الأحد، 24 نوفمبر 2013

خلك موهوب

في أحيان كثيرة عندما أدرّس أساسيات أمراض القلب لطلبة الطب أو الأطباء المقيمين ، يصفونني بأنني "ذكي" أو "متميّز".

و عندما أنكر هذه الصفات يصفونني بالمتواضع. المسألة أصلاً لا علاقة لها بالتواضع. الأمر الذي أوحى لي كتابة هذا المقال البسيط لأوضح وجهة نظر مهمة ربما تفيد البعض. لا سيما زملائي الأطباء في بداية مشوارهم المهني. ما سأشرحه لا يقال في قاعة المحاضرات. لكنه واقعي حتى النخاع. ربما أكثر ما يميّز الإنسان عن بقية المخلوقات رغبته في تطوير نفسه. والتطوير بالضرورة يعني تعليم الغير.

إذا أردتَ أن تجعل لحياتك معنى و رغبتَ في العلم ، ضع في بالك ثلاث أسئلة أساسية. 

السؤال الأول: من الذي يحدد مستواك و يقرر مصيرك؟

 لا يعتمد التلميذ المجتهد على أستاذه "القدوة" في اكتساب المعلومات فحسب. و إنما يهتم أيضاً لرأيه و تقييمه (بالإنجليزية feedback). فإذا قيّم المدرس تلميذه بعبارة "إبقى قابلني إزا فلحت"، ربما هذا التقييم سيؤثر على أداء الطالب في المستقبل سلبياً. 

أطلق علماء النفس على هذا التأثير مصطلح "النبوءة المحققة لذاتها" (self-fulfilling prophecy).

فإذا كان "القدوة" ذو وزن و قيمة في حياة التلميذ ، سيطبق هذا التلميذ لا إرادياً ما يتنبأ به هذا القدوة. 

لنربط الآن حقيقتين مهمتين معاً
الحقيقة الأولى: النبوءة المحققة لذاتها.

الحقيقة الثانية: البشر لا يعلمون الغيب و غير معصومين عن الخطأ. 

من الوارد جداً للقدوة  أن يكون مخطئاً في رأيه أو حكمه أو تقييمه لأداء تلميذه. هذه الإحتمالية تزداد إذا كان المدرّس لديه أصلاً تحفظات مسبقة ضد هذا التلميذ. الجانب الإيجابي لهذا الربط يفسح للتلميذ المجال لتحديد مصيره بنفسه و تكذيب "نبوءات" قدوته و ربما التفوق على أستاذه أيضاً في يوم ما.  

  في البرامج الفنية لإستعراض المغنيين المغمورين مثل "أميريكان آيدول" أو "إكس فاكتور" و ما شابهها من البرامج في اللغات الأخرى (منها اللغة العربية) تبحث عن المواهب الدفينة. لجنة التحكيم فيها تتكون عادة من ثلاث إلى أربع فنّانين مشهورين. يُشتَرط في أحدهم أن يكون وقحاً و كلامه "سم في البدن".

يستمتع و يتفنن هذا الحَكَم الوقح  في شتم و تهزيء المتسابقين الذين يفتقرون للموهبة. و يكتفي بإبتسامة فقط للموهوبين منهم (داق الثقل). فإذا كان هناك فرضاً متسابق موهوب فعلاً و لكنه لم يفز في هذا البرنامج ، فهل معناها  أن رأي لجنة التحكيم فيه كان صائباً؟ المسخرة في الموضوع أن أعضاء لجنة التحكيم أنفسهم ربما يفتقرون للموهبة. حصلوا على نصيبهم من الشهرة في الوسط الفني بوسائل أخرى غير الموهبة مثل الحظ والأقدمية و المحسوبية وغياب المنافسين في زمانهم. 

في الأوساط العلمية ، تحليل و نقاش و نقض تصريحات "القدوة" يشكّل حجر أساس البحث العلمي. و الحال لا يختلف في هذا السياق عن النجاح الشخصي و تحقيق الذات. 

السؤال الثانيأين المدرّس الممتاز؟

 عندما تخرجت من بورد الأمراض الباطنية ، أبلغتُ رئيس القسم في أحد المستشفيات الحكومية رغبتي في التخصص بأمراض القلب و  العمل في وحدة العناية القلبية (CCU) كمرحلة انتقالية قبل الإلتحاق ببرنامج زمالة أمراض القلب. قال لي "إزا كنت عايز تشتغل في وحدة السي سي يو لازم تبدأ من الصفر لأنك ما تعرفش حاجة في الألب".

  مستواي في أمراض القلب في تلك الفترة فعلاً لم يكن عالياً. لكن رئيس القسم آنذاك كان مشهوراً بتفاديه المتعمّد لتدريب أطباء البورد. و لأنه لم يذكر أسباب رفضه تدريبنا. وقع  استنتاج الأسباب على عاتقنا نحن المتدربون. المضحك المبكي في الموضوع أن هذا الإستشاري نفسه كان دائم التذمر من تدني المستوى التعليمي للأطباء المتدربين. سؤالي له: كيف تتذمر من مشكلة أنت سبباً أساسياً فيها؟ علّمني أسرار الصنعة ثم إنتقدني. لا تنتقدني قبل أن تعلمني.

مع العلم ان رئيس القسم نفسه ترقّى بشهادة عضوية الكلية الملكية البريطانية (MRCP) والتي يحصل عليها الطبيب عادةً  بالدراسة المنزلية دون تدريب مهني منظّم ومقنن. شهادة العضوية البريطانية هذه بحد ذاتها لا قيمة لها في بريطانيا حالياً. إذ أن المملكة المتحدة لديها برامجها التدريبية المهنية المكثفة المعتمدة الخاصة بها و تسمى "CSST".  

سافرت إلى المملكة العربية السعودية و التحقت ببرنامج الزمالة التخصصية لأمراض القلب للكبار (adult cardiology). و من حسن حظي أصبحت تلميذاً لأروع أستاذ لأمراض القلب: د. بهاء فاضل. 

علّمني د. فاضل التخصص على أصوله بطريقة مبسّطة أشك في قدرة الكثير على مضاهاتها. المدرس الممتاز لا يبسط المعلومة فحسب ، بل و يعمل على صقل المواهب الدفينة لدى تلاميذه. ليستوعب كل تلميذ المعلومة على طريقته الخاصة. كل تلميذ لديه مواهب دفينة تحتاج لمن يصقلها.

قال فلاسفة الشرق الأقصى منذ القدم "لا يوجد هناك طالب سيء. فقط هناك مدرس سيء"
 There is no such thing as a bad student, only a bad teacher


د. بدر المهدي (يمين): جائزة أفضل طبيب زمالة لأمراض القلب لسنة ٢٠١٢
د. بهاء فاضل (يسار) جائزة أفضل مدرس لزمالة أمراض القلب لسنة ٢٠١٢

السؤال الثالثالتكرار يعلم الشطّار

  ربما المعنى الموازي لهذا المثل في الإنجليزية هو "الممارسة سر الإتقان" (Practice makes perfect).

تعلّم مهارة جديدة أو علم جديد ربما يكون صعباً في بدايته. لكن الصعوبة تتلاشى تدريجياً بممارسة تلك المهارة. إلى مرحلة عندما تُمارَس المهارة تلقائياً دون تفكير واعٍ. لذلك الجراح الذي يمارس الجراحة منذ ثلاثين سنة مثلاً أبرَع من الطبيب المتدرب سنة أولى في بورد الجراحة.

القكرة من تكرار دراسة نفس المعلومة أو ممارسة نفس المهارة بأن التكرار يُظهِر "نَمطاً" معيّناً (pattern) في سيل المعلومات. التعرف على هذا النمط يسهّل استيعاب المعلومة. 

- في المرحلة المتوسطة (على أيامنا) تعلم اللغة الانجليزية للمرة الأولى كان صعباً جداً بالنسبة لي.

- في كلية الطب قيل لي بأن الدراسة صعبة لأنها باللغة الانجليزية ، و مطلوب مني حفظ اسم كل عظمة و عضلة و عصب و عضو في جسم الإنسان في مادة التشريح (anatomy). 

العبقرية تكمن في اكتساب المعلومات في زمن قياسي.
مثلاً بعض الأطفال الذين يتخرجون من الجامعة بشهادات الماجستير و الدكتوراه قبل سن البلوغ.

العبقرية تكمن في إبتكار مفاهيم علمية ثورية جديدة. 
مثلاً أينشتاين و نظريته النسبية.

العبقرية تكمن في في إتقان مهارة معينة دون تدريب مسبق. 
مثلاً موزارت (Mozart) و عزفه على الآلات الموسيقية.

أما الإنسان الذي يقرر مصيره بنفسه.
و يتحدّى آراء النقّاد الراغبين في إحباطه مهما كانت أسبابهم.
و يتتلمذ على يد أفضل الأساتذة في مجاله.
و يصقل معلوماته و يتقن مهاراته بالتدريب المستمر.
ربما صفاته الحميدة كثيرة. لكن "العبقرية" ليست منها. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق