الأحد، 15 ديسمبر 2013

متميّزون محلّيون

  بين الحين و الأخر ربما نصادف رجلاً كبيراً في السن يفتخر بأنه كان يعرف أحد عظماء عصره. مصطلح "عظماء" أقصد به ناس صنعوا التاريخ بإنجازاتهم. في أغلب الأحيان نجد الكثير من أترابهم في الساحة ، لكن العظيم منهم يبرز عن البقية: إما بموهبة نادرة ، أو موقف بطولي ، أو اختراع ثوري ، أو مبادرة فريدة من نوعها.    

في رأيي المتواضع ، تاريخ كل العظماء يحوي عنصرين رئيسيين:
١. مواجهتهم لعقبات و صعاب من كل الأنواع. بمعنى أن طريقهم لم يكن سهلاً.   
٢. كيف تصرفوا / عالجوا / كافحوا / عاندوا هذه العقبات بتسخير الوسائل المتوفرة لديهم. 

  في أول سنة لي خلال غربتي في إيرلندا،  تعرفت على زميل عزيز أكبر مني سنّاً إسمه "عمّار جعفر". كنتُ مراهقاً مغترباً وحيداً غير معتاد على الحياة دون أهلي. عمّار إعتنى بي في تلك الفترة وكأنني أخاه الأصغر. في شقته (حيث كنا ندرس معاً) كانت هناك صورة شخصية على الرف لطفل يشبه عمّار كثيراً. سألت عمّار "من هذا الطفل؟" فقال لي "هذا أخي الصغير مصطفى".

  بضع سنوات مضت. و لم يبق على تخرجي الكثير. قابلت في شقة عمار فتى يافع يشبه عمّار في نبرة الصوت. قال لي بأنه "مصطفى". مصطفى الطفل الصغير الذي كانت صورته على الرف! أتى إلى دبلن لدراسة الثانوية العامة الإيرلندية. طبعاً كل من درس في الخارج يعرف عقبة دراسة اللغة و تحدياتها. ذلك لأن الإنجليزي الذي درسناه في مدارس الكويت آنذاك يختلف عن الإنجليزي "الفعلي" في المملكة المتحدة و ايرلندا.

  ساعدت مصطفى في تعلّم اللغة. هذا أقل شيء قدمته مقابل مساعدة أخاه لي في بداية غربتي. أبهرني بسرعة إستيعابه للمفردات و القواعد و اكتسابها في زمن قياسي. لتقوية اللغة ، نصحته بالقراءة. كانت كتب علوم البحار تحوز على إهتمامه أكثر من أي كتب أخرى. مرت السنوات. و انشغل كل منا في الحياة و متاعبها. في يوم من الأيام لفت نظري في قناة الراي و مجلة "ليالينا" شخص متميّز. وجهه لم يكن غريب عليّ. إسمه "كبير مدربي الغوص الكابتن مصطفى جعفر".

كبير مدربي الغوص الكابتن مصطفى جعفر

  بعدما تخرجت و توظفت في الكويت ، إلتحقت بالبورد الكويتي للأمراض الباطنية (Internal medicine). في سنتي الأولى بعد تخرجي تعرفت على طالب للطب اسمه "جراح الطبيّخ" من جامعة الكويت. كان يحمل في يده رسومات جميلة. سألته "أنت الذي رسمتها؟" هزّ رأسه بالإيجاب. من يومها أصبحنا أصدقاء تجمعنا هواية الرسم و قراءة القصص المصورة (كوميكس).  

  بعدما تخرج د. جراح ، أراد الإلتحاق ببورد الأشعة في الكويت (Radiology). إيماناً منه بأنه سيجد ضالته المنشودة في هذا التخصص. في تلك الفترة كان قد أسّس لنفسه سمعة طيبة في الوسط الطبي بإحترافه للرسم و توظيفه في عدة مجالات منها التوضيح الطبي (Medical illustration) و رسم القصص المصورة خارج النطاق الطبي أيضاً (أسطورة المرأة الأفعى).

  صُعِقَ في المقابلات الشخصية عندما رفضوه مسئولو البورد دون إبداء الأسباب. هذا أمر عادي في الكويت. فمستشفياتنا تعتمد على العمالة الأجنبية في كل التخصصات. و بالرغم من قلة الأطباء الكويتيين نسبياً و إنخفاض المنافسة ، إلا أن "أصحاب" البورد يقبلون فلان و يرفضون علان حسب أجندتهم الخفية دون معايير واقعية ملموسة.

  "لا يضيع حق وراءه مطالب". هذا ما آمن به صاحبي الذي أوصل شكواه على هذا التعسف إلى أعلى المراكز و حصل على حقه بالإلتحاق بالبورد متأخراً عن دفعته ببضعة أشهر. مسئول البورد المحلي في تلك الفترة أرسل له رسالة فحواها بين السطور "لا تتوقع أنك إذا مشّيت كلامك علينا معناها إحنا بنسكت عنك". بدأ معه بعد ذلك مسلسل التطفيش المشهور جداً في كل الجهات الحكومية.

 وقتها كان باب الإبتعاث لبورد الأشعة في ألمانيا مفتوحاً. انتهز صاحبي الفرصة و سافر إلى ميونخ ليبدأ صفحة جديدة هناك. فماذا كانت النتيجة؟ أصدر كتابين في تخصص الأشعة من دار سبرنغر العالمية للنشر (موقع أمازون ١ ، موقع أمازون ٢). هذا غير مجموعة لا بأس بها من الأوراق العلمية.

 لو كان مقبولاً في بورد الأشعة في الكويت ، هل سيتسنّى له إصدار هذه المؤلفات؟  
بعد إصدار كتابه الأول (Congenital Diseases and Syndromes) قابل د. جراح بالصدفة أحد "الجهابذة" الذين ساهموا في تطفيشه. قال له "سمعنا عن كتابك. بغينا نسخة منه عشان ندرّسه لتلاميذنا". أتوقع لسان حال د. جراح قال حينذاك "تو الناس!".

د. جراح الطبيّخ.
  أحد إخواني كان و لا يزال يذهب إلى "الديوانية" مرة كل أسبوع. و في إحدى المرات عرض علي الذهاب معه. كانت "ديوانية" تختلف في قالبها عن بقية الدواوين الكويتية التقليدية. رواد الديوانية جامعيين تخصصاتهم متشابهة و أعمارهم متقاربة و ثقافتهم كانت بالدرجة الأولى باللغة الإنجليزية. عددهم محدود و يجمعهم كلهم شغف واحد: التكنولوجيا. عرّفني أخي على صاحب الديوانية. إنسان محترم دمث الخلق. أسلوبه في الحديث هاديء متروّي ، يذكرني كثيراً بأسلوب الفلكي الراحل كارل سيغن.

د. محمد قاسم
   صاحب الديوانية كانت له نظرة تختلف عن باقي أصحابه. أراد نشر المعرفة بين الناس الناطقة بالعربية دون الحاجة بالضرورة لتعلم لغة أجنبية. العالم العربي في العلوم ، مقارنة بباقي دول العالم في مؤخرة الركب. و السكوت على الجهل يساهم في تعزيزه. لذلك قرر صاحب الديوانية نشر المعرفة و العلم و التكنولوجيا عن طريق الإنترنت بتأسيس "السايوير بودكاست" الذي لديه الآن آلاف المستمعين من كل أنحاء لعالم. هذا الإنسان هو د. محمد قاسم.    

  عندما كنت طبيباً باطنياً (قبل تخصصي في أمراض القلب)، قابلتُ رجلاً رزيناً متواضعاً في منتصف العمر في العيادة الخارجية للمستشفى. كان متابعاً لأحد أقاربه المرضى. أجريتُ لقريبه اللازم من إجراء الفحوصات و صرف العلاج المطلوب. تابعتُ معه حالة قريبه على مدى الأشهر التالية. كان هذا الرجل دائم الإبتسامة مهما كانت ظروفه صعبة. لحيته البيضاء الخفيفة كانت تخبيء نضالاً قديماً لم أعرفه آنذاك. 

  كنت أتصفح إحدى الجرائد في نهاية الأسبوع. و إذا بي رأيت مقابلة طويلة لأديب كويتي معروف بحملته لتشجيع حب القراءة لدى الأطفال. هذا الأديب له مساهماته أيضاً في السوق ، خصوصاً في مجال القصة القصيرة. اتصلت به فور قراءتي للمقابلة. سألته "لمَ لم تقل لي أنك أديب معروف؟". قال لي " أنت رأيتني على حقيقتي و هذا كافي". هذا الشخص هو الأديب الكويتي وليد المسلم.  



  الإنترنت تحوي سيرة العظماء من كل زمان و مكان. الويكيبيديا بالذات مليئة بقصصهم. و لكنني في هذا المقال اكتفيت بالتعريف عن بعض هؤلاء العظماء من بلدي. حصل لي شرف التعرف عليهم شخصياً. معرفتهم مكسب لي لأنهم غيروا حياتي مثلما غيروا حياة الناس. الفرق بيني و بين الغير ، أنني أقول بكل فخر "إي أعرفه. فلان صاحبي". البعض يساهم في إبراز إسم الكويت في سجل الإنسانية. لكن العظيم منهم يبرز إسم البلد أكثر من غيره.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق