليهودي العام في مونتريال
تأسس إقليم "كيبيك" الفرنسي في كندا أصلاً على يد الفرنسيين الكاثوليك المهاجرين. لذلك موقفهم من المهاجرين اليهود ا(لأقلية) لم يكن جيداً و لأسباب واضحة. فكان المريض اليهودي لا يحصل على نفس العناية الطبية التي يحصل عليها المريض المسيحي. و الطبيب اليهودي الكندي لا يُمنَح فرصة التدريب الإكلينيكي في المستشفيات كبقية زملائه الكنديين المسيحيين.
لذلك قرر أغنياء اليهود بناء مستشفى متكامل لتدريب أبناء جماعتهم. على شرط أن يكون هذا المستشفى مفتوحاً لعلاج كل المرضى دون تمييز أو استثناء ، و مفتوحاً أيضاً لتدريب كل الأطباء من كل الجنسيات و الديانات دون استثناء. المستشفى اليهودي العام مشهور إلى يومنا هذا بجودة تدريبه العالية للأطباء و خدماته الطبية المتكاملة لكل المرضى دون تمييز.
٣. متمردين اليوم ، أبطال الغد: الناس تكره التغيير و تقاومه.
المسيح (ع) حاربته امبراطورية الروم. بعد ذلك أصبحت المسيحية الدين الرسمي للروم. قريش حاربت الرسول (ص). أصبح الإسلام الدين الرسمي لقريش و كل الجزيرة العربية بعد ذلك. الناس كانت و لا زالت و ستظل تقاوم التغيير. لا سيما التغيير الجذري السريع. و الكل لديه أسبابه. و كما ذكرت في السببين أعلاه ، محاربة التغيير أسبابه ربما التعصب و الحوافز.
سأضرب المثل في قسطرة القلب لأنها في مجال عملي.
الأمريكان يتميزون عن غيرهم من دول الغرب بقوتهم في الإعلام و التسويق.
لذلك يظن الحميع بأن الأمريكان هم الأفضل في كل المجالات.
في مجال القسطرة القلبية ، يتم تشخيص و معالجة بعض أمراض القلب بالقساطر. القساطر هي أنابيب يتم إدخالها في شريان الفخذ (Femoral artery) و من ثم تمديدها لوضعها داخل القلب. لسنوات طويلة في كل دول العالم (بقيادة الأمريكان) كانت القسطرة القلبية عن طريق شريان الفخذ (Femoral approach) هي الطريقة المعتمدة.
شريان الفخذ موقعه حساس ، لأنه يمر بجانب مناطق حيوية حساسة (بين الأعضاء التناسلية و البطن) و بجانبه مباشرة تمر أعصاب الفخذ أيضاً. لذلك المضاعفات المحتملة المصاحبة لقسطرة القلب عن طريق الفخذ كثيرة. أخطرها النزيف الداخلي (داخل البطن) الذي قد يهدد حياة المريض. هذا غير أن المريض عليه أن لا يتحرك من السرير لمدة ست ساعات على الأقل بعد انتهاء القسطرة. و بسبب الحجم الكبير لشريان الفخذ ، هناك تقنيات مبتكرة (لكنها مكلفة) لإغلاق فتحة شريان الفخذ بعد انتهاء القسطرة (Perclose/Angioseal).
في الثمانينات من القرن الماضي ،ابتكر الطبيب الفرنسي الكندي "لوسين كامبو" (Lucien Campeau) اسلوب ثوري جديد. ألا و هو القسطرة القلبية عن طريق شريان اليد (الشريان الكعبري Radial artery). بعكس شريان الفخذ ، شريان اليد لا توجد حوله أعضاء حساسة أو أعصاب. و لأن شريان اليد صغير ، لا حاجة لتقنيات خاصة مكلفة لإغلاقه (ضمادة عادية تفي بالغرض). و لأن القسطرة عن طريق اليد ، يستطيع المريض أن يقوم من سريره بعد القسطرة مباشرة. لذلك المضاعفات الناتجة من قسطرة الفخذ تكاد تكون معدومة في قسطرة اليد.
بالرغم من ميزاتها الكثيرة ، إلا أن القسطرة عن طريق اليد لها شعبية قليلة و انتشارها بطيء جداً في الولايات المتحدة ، مقارنة بكندا و دول أوروبا. فلماذا يا ترى؟ هذه هي الأسباب:
١. القطاع الخاص يتحكم بشكل رئيسي في الخدمة الصحية في أمريكا. لذلك "الحافز" هنا استنزاف جيب المريض (أو بالأحرى شركات التأمين) إلى أقصى درجة ممكنة. إبقاء المريض على سرير المستشفى لمدة ست ساعات و استخدام تقنيات مكلفة لإغلاق جرح شريان الفخذ كلها لها مصاريفها و "الحسّابة بتحسب".
٢. قبل إدخال القسطرة في شريان الفخذ ، يتم تثبيت انبوبة داخلية تحوي صمام (Sheath). في أمريكا ، هناك موظفون متخصصون في "سحب" هذه الأنبوبة بعد نهاية القسطرة ، مسماهم الوظيفي "Sheath Pullers". إذا كانت القسطرة تتم عن طريق اليد ، فلن تبقى هناك وظيفة لهؤلاء الاختصاصيون!
٣. القسطرة عن طريق اليد مهارة تحتاج إلى وقت طويل لإجادتها (مقارنة بقسطرة الفخذ). الوقت المطلوب لإجادة مهارة يسمى بالإنجليزية "Learning curve". بعض الاستشاريين الأمريكان القدامى تعوّدوا على قسطرة الفخذ و غير مستعدين لتعلّم قسطرة اليد (لأنها بالنسبة لهم تقنية جديدة). هؤلاء الاستشاريون بدورهم يدربون الجيل الجديد القسطرة عن طريق الفخذ! و هلم جرّا.
الخلاصة
إذا ركزنا على نقاط تشابهنا . أدركنا بأن عقلياتنا تحتاج للتطوير. و ربما سنجعل مستقبل الأجيال القادمة أفضل من حاضرنا.
الخلاصة
إذا ركزنا على نقاط تشابهنا . أدركنا بأن عقلياتنا تحتاج للتطوير. و ربما سنجعل مستقبل الأجيال القادمة أفضل من حاضرنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق