الجمعة، 25 أكتوبر 2013

المفروض



"الأعراف المطلقة" ... مبادئ تتبناها عقولنا.
نكتسبها من البيئة المحيطة (العائلة/القبيلة/المجتمع) لتتحول بعد ذلك إلى أساسيات راسخة في عقولنا لا تتغيّر. هذه الأعراف غير قابلة للإجتهاد أو المناقشة أو الجدل. أسميتها "مطلقة" لأن عقولنا المحدودة لا تفهم مبدأ "النسبية" و إعتمادها على الزمان و المكان.

المشكلة المطروحة هنا عن هذه الأعراف عندما تترسخ في عقولنا ، نصبح على أثرها أمواتاً أحياء (مثل الزومبي). أعرافنا هذه راكدة جافة جامدة أصلب من الأسمنت المسلّح ، لها لونان فقط: الأبيض و الأسود. لا ننتبه للثغرات الرمادية الموجودة فيها. الثغرات التي في بعض الأحيان قد تدمر قانوناً كاملاً من أساسه. الأمر الذي سوّل للنصابين و ضعاف النفوس تسخيرها لإستغلال بساطة الناس لصالحهم.    

نحن نعيش في زمن التقنية سريعة النمو بدرجة مخيفة. العلوم التي يتعلمها إبني الصغير في المرحلة الإبتدائية اليوم لم تكن متوفرة لنيوتن و غاليليو و ابن سينا في زمانهم. إذا يسألني ابني سؤالاً أجهل إجابته ، يستطيع إيجاد الإجابة خلال ثوانٍ معدودة بالبحث في "غوغل" عن طريق "الآيباد". بالرغم من ذلك ، لا نزال نغذي أبناءنا بهذه الأفكار و نعاقبهم (بنيّة حسنة) إذا ناقشوها أو استفسروا عن مصداقيتها.

في زماننا هذا إذا أمرت إبني مثلاً بعمل سخيف أو غير مجدي،  و ناقشني و أفحمني بأسئلته الوجيهة تجاه هذا العمل (باللهجة الكويتية: إذا غزر علي البحر) ، لا أستطيع أن أصرخ بوجهه قائلاً "لا تناقش و لا تجادل ، أنا أبوك و أنا أدرى بمصلحتك". أضعف أنواع الجدال هو "الجدال من منطلق السلطة" (Argument from authority). و إذا نفع هذا "الأسلوب" معي و مع أبي و جدّي قبلي ، فلا يعني بالضرورة أنه سينفع مع أبنائي.   
   
 "الأعراف المطلقة" (التي سأطرح بعضاً منها هنا للمثال لا الحصر) غدت أمثالاً شعبية دارجة تحدد منهج تفكيرنا و بالتالي نمط حياتنا ، و حتماً مصيرنا. ربما نفعت هذه الأمثال أسلافنا الذين كانوا فريسة سهلة للجوع و الجهل و الخوف و المرض. أما في زماننا هذا ، هذه القوانين تعيق تقدمنا. 

العالم العربي بشكل عام (ودول الخليج العربية بشكل خاص) غني بالموارد والثروات. القصور يكمن في العقلية التي تدير هذه الثروات. و كما ذكرت في مقالة سابقة ، الغربيون ليسوا أذكى الناس. وإنما علّمتهم تجاربهم المريرة على مر القرون بعد المحاولة و الخطأ بأن سر النجاح يكمن في تغيير عقلية استثمار الثروات. في الواقع  الأعراف المطلقة (التي نتشبث بها نحن) تبنّاها الغربيون أنفسهم لأجيال عديدة ولا يزال العديد منهم (لا سيما كبار السن) يتمسكون بها.

 إذا أردتَ أن تعرف ما إذا كان الشخص الذي يتحدث معك من أصحاب هذه العقلية المطلقة (الأغلبية الساحقة في مجتمعنا)، تلاحظ في سياق حديثه تكراراً لمفردات مثل "المفروض" و "دائماً" و "بالتأكيد".

الأعراف المطلقة لأنها صارمة و محدّدة (إما أبيض أو أسود) تعطي المؤمن بها إحساساً "كاذباً" بالأمان والراحة. فالغزال حتماً سيشعر بالأمان إذا أقنع نفسه بأن الذي يقف خلفه أرنباً. حتى لو كان الذي يقف خلفه في الواقع أسداً ! (وقتها لن ينفع الندم). تصنيف الأشياء في خانتين فقط (الأبيض والأسود) مريح جداً. اللون الرمادي بدرجاته العديدة تعيس و مكروه لأنه غير مستقر. لكن الحياة مليئة بدرجات الرمادي. تجاهل هذه الحقيقة لن يحل المشكلة.    

سأسرد بعضاً من هذه القوانين المطلقة و ملاحظاتي عليها.    

من علمني حرفاً صرت له عبداً
و حكمة مماثلة في بيت الشعر "قم للمعلم وفّه التبجيلا ، كاد المعلم أن يكون رسولا".
 لا أنكر هنا فضل المعلّم. ربما التعليم هو إحدى الصفات التي ميّزت الإنسان عن باقي المخلوقات. لكن المبالغة في تعظيم المعلّم (خصوصاً في زماننا هذا)  تجعلنا لا إرادياً نتغاضى عن النقاط التالية:

- المدرّس مجرد إنسان له زلّاته و كبواته. غير معصوم و غير منزّه عن الخطأ. 
- المدرّس موظف ، يمارس مهنة التدريس ليكسب قوت يومه. حاله حال أي موظف في أي وظيفة أخرى. 
- المدرّس محترف. و كأي حرفة في الدنيا ، المحترفون منهم الموهوب ومنهم العادي. منهم الشريف و منهم المرتزقة. منهم الصالح ومنهم الطالح. 
- في أحيان كثيرة التلميذ يتفوّق على أستاذه تحت عدة ظروف. و المدرّس إما يعترف بقصوره و يفتخر بهذا الطالب و إما أن يحجّمه و يقلل من شأنه ، حسب درجة كبرياء هذا المدرّس.  

 لذلك تعظيم المدرس و إيصاله إلى مرتبة الرسل فيه شيء من المبالغة. المشكلة هنا تكمن في الجيل القديم من "التربويّون" الذين يديرون الجهات التعليمية في عالمنا العربي ، لأنهم يحتقرون و يذلون الطلبة ويعاملوهم كالعبيد. ينهون تلاميذهم عن خُلُقٍ و يأتون بمثله دون أن يحاسبهم أحد. متغاضين في ذلك عن مبدأ "القيادة بالقدوة" (Leadership by example). أبسط مثال على ذلك الأستاذ الذي يدخّن بشراهة لسنوات و علبة السجائر لا تفارق جيبه ، هو نفسه الأستاذ الذي ينزّل أشد العقوبة على تلاميذه إذا رأى في حوزة أحدهم سيجارة.  

العين لا تعلو على الحاجب
في العالم الثالث و خصوصاً في العقلية العربية ، العربي يبغض مبدأ المساواة و يكرس كل ما بوسعه لإزالته من عقول أبنائه. هذا غير التمسك اللاإرادي بعقلية "العبد" عند البعض. المقارنة الأدبية هنا بين "الطبقية" و "عدم المساواة" بالوضع التشريحي للوجه (العين تحت الحاجب) .
لذلك في مجتمعنا...
الممرض يرى نفسه أقل من الطبيب.
و المرأة ترى نفسها أقل من الرجل.
و الفقير يرى نفسه أقل من الغني.
والضعيف يرى نفسه أقل حقوقاً من القوي. 
و في زمنٍ أُلغِيَت فيه العبودية ، العبد يرى نفسه أقل من الحر.  

يقال في اللهجة الخليجية "الرؤوس نامت والعصاعص قامت"
إشارة الى أن أسياد القوم أصبحوا في القاع  و في المقابل حثالة المجتمع صعدت إلى القمة. 

أليس هذا هو حال الدنيا؟
الفقير يغتني و السيد يُستَعْبَد. 
المرأة تفوقت على الرجل في عدة مجالات بعد منحها حقوقها.
و الأسوَد لا يقل ذكاءاً عن الأبيض. 

حتى يومنا هذا ، إذا تمنّت البنت المتفوقة أن تمتهن التمريض مثلاً ، قال لها أبوها "لماذا يا بنيتي؟ أحسن لك أن تكوني طبيبة".  
ثم نتساءل لماذا التمريض مهنة طاردة!

وطني لو شغلت بالخلد عنه ، نازعتني اليه في الخلد نفسي
 لا أنكر التراث الأدبي العظيم اللي تركه لنا أمير الشعراء أحمد شوقي في حب الوطن. لا سيما الإعلام العربي الذي ساهم في ذلك كثيراً ، مثل قصيدة "موطني" الشهيرة للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان:

موطني .. الجلال و الجمال و السناء والبهاء في رباك 
والحياة و النجاة والهناء والرجاء في هواك

أو "مصر محتاجة لك يا رأفت" قالها محسن ممتاز لتلميذه رأفت الهجان ، الجاسوس المصري في إسرائيل...
الذي أجابه تلقائياً بعبارة "أنا رقابتي سدّادة".
السؤال هنا : لماذا يعيش الإنسان في بلد ليس له فيها رزق أو كرامة؟
هل "وطني" هو المكان الذي ولدتُ و ترعرعت فيه؟
أم "وطني" هو المكان الذي حصلتُ فيه على كرامتي و رزقي؟  

العقلية العربية التي تعلّم الحب المطلق للوطن لها أبعادها. هناك الكثير من العرب ممن وُلِدوا و ترعرعوا على مدى جيلين أو ثلاثة أجيال في الغربة ، و لا يزال ولاؤهم و حبّهم و انتماؤهم لوطنٍ لم يروه و لم يعيشوا فيه! 

الهجرة ليست عيباً. أرض الله واسعة.
كل الكائنات الحيّة تهاجر من البيئة القاسية إلى البيئة المعتدلة و الإنسان لا يُسْتَثنى من هذا القانون.
حتى النباتات تحاول الإنتشار إلى أماكن أفضل عن طريق نشر حبوب لقاحها و بذورها ، و تستعين بالحشرات و الطيور لهذه المهمة. كذلك الإنسان ، يهاجر بحثاً عن الرزق و الحياة الكريمة. "وطني" هو المكان الذي يوفّر لي رزقي و يحفظ لي كرامتي. 

طاعة الوالدين في كل شيء إلا معصية الخالق
طاعة الوالدين مستحبّة ، ذلك لأن الأب و الأم يضعان مصلحة أبنائهم فوق كل اعتبار. لكن علينا أولاً إدراك حقيقة مهمة ، و هي أن الوالدين بشر غير معصومين عن الخطأ (كالمعلّم). هذا غير أن كل جيل له ظروفه الخاصة. لذلك "القرارات" التي نفعت جيل بسبب ظروف معينة تخص هذا الجيل ، ربما تضر الأجيال اللاحقة. أمثلة بسيطة مقتبسة من قصص واقعية توضح وجهة نظري عن طاعة الوالدين منها:

الأم التي ترفض دراسة إبنها في الخارج و تقول له "إذا أنت سافرت ، أنا سأموت". 

الأب الذي يرفض فكرة تعليم إبنه من الأساس ، تعليله لذلك "أريد إبني أن يرعى الحلال أو يدير المزرعة ، ذلك أفضل له من التعليم الذي لن يفيده في شيء".
الإبن الذي يكره مجموعة من الناس ، بالرغم من أنه لم يقابلهم ولا يعرف أصلاً لماذا يكرههم (أو تعلّم أسباباً مزيّفة). يكرههم فقط لأنه "رضع" كراهيتهم من والديه منذ نعومة أظفاره ، و لا حتى يسأل والديه عن سبب بغضه لهؤلاء الناس.

و ما هو"الثأر" إلا كراهية متوارثة بين الأجيال بسبب الطاعة العمياء للوالدين؟  

من جد وجد ومن زرع حصد ، و من سار على الدرب وصل 
المثل الخليجي الموازي لهذا المثل ويحمل نفس المعنى "اللي في الأولي لاعب في التالي تاعب". هذه الأمثال لها صحتها ، لكنها لا تخلو من الإستثناءات. هذا المثل يتغاضى عن عوامل مستقلة مهمة ، ليس لها علاقة بالجد و الإجتهاد. منها الحظ و الظروف و المواهب

كالذي يربح الملايين بعد فوزه بتذكرة اليانصيب. 
أو الذي يربح الملايين لأنه يدير مؤسسة والده الضخمة.
أو الذي يحقق إنجازات ضخمة منقطعة النظير من العدم لأن طريقه أصلاً خالي من العقبات (أساساً غني و لديه نفوذ).   
أو الذي يكسب الملايين لإمتلاكه مهارة / موهبة فريدة من نوعها في تخصص نادر.       

أكبر منك بيوم ،  أفهم منك بسنة 
ليس المقصود "بالفهم" هنا الحكمة و الخبرة فحسب. و إنما الأولوية للأقدمية في كل شيء. 

فالإبن البكر (بمباركة من الوالدين طبعاً) له الحق في إضطهاد و إهانة إخوته الصغار والتجبّر عليهم دون سبب. فقط لأنه وُلِدَ قبلهم.
حتى لو كان هذا الإبن البكر فاشلاً في حياته لقراراته الخاطئة ، و لايستحق بذلك أن يكون مثلاً يُقتَدى به من الأساس. 
لا يقف هذا المثل المتخلف هنا فقط. بل و يمتد إلى الولاء الأعمى للأقدمية. في زمن تتطوّر فيه العلوم بسرعة لا تضاهيها حتى طباعة الكتب العلمية نفسها. في الجراحة على سبيل المثال ، أساليب و تقنيات جراحية تستحدث بشكل دوري. الأمر الذي جعل الجراحين القدامى في وضع محرج ، لأنهم أمضوا سنوات طويلة لإتقان طرقهم الجراحية التي أصبحت حالياً ملغية تحت ظل التقنيات الحديثة. لذلك بعض هؤلاء الجراحين تأخذهم العزة بالإثم و يرفضون التقنيات الجديدة حتى لو كانت تفوق مهاراتهم القديمة التي تعوّدوا عليها. يبررون رفضهم لأي حوار بإستعراض عدد سنوات خبرتهم.

"أنا جراح منذ ٢٥ سنة". 
"أنا أمارس هذا النوع من العمليات منذ ٣٠ سنة".
"في الوقت الذي كانت فيه أمك تبدّل حفاظتك ، أنا كنت جرّاحاً مرموقاً".   

أنا لا أقلل من أهمية الخبرة هنا. لكن الخبرة ليست كل شيء. لا سيما في زماننا هذا حيث أبناؤنا لديهم نبع من المعرفة (الانترنت) لم يكن متوفراً لدينا عندما كنّا صغاراً. فالخبير في زماننا إذا أدلى برأيه في أي موضوع ، فليعلم علم اليقين بأن هناك من يقف له بالمرصاد ليتأكد من صحة آرائه و على استعداد لفضحه إذا كانت آراؤه غير صائبة لأي سبب. قيل في الغرب بأن مهمة أهل العلم الأساسية في الحياة هو البحث عن الحقيقة ، حتى لو كان ثمنها دحض نظرية الخبير "أبو ثلاثين سنة خبرة". 

في الاتحاد دائماً قوة
الحكايات والأمثال الشعبية القديمة تركّز على أهمية الإتحاد (قوم تعاونوا ما ذلّوا). لا سيما القصة الكلاسيكية للأولاد الذين عجزوا عن كسر حزمة من أعواد الخشب المربوطة ، بينما استطاعوا تكسيرها واحدة تلو الأخرى بسهولة بعد فك رباطها. 

كونوا جميعاً يابني إذا إعترى  ...  خطبٌ ولا تتفرقوا آحـادا

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً ... وإذا افترقنَ تكسّرت أفرادا

لنرجع الى أرض الواقع و نسأل أنفسنا ، إذا إتحد طرفان (أو أكثر) ، هل هو إتحاد حقيقي؟
أم انه في الواقع طرفاً قام بإلتهام / ضم / طمس الطرف الآخر؟

على المستوى الإقتصادي (لا سيما دول العالم الثالث) دول فقيرة مكتظة بالسكان إتحدت مع دول غنية قليلة السكان ، فمالذي حدث؟ المواطنون الجياع من الدولة الفقيرة إلتهموا خيرات الدولة الغنية ، لم يتركوا شيئاً لمواطني الدولة الغنية الصغيرة الذين كانوا يعيشون حياة رغدة كريمة قبل هذا الإتحاد. الثروة المحدودة تقسّمت على شريحة كبيرة من السكّان. هذا يفسر لماذا الدول الغنية تفرض  ضوابط و شروط صعبة و كثيرة (أحياناً تعجيزية) للهجرة و التجنيس ، بالذات على مواطني الدول الفقيرة. أشهر مثال على أرض الواقع وحدة مصر و سوريا في عهد جمال عبدالناصر. 

و على مستويات أخرى ، اتحاد الأكثرية مع الأقلية ربما ينتهي بطمس هوية الأقلية. سواءاً كانت هذه الهوية دينية أو مذهبية أو عنصرية أو حضارية أو حتى لغوية. أبسط مثال على ذلك إقليم "كيبيك" (Quebec) الفرنسي في كندا. أهالي هذا الإقليم يكافحون (حتى يومنا هذا) للمحافظة على هويتهم الفرنسية من الإنقراض. لأنهم أقلية تتكلم الفرنسية (Francophone) ضمن أغلبية تتكلم الإنجليزية (Anglophone). بالنسبة لهم المسألة صراع خاسر. فالفرنسي الكندي لا يستطيع الحصول على وظيفة في كيبيك إلا إذا كان يجيد اللغة الإنجليزية. هذا غير بعض الجامعات التي تدرّس باللغة الإنجليزية في كيبيك ، أشهرها و أقدمها جامعة ميغيل (McGill).   

بالملخص ، إذا اتحد القوي مع الضعيف...
ربما القوي يُسْتَنزَف لأن الضعيف يستعين به.
و ربما الضعيف يُضطَهَد و يُستَعبَد لأن القوي يتجبر عليه. 

الدم أبداً لا يصبح ماء
و أمثال مشابهة منها "الظفر ما يطلع من اللحم" و "هذا خشمك حتى لو كان أعوج".

ربما العرب من أكثر الناس اهتماماً بقرابة الدم بكل درجاتها. فأنا مع أخي ضد إبن عمي ، و أنا مع إبن عمي ضد الغريب. و هذا أمر مفهوم. قرابة الدم كانت مهمة جداً للقبائل في الصحراء. "القرابة" عند العرب تعني بالضرورة "الولاء" لضمان البقاء على قيد الحياة  ، في بيئة حارة جافة شحيحة الموارد. يأكل القوي فيها الضعيف دون رحمة. ذلك الصراع من أجل البقاء. لذلك كانت المصاهرة من أنجح وسائل إحلال السلام بين القبائل. لأن القبيلة لا تُغير على قبيلة مجاورة إذا كان بينهم أهالي و صلة رحم. 

أما في عصرنا الحالي ، حيث الموارد وفيرة و التقنية الحديثة طوّرَت نمط الحياة و وفّرت لنا سبل الرفاهية. نعيش في مجتمعات حضرية متعددة الأعراق. يتضح لنا أن صفات كالإنسانية و الصداقة و الكفاءة تضمن لنا حياة أفضل و أكرم ، و هي بالتالي أهم من قرابة الدم. 

أيّهما تفضّل: صديق حميم لا يقرب لك ، تستمتع بصحبته و يقف معك في الشدائد؟ 
أم قريب لك تكره حتى الجلوس معه لفترة وجيزة خلال المناسبات و الأعياد؟

إذا صادفتَ شخصاً في وضع حرج بحاجة ماسّة لأدنى مساعدة (غريق / مفلس / في حالة صحية طارئة).
هل تساعده حتى لو لم يكن بينك و بينه قرابة دم؟

إذا كنتَ صاحب عمل و لديك وظيفة شاغرة.
هل توظّف أخاك الفاشل؟ 
أم توظّف الغريب الذي يستوفي كل شروط الوظيفة؟

إذا جاء رجل محتَرَم و أنت تعرفه جيداً (لكنه لا يقرب إليك) لطلب يد إبنتك أو أختك.
هل ترحب به؟ أم تفضّل زواج البنت من ابن عمّها مهما كانت العواقب؟ 

"تقديس" قرابة الدم ربما لا يلفت النظر كثيراً في الحياة اليومية. على الرغم من سماعنا بين فترة وأخرى عن "فلان"  الذي ترقى مؤخراً لمنصب "مدير عام" في جهة حكومية ، و وظّف كل أبناء قبيلته أو عشيرته أو أسرته في إدارته في اليوم التالي من تولّيه المنصب مباشرة.

الأمر يلفت الأنظار و بشكل مستفز في الظروف الحرجة. على سبيل المثال ، في فترة الغزو العراقي للكويت ، انقسم "الصف" العربي بين مؤيد و معارض لما اقترفه النظام العراقي في حق جاره المسالم. ولكن في المقابل ، الأغلبية الساحقة من العرب استنكرَت الغزو الأمريكي للعراق و شنت حرباً إعلامية ضد الأمريكان.

من المنظور الإنساني ، في الحالتين (الغزو العراقي للكويت و الغزو الأمريكي للعراق) مفهوم الغزو و انتهاك سيادة الدولة واحد بغض النظر عن الأسباب و مصداقيتها (رجوع "الفرع للأصل" أو "تحرير العراق" للبحث عن أسلحة "الدمار الشامل").

لمعرفة المنظور العربي في هذا الخصوص ، سألت أحد إخواننا المفكرين العرب عن إزدواجية المعايير هذه ، فقال لي مفسّراً: الغزو العراقي للكويت كان كالأخ الكبير الذي إعتدى على أخاه الصغير. بينما الغزو الأمريكي إحتلال غاشم من استعمار غريب لبلد عربي شقيق عريق ذو سيادة ، و نحن لا نرضى بذلك! بصراحة: عجز لساني عن التعليق.

الماضي الجميل 
بعكس ما يظنه البعض ، الذاكرة البشرية بطبيعتها انتقائية و ليست تصويرية. بمعنى أن العقل ينتقي ما يتذكره و ينسى الباقي. و في أغلب الأحيان عملية الإنتقاء لا إرادية. و العرب ليسوا إستثناء من هذه القاعدة.

لذلك عندما يتحدث كبار السن عن فترة شبابهم ، سواء أهل الخليج قبل النفط أو مباشرة بعد ظهور النفط ، أو في بقية العالم العربي إبان "عصره الذهبي":
كانت الحياة بسيطة و النوايا صافية.
كانت الناس طموحة و كادحة. و الكل يساعد الكل دون مقابل.
كانت صلة الرحم موجودة.
كانت أسعار السلع معقولة.
كانت الرواتب مرتفعة ، و طمع التجّار لم يكن موجوداً.
كانت ظاهرة الطلاق شبه معدومة.
كانت الناس قوية و بصحّتها.
حتى درجة حرارة الجو في الصيف لم تكن مرتفعة آنذاك كأيامنا هذه.  

ولكن إذا بحثت في التاريخ و سمعت القصص الواقعية من "بعض" كبار السن العقلانيين لتتأكد من صحة "الماضي الجميل" ، تجد بأن الماضي لم يكن جميلاً  على الإطلاق. المجتمع آنذاك كان تحت وطأة الوحوش الفتاكة الثلاثة: الجهل والفقر والمرض.

الحياة كانت صعبة و شاقة.
العامل كان يسعى لاهثاً لكسب قوت يومه.
لا وجود لخطة تقاعدية أو تأمينات إجتماعية. لا وجود لهيئات تعليمية متقدمة ولا لخدمات صحية حديثة. 

نوايا الناس كانت في الماضي (كيومنا هذا) متنوعة بتنوّع الناس أنفسهم.
منهم النشيط و منهم الكسول. 
منهم الطيب ومنهم الخبيث.
منهم المضحّي و منهم الأناني.
منهم المتأني و منهم الأرعَن. 

طمع التجار واحتكارهم لم و لن يتغيّر.

الناس كانت بصحّتها في الماضي؟
لأن قوي البنية كان يعيش ، بينما العليل كان يموت صغيراً من أبسط الأمراض  لعدم توافر أدنى وسائل الطب الحديث.
مريض الصرع كان يتشنج بسبب الجن والعفاريت.
موت الفجأة لم يكن له تعليل غير الأقدار (الله يرحمه ، كان يومه) أو الحسد (عين ما صلّت على النبي).
المرأة كانت تحبل ٢٠ مرة ، و تنجب في حياتها بالمتوسط عشرة أطفال ، ليبقى نصفهم على قيد الحياة على الأقل حتى سن البلوغ.
هذا غير الأوبئة التي حصدت أرواح الآلاف من الأبرياء على مر السنين كالجدري والطاعون والدرن والإنفلونزا. 
الطلاق في الماضي كان نادراً ؟
لأن المرأة كانت مكسورة الجناح مسلوبة الحقوق. تعتمد على زوجها إعتماداً كليّاً.
وصمة العار التي كانت تلازم "المطلّقة" وأهلها فرضَت على المرأة بلع الجمرة لتعيش تحت سقف واحد مع زوج لا تحبّه.
صلة الرحم لم تكن مقطوعة؟
لأن "عميد العائلة" كانت له اليد العليا و السلطة المطلقة في "فرض" لم شمل العائلة على كل أبناء الأسرة و إرغامهم على التجمّع تحت سقف واحد في كل المناسبات ، شاء من شاء و أبى من أبى. هذا غير أن الأبناء كانوا يسكنون في بيوت أهاليهم حتى بعد زواجهم لأسباب مادية و اجتماعية.  

و الجو الصحراوي في الصيف كان و لا زال حاراً لا يرحم.
لم يكن هناك تكييف يخفف من وطأة الحر الشديد.
كان الطعام يتعفّن بسرعة لعدم توفر تقنية التبريد (الثلاجات).  

و بالرغم من كل ذلك ، يبقى التأمل بالماضي "الجميل" من سمات العربي المعاصر. ينقل الآباء صورة محسنة (مزيّفة) لهذا الماضي (بعد تعديلها ذهنياً بالفوتوشوب) للأبناء الذين لم يعاصروا هذه الحقبة التعيسة (لحسن حظهم).     

الخلاصة
هذا المقال لا يشير إلى اقتراب نهاية العالم العربي! إنما بالعكس ، على الرغم من كل العقبات الفكرية سابقة الذكر ، إلا أن الجيل العربي الحالي بدأ يفهم قوانين اللعبة الحقيقية ، و كيّف نمط حياته حسب هذه القوانين و ترك القوانين القديمة البالية وراءه. لكن لا تزال هناك شريحة من العرب تتمسك بالقوانين المطلقة و لن تتنازل عنها مهما كان الثمن. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق