الاثنين، 2 ديسمبر 2013

انت غلطان

  بيئة عملي تتطلب التعرض للأشعة السينية (أشعة إكس) معظم الوقت. لذلك يستوجب علي ارتداء سترة واقية مبطّنة بالرصاص. هذا بالإضافة إلى استخدام نظارة طبية خاصة تحمي العيون من الإشعاع. في مقر عملي حالياً طلبت مني رئيسة الممرضات قياسات نظري كي يتسنى لهم تفصيل نظارة طبية خاصة لي. طلبوا مني فحصاً لما يسمّى بالبعد بين البؤبؤين (pupillary distance - PD).  

  ذهبتُ إلى محل للنظارات و طلبتُ من أخصائي البصريات إجراء هذا الفحص لي. قال لي أخصائي البصريات في المحل غاضباً "ممنوع بحكم القانون هنا في إقليم كيبيك قياس البعد بين البؤبؤين ، لذلك أطلب منك بأدب الرحيل". تفاجأت من ردة فعله غير المتوقعة والمبالغ فيها. فأنا لم أطلب منه تعليمي كيفية بناء ترسانة نووية مثلاً. كل ما طلبته كان قياس بسيط للعين و ذلك لمصلحة عملي بصفتي طبيب يتعرض للإشعاع يومياً.

  لأنني لا أفهم في علم البصريات ، بحثت في محرك "غوغل" عن ما قاله لي أخصائي البصريات "أبو العرّيف".  اكتشفت خلال دقائق بأن الفحص المطلوب يستغرق من الوقت عشر ثوان فقط. و لا يوجد أي قانون في اقليم كيبيك (بل و في العالم كله) يمنع هذا الفحص. منتديات أخصائيي العيون فضحتهم. وضّحت بصريح العبارة أن الزبائن يجرون هذا الفحص عندهم في محلات النظارات مجاناً و بنتائجه يطلبون نظاراتهم من مواقع الإنترنت لأنها أرخص بكثير. لذلك فرضت بعض المحلات رسوم مقابل إجراء هذا الفحص الذي كان في السابق مجاناً. محلات أخرى تشترط على الزبون شراء النظارات من المحل في حال طلب الفحص. 

القصد من هذه القصة القصيرة
  للأسف حتى يومنا هذا ، الكثير من أصحاب الخبرة و القرار يظنون بأنهم إذا أدلوا بتصريح أو أصدروا قرار ، فلن يكون هناك من يبحث في صحة تصريحاتهم و قراراتهم. طبعاً في الدول القمعية و الأنظمة الاستبدادية على كل المستويات هذا الأمر صحيح و مقبول. لأن "اللي في أمه خير" يعارض "صاحب القرار". هنا يأتي معنى "أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر". 


مقطع من مسرحية سيف العرب

  أما في دول المؤسسات و الأنظمة الديمقراطية ، المسئول محاسَب و مفضوح على كل كلمة غبية أو تصريح متخلف أو قرار جائر و متعسّف. في عصر التقنية المتسارعة و الانترنت ، المعلومات متوفرة للجميع و بكبسة زر. و اليوتيوب يصيد زلّة كل لسان. لذلك المسئول المستبد مفضوح للجميع. يا ما شاهدنا القنوات الأمريكية وهي تسخر من الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الإبن الذي كان يفتقر للفصاحة و قوة الإرتجال في تصريحاته.  

في الأوساط العلمية ، اذا استخلص العالِم نتائجه النهائية لبحثه العلمي ، أمطروه زملاؤه بالأسئلة و النقاشات التي تضرب صميم بحثه من الأساس (Peer Review). لذلك العالِم عليه مراجعة طرق بحثه و نتائجه عدة مرات قبل عرضها للعامة ليحفظ على الأقل ماء وجهه. بينما بعض علمائنا "الفطاحل" يطلقون صواريخهم  إحم ، عفواً ، يطلقون تصريحاتهم ، و يظنون بأن أحداً لن يحاسبهم. الانترنت ليست فقط منبعاً للمعلومات المجانية ، و إنما أصبحت أيضاً متنفساً لهؤلاء للأحرار المتهكمين الساخرين الذين كانت أفواههم مكممة قبل بزوغ شمس الانترنت. يستطيعون السخرية من العلماء المتسلطون تحت أسماء مستعارة و هويات وهمية.   

  باللغة الانجليزية كلمة "Authority" تعني "سُلطة" ، و تعني أيضاً "خبير" أو "عالم". ربما أصل التسمية المشتركة هي أن العالِم و السلطة لهما عامل مشترك: الناس تستمع لرأيهم و تمتثل لأوامرهم دون نقاش. سلوك الناس هذا هو جزء من سياسة "القطيع". فالجماعة بطبيعة الحال تشعر بالأمن و الأمان إذا إتبعت الشخص الفاهم. أصدقائي في المسائل الفقهية يقولون "حطها في رأس العالم و تعال سالم" (المقصود بالعالم هنا هو عالم الدين).  

رسالتي لكل "خبير" متجبّر 
١. إذا ظهرتَ  طال عمرك للملأ بهيبتك الإعلامية الجبارة و ألقابك المهنية الرنانة (دكتور / بروفيسور / عقيد / الطفل المعجزة...الخ) و أدليتَ بتصريحاتك النارية. هل تعتقد فعلاً  بأن أحداً لن يبحث في صحة كلامك أو عن مصداقية شهاداتك الدراسية أو خبرتك العلمية و العملية في مجالك؟

٢. عصر "الجدل من منطلق السلطة" (Argument from authority) راح و ولّى إلى غير رجعة.

٣. عبارة "نفّذ أوامري دون أن تقلدني" (Do as I say, not do as I do) ليس لها معنى في عصرنا الحالي.
"القدوة" يفعل و الناس تقلده. شئتَ أم أبيت.

و حتى إذا قرارات هذا المسئول المتجبر تنفّذَت. 
فهو حتماً سينقش اسمه في التاريخ ، مخلداً نفسه بقراراته الغبية غير المدروسة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق