الثلاثاء، 26 نوفمبر 2013

المدرسة القديمة

 التقنيات الحديثة في تطوّر مستمر و سريع. التقنية التي يتعلمها جيل اليوم ستصبح قديمة لجيل الغد. لكن التقنية القديمة تهمّشت لسبب وجيه. لأن التقنية الحديثة أثبتت وجودها و أفضليتها من القديمة. نفس الأمر ينطبق على الجيل القديم. لنا كل التقدير و الإحترام للجيل القديم. لكن إذا الجيل القديم لم يحدّث معلوماته و مهاراته و تمسّك بمفاهيمه الغابرة ، سيهمّشه الجيل الجديد عاجلاً أم آجلاً. 

  في اللغة الإنجليزية يُطلَق على الخبير المتمسّك بالمباديء العلمية القديمة مصطلح "المدرسة القديمة" (Old School). التعبير يُستٓخدٓم كإطراء عموماً. ذلك لأن الجيل القديم عادةً يستهزيء بالطرق الحديثة لأنها غير مألوفة لديه. الجيل القديم لا يستوعب بأن العلم "ليس له صاحب". البحث العلمي في تطور مستمر. و الحقائق العلمية المسلّم بها اليوم من الممكن أن تصبح باطلة غداً و العكس صحيح :  المعلومات الباطلة اليوم ربما تثبت صحتها غداً.

  نقطة الجدل هنا أن الغرب أدرك هذه المشكلة خلال العقدين الماضيين فقط. أعني بها مشكلة الجيل القديم الذي يقمع الجيل الجديد. الجيل القديم له أسبابه الخفية و العلنية في شن مثل هذه الحرب. أياً كانت الأسباب ، هذه الحملة ضد "الدماء الجديدة" تستهلك الموارد و تعطّل التنمية و بالتالي  ليست في مصلحة البلد. لذلك الدول الغربية  تهتم الآن بتنمية أفكار و ابداعات الجيل الجديد أكثر من أي وقت مضى. 

  في حال حدوث جريمة ،  الشرطة في العقود السابقة كانت تعتمد في تحقيقها على الإستجواب المباشر و شهود العيان و بصمات الأصابع و الحدس (إحساسي يقول لي بأن فلان متورط في الجريمة). أما الآن ، وسائل التحقيق تطوّرت ، منها البصمة الوراثية بالحمض النووي (DNA)  و الطب الشرعي (Forensic Medicine) و انتشار تقنية كاميرات المراقبة في الأماكن العامة أكثر بكثير من السابق. الأمر الذي استدعى إعادة فتح ملفات التحقيق في جرائم قديمة تمت فيها إدانة أبرياء سُجِنوا لجرائم لم يرتكبوها. و تم إطلاق سراح هؤلاء الذين أثبت الدليل العلمي الحديث براءتهم من الجريمة ، لكن بعد فوات الأوان: بعدما أمضوا زهرة شبابهم في السجون. 

  نفس الوضع في الجراحة. في بعض الحالات الجراحية ، بعض الجراحين القدامى يفضّلون الجراحة المفتوحة على جراحة المناظير. بالرغم من الدليل العلمي الذي يفضل جراحة المناظير التي مضاعفاتها أقل و تعافي المريض منها أسرع و ندباتها الجراحية على الجلد أقل. 

  عشّاق المدرسة القديمة يتمسكون بها و بالسلوكيات المصاحبة لها أيضاً. أساتذة المدرسة القديمة عاشوا شبابهم في حقبة لم يكن فيها التعليم النظامي و التخصصي متوفراً و بسهولة للجميع كما هو الآن. لم تكن هناك هواتف نقالة أو انترنت. كان التعليم محصوراً  لفئة محدودة و رفيعة من الناس. الأمر الذي جعل المتعلّم (و المختص) في تلك الفترة له مكانة مرموقة و إمتيازات خاصة و معاملة مختلفة.  رأي المتعلم في أي موضوع كان حاسماً غير قابل للمناقشة أو الدحض. فلم يكن غريباً على المتعلم في تلك الأيام "نفش ريشه" على الغير. ألقاب مثل "دكتور" أو "بروفيسور" أو "مهندس" أو "محامي" كان لها وقعها على الأذن في فترة كانت أعلى شهادة دراسية عند أغلب الناس هي الثانوية العامة.

"سلوكيات" المدرسة القديمة من الممكن تلخيصها في النقاط التالية:
١. إزدواجية المعايير منهج حياة.
٢. مبدأ "القيادة بالقدوة" مرفوض. 
٣. الإهتمام بالمظهر أهم من الإهتمام بالجوهر.
 ٤. العبقري الأجنبي دائماً أفضل من العبقري المحلّي.
٥. الصورة الإعلامية للعامة يجب أن لا تعكس الواقع.
٦. إختيار رئيس البحث العلمي يتم حسب شروط معيّنة ، " الأقدمية" أهمّها ، و "الكفاءة" ليست منها. 
٧. الكبير كلمته مسموعة حتى لو كان غبياً. و الصغير كلمته مقموعة حتى لو كان عبقرياً.   
٨. الكبير يفهم في كل شيء. حتى في الأمور الخارجة عن اختصاصه (الجدل من منطلق السّلطة).
٩. الإعتماد على العاطفة و الأحاسيس و المعتقدات الشخصية و المنطق في اتخاذ القرار ، بدلاً من التجربة العلمية. 
١٠. يبقى الحال العام على ما هو عليه. القديم مقبول و الجديد مرفوض. واللي مش عاجبه يخبط راسه في الحيط!

ما هو العامل المشترك لكل سلوكيات المدرسة القديمة المذكورة أعلاه؟
سلوكيات المدرسة القديمة تشير إلى النفس البشرية "الأمّارة بالسوء". بمعنى أن الإنسان بطبيعته غالباً ما يميل إلى الفساد في قراراته لخدمة مصالحه  الشخصية ، ما لم يضع لنفسه ضوابط تردعه. و بالضوابط هنا أعني استراتيجيات البحث العلمي التي تأسّست عليها المدرسة الحديثة. أما عن سلوكيات المدرسة الحديثة فإنها عمداً تناقض كل سلوكيات المدرسة القديمة

في عالمنا العربي قبل عدة عقود ، كانت المدرسة القديمة البديل الأمثل للجهل و الأمّية و لأسباب واضحة. أما الآن ، المدرسة الحديثة بالرغم من انتشارها صورياً ، إلا أنها عاجزة عن تطوير واقعنا العربي و لسببين أساسيين:

١. أتباع المدرسة القديمة متمسكون بمناصبهم بالنواجذ و يقمعون الدماء الجديدة الناهضة.

٢. أتباع المدرسة الحديثة من جيلنا الحالي متمسكون بسلوكيات المدرسة القديمة (ما طاح ، إلا انبطح)! 

بوجود هاذين السببين ، لن ترقى الجامعات العربية إلى مستوى نظيراتها من الجامعات الغربية. و بالتالي سنظل نحتاج لإبتعاث أبنائنا و بناتنا للدراسة في الخارج و في كل التخصصات ، لا سيما الطب. صحيح أن مباني جامعاتنا آية في الجمال المعماري الحديث (خصوصاً في دول الخليج العربية) ، إلا أن العقول التي تدير هذه الصروح التعليمية لا تزال تعبد المدرسة القديمة من أيام العصر البرونزي ، وتبرمج تلاميذها عليها.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق