نشاهد على قناة الناشيونال جيوغرافيك و اليوتيوب القط الذي يطارد ذيله دون توقف ، والأرنب الذي يحاول الوصول إلى الجزرة المعلّقة بخيط أمامه دون كلل. نضحك على هذه الحيوانات و لسان حالنا يقول "نحن بشر. نحن أرقى من أن نتصرف بهذه الطريقة المتخلفة". و لكن هل هذا الكلام صحيح١٠٠٪؟
أمثلة
طالب الطب يفني سنوات شبابه في دراسة طويلة لا تنتهي. سنوات من العناء و "الكرف" و تحمّل الإهانات من الذين يعلونه رتبة. و يصر على إكمال دراساته العليا في الغرب حتى لو تعطّلت بعثته لسنوات طويلة. كل ذلك لأمله في ارتداء المعطف الأبيض و الاستمتاع بالهيبة المصاحبة للقب "دكتور". طالبة الطب ترفض الزواج في سبيل إكمال المسيرة المهنية نفسها.
المغترب الآسيوي في دول الخليج العربية يعمل ١٦ ساعة يومياً دون إجازة. على "أمل" أن يرجع لأهله بعد سنوات قليلة غنياً مرفوع الرأس. معه ما يكفي من المال لشراء منزل أو بدء تجارة أو الزواج.
البنت الصغيرة يزوجوها أهلها رجلاً مسنّاً لا تحبه ، لتنجب منه ١٥ طفلاً. تتحمل المعاناة على مر السنين لأن أهلها أقنعوها بأنها "ستحبّه" مع الزمن ، و إن لم يتغير شعورها تجاهه ، فعلى الأقل بوليصة تأمينها أبناؤها ، أملها في المستقبل.
الشباب "الأحرار" في الدول القمعية يكافحون الديكتاتور الحالي. يجاهدون لنشر الحرية بين الناس و يوفرون العيش الكريم للشعب. و المواطن البسيط الجائع المغلوب على أمره يسمع وعودهم الجميلة في خطبهم الحماسية الرنانة التي تجيّش العواطف. يصدّقهم و يحارب الديكتاتورية الغاشمة معهم و من أجلهم.
المواطن الخليجي يؤمن بفكرة "البيت". بعكس بعض العرب الذين يكتفون بالشّقة. الخليجي "يجب" أن يعيش في بيت مهما كان الثمن. يقترض هو و زوجته مبالغ ضخمة. يرهن كل ما يملك. يعيش في حالة تقشّف. كل ذلك في سبيل شراء "بيت العمر".
الأصلع الوسيم يؤمن بأن الشعر سر الجمال. لذلك يغطي رأسه بأي طريقة ممكنة (شعر مستعار ، غترة + عقال ، قبعة…الخ).
تمضي السنين بسرعة غير ملحوظة
حياة الإنسان ما هي إلا "وميض" في عمر الأرض و الكون.
و طالب الطب أصبح طبيباً. ولكن بعد الجامعة بدأت سنة التدريب ، تلتها سنوات التخصص العام و التخصص الدقيق و تخصص-التخصص الدقيق (sub-sub-specialty) في الغربة. ليجد نفسه على مشارف الأربعين من العمر وهو لا يزال جالساً في قاعة المحاضرات يدوّن ملاحظاته في دفتره أو حاسوبه الشخصي. بينما أترابه في المهن الأخرى يجهزون خططهم للتقاعد!
و زميلته الطبيبة سارت في نفس الدرب. "طابور" الرجال الراغبين في الزواج منها إضمحل تدريجياً مع الزمن. لكنها مكرسة كل حياتها في المستشفى.
و المغترب الآسيوي تصله رسائل من أبنائه الذين تخرجوا من الثانوية و دخلوا الجامعة. يريدون المزيد من المال لتغطية مصاريف الدراسة. وقتها يتذكر أنه عندما ترك أبناءه للعمل في الخليج ، كانوا في سن الرضاعة.
و البنت الصغيرة التي تزوجت و ظنّت بأن كفاحها سينتهي برعاية أبنائها لها. هرمت و أصبحت "جَدّة" تكافح لترعى أحفادها (بينما هي بحاجة لمن يرعاها) ، ذلك لأن أبناؤها يكافحون ، حسبهم في عملهم لتكوين أنفسهم و إثبات وجودهم في هذا العالم الذي لا يرحم.
و الضباط "الأحرار" قلبوا نظام الحكم بنجاح. قتلوا الديكتاتور و أبادوا جلاوزته. ليتربّعون منتصرين على عرش السلطة. و يكوّنوا بذلك ديكتاتورية العهد الجديد. الديكتاتورية هي نفسها ولكن بحلّة جديدة و وجه جديد و أسماء جديدة. المواطن البسيط المغفّل لا يزال يشجعهم و يدعو لهم بالتوفيق ، و يصفق لهم ، لأنه يؤمن بمصداقية وعودهم المزيفة.
و الخليجي بعد دفعه لآخر قسط لقرض البيت الذي اشتراه منذ عقود. رجع لأهله فخوراً مرتاحاً. لأن البيت أصبح أخيراً ملكه بالكامل (لا طالب و لا مطلوب). لكنه قضى شبابه كله و استهلك كل صحته و ضحّى بمتع الحياة فقط لتسديد هذا القرض. و بعد انتهاء السداد ، أخبرته زوجته بحاجتهم للإقتراض مجدداً لترميم البيت نفسه!
و الأصلع لم يزدَد وسامة. حتى بعد عملية زراعة الشعر.
مالقصد من وراء هذه الأمثلة؟
لا يأس مع الحياة و لا حياة مع اليأس
قائل هذه العبارة أصاب قلب الهدف دون منازع. ذلك لأننا بني آدم نتنفس الأمل و نقتات عليه ولا نعيش بدونه. و المرء إذا آمَنَ في مبدأ أو قضية من الصعب عليه إعادة حساباته و تقييم وضعه. كالقط الذي يؤمن بأنه حتماً سيصطاد ذيله ، أو الأرنب الذي يؤمن بأنه حتماً سيلتقط الجزرة.
طبعاً هذه الأمثلة افتراضية بحتة و نتائجها ليست حتمية. فالحظ و الأقدار و ظروف الزمان و المكان كلها عوامل تلعب دوراً كبيراً في تقرير المصير. المشكلة هنا في المحتالين و ضعاف النفوس (و السذّج أيضاً) الذين يعرفون قيمة الأمل و كيفية تسويقه لليائس. حتى إذا كان هذا "الأمل" مزيفاً. القلة القليلة من الناس تفهم "اللعبة" و تعيش حياتها حرة خالية من الآمال الكاذبة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق