الأربعاء، 22 يناير 2014

خلك صانع المطر

  سكاّن أمريكا الشمالية الأصليون (المعروفين سابقاً بالهنود الحمر) كانوا خلال مواسم الصيف و الجفاف في العصور القديمة يطلبون من ساحرهم إنزال المطر. و هو كان ينفذ طلبهم بممارسة رقصات معينة و شعائر خاصة لتحقيق هذا الغرض. و في حال نزول المطر، عامة الناس في تلك الفترة كانت تصدق بأن الساحر هو فعلاً من أنزل المطر. لذلك ليس غريباً بعد ذلك إذا انتشرت سمعة هذا الساحر إلى القبائل الأخرى المجاورة ، التي تلجأ أيضاً إلى الساحر نفسه لقضاء حوائجها الأخرى. فربما سحره الذي أنزل المطر سيحقق لهم رغباتهم و أمنياتهم.

في وقتنا الحاضر نحن نعلم بأن هطول الأمطار ظاهرة طبيعية لها مواسمها و أسبابها. نحن نعلم أيضاً أن الشعوذة و الرقص حول النار ليلاً  ليسا من هذه الأسباب. لكن للأسف مبدأ "صانع المطر" لا يزال محفوراً في جيناتنا. أعني بذلك "تأليف" تفسيرات خاطئة للظواهر المحيطة بنا. و لا تقف المصيبة هنا. بل تمتد أيضاً إلى البحث عن الأسباب الخاطئة لهذه الظواهر.  

 إذا إبتكر شخص موهوب "مفهوماً جديداً" غيّر به مجرى التاريخ إلى الأفضل. كل من يستفيد من هذا المفهوم سيتبع خطى صاحب الفكرة و ينهج نهجه. هذا أمر طبيعي و صحي. على سبيل المثال: طبيب اخترع علاجاً جديداً أنقذ به الناس من مرض قاتل. أو مدرس ابتكر طريقة جديدة غير تقليدية لتسهيل دراسة المواد الصعبة. أو فيزيائي استنتج نظرية جديدة لتفسير بعض الظواهر الفلكية. 

عامة الناس تظن بأن المؤسسات التعليمية التي درّست / درّبت هؤلاء النوابغ كانت السبب الأول و الأخير في نبوغهم و تميزهم. المؤسسات التعليمية اكتسبت سمعة طيبة بسبب الطبيب و المدرّس و الفيزيائي الذين تخرجوا منها. مثل الساحر "صانع المطر" الذي اكتسب سمعة طيبة لأن الأمطار نزلت "بفضله و مجهوده".

المؤسسات التعليمية من مدارس و جامعات لها دور لا ننكره في صناعة العظماء.
لكنه دور ثانوي مقارنة بعوامل أخرى أهمها الحظ و الصدفة و و العنصر البشري. 

١. الصدفة: 
مثال ١: الأطباء في الكثير من الأحيان يكتشفون علاجاً ثورياً لمرض قاتل بالصدفة البحتة دون تخطيط مسبق. ربما أشهرهم كان بارنيت روزنبيرغ عندما إكتشف علاج السرطان "سيسبلاتين". الذي فتح بعدها باب العلاج الكيماوي للسرطان على مصراعيه.

مثال ٢: حساب عمر الكون عن طريق أشعة المايكرويف الكونية بالصدفة على يد العالمين أرنو بينزياس و روبرت ويلسون ، الأمر الذي جعلهما يفوزان بجائزة نوبل سنة ١٩٧٨.

٢. العنصر البشري: 
بعض الأفراد أذكياء و نوابغ منذ ولادتهم. يفكرون بطرق غير تقليدية. 
يبرزون عن غيرهم بغض النظر عن المدارس  التي التحقوا بها.

٣. الحظ:
و يشمل ذلك الظروف المحيطة و الموقع الجغرافي و الفرصة المتاحة.
الفرد الذكي و الموهوب لن يبرز للسطح اذا لم يكن لديه الحظ الكافي.
للمثال لا الحصر: باراك أوباما لن يكون رئيساً لأمريكا إذا كان مولوداً في بلد أبيه. 
و ألبرت آينشتاين لن يبرز للعالم إذا لم يهرب من ألمانيا النازية. 
و د. مجدي يعقوب و د. أحمد زويل ربما لن يعرفهما العالم إذا بقيا في بلدهما الأم.  

جامعة "ميغيل" في كندا تفتخر كل الفخر بأن مؤسس التعليم الطبي الحديث في العالم كله "السّير ويليام أوزلر" درس الطب فيها و تخرج منها. لكن ما لا يعلمه الجميع بأن السّير ويليام أسّس نظام التعليم الطبي الحديث عندما سافر للعمل جامعة "جونز هوبكينز" في الولايات المتحدة الأمريكية حيث كان من المؤسسين الأربعة لها. ويليام أوزلر رفع من شأن جامعة ميغيل ، و ليس العكس. 

اللغة الفرنسية بالرغم من كبواتها الكثيرة في تركيبة قواعدها و نطقها للحروف و قراءتها ، إلا أن أروع نوابغ العالم كانوا فرنسيين من أمثال ديكارت و ڤولتير و لابلاس و باستور. هؤلاء النوابغ رفعوا من شأن اللغة الفرنسية و أوجدوا لها شعبيتها و ليس العكس.    

أولياء الأمور يريدون توفير أفضل تعليم لأبنائهم. لذلك يبحثون بكل إخلاص و حسن نية عن "صانع المطر" الذي حتماً سيصنع من أبنائهم نوابغ. يفرضون على أبنائهم دراسة اللغات الأجنبية و الإلتحاق بالجامعات الأجنبية. دون الإنتباه إلى العوامل الأخرى المذكورة سابقاً. هذا السلوك ربما يعلل ظاهرة عقدة الأجنبي (عقدة الخواجات).

الإداري الذكي هو من يدرك بطلان مبدأ صانع المطر ويبحث عن العنصر البشري الذي سيرفع من شأن مؤسسته أينما وُجِد. لذلك الأندية الرياضية تدفع الملايين للتعاقد مع الرياضيين المحترفين على مستوى عالمي. و الجامعات العريقة تدفع أعلى الرواتب لاستقطاب الأساتذة المميزين للتدريس فيها لإعطائها سمعة لامعة.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق