السبت، 18 يناير 2014

شرايين القلب: نسلك؟ أو نغير المسار؟

  لا أنكر أنني من عشاق البحث العلمي و الطريقة العلمية في التفكير. ذلك لأن الطبيعة فيها من العجائب ما لا يستطيع بلوغه حتى خيال أكثر الروائيين إبداعاً في التاريخ. لذلك أحب الإستماع مثلاً إلى "سايوير بودكاست".

  كما أنني أحب متابعة هؤلاء الذين يساهمون في نشر و تعميم "حب المعرفة" بين عامة الناس (Popularization of science). ربما من بدأ هذه الحركة على المستوى العالمي في عصرنا كان الفلكي الراحل كارل سيغن ، و يسير حالياً على نهجه على المستوى المحلي د. محمد قاسم و د. فيصل الصايغ. أنا لا أستطيع بلوغ مرتبة هؤلاء الناس ولا أستطيع نشر و تبسيط العلم كما يفعلون. أنا مجرد متابع و مشجع. هم أساتذتي و أنا تلميذهم.  

  عامة الناس تجد صعوبة في تقبّل البحث العلمي لأسباب عديدة. أحدها أن البحث العلمي في بعض الأحيان يعاكس الفطرة و الغريزة و المنطق (Counterintuitive). 

في الفيزياء على سبيل المثال: 
جسمان من نفس المعدن. أحدهما أثقل وزناً من الآخر. أسقطناهما من نفس الإرتفاع في نفس اللحظة.
بدون مقاومة الهواء ، أيهما يصل الأرض أولاً؟ منطقياً ، الجسم الأثقل يصل الأرض أولاً.
لكن علمياً الجسمان يصلان الأرض معاً.
لأن عجلة الجاذبية الأرضية موحّدة (٩.٨ متر/ثانية/ثانية). 

إذا مر تيار هوائي بين ورقتين معلقتين. هل الورقتان تبتعدان أم تقتربان من بعضيهما؟
منطقياً ، تبتعدان عن بعضيهما.
لكن علمياً ، تقتربان من بعضهما.
ذلك لأن التيار الهوائي يسبب خلخلة (vacuum) التي بدورها تجذب الورقتين تجاه بعضيهما. 

 نفس التفكير "المنطقي" تم استخدامه في إثبات أن الأرض مسطحة و ليست كروية. و ان الرجل يتفوق على المرأة في كل المجالات و الوظائف (حتى في قيادة السيارة!). و أن الأوروبيين البيض أذكى من الأفارقة السود. يتضح لنا هنا ضعف التفكير المنطقي و هشاشته كلما مد يداه أمام "قطار" الدليل العلمي لإيقافه!  

في مجال عملي ، تخصصي يتمحور على القسطرة القلبية للشرايين التاجية. لهؤلاء الذين لا يعرفون ماهية تخصصي ، الذبحة الصدرية أو الجلطة القلبية سببهما تضيق شديد أو إنسداد مفاجيء في أحد الشرايين التي تغذي عضلة القلب. هناك اختيارين رئيسيين لحل هذه المشكلة. 

الحل الأول: توسعة الشريان الضيق لإستعادة تدفق الدم فيه.
الحل الثاني: تركيب مسار بديل لتفادي المنطقة المسدودة (bypass).

الحل الأول يتم عن طريق "القسطرة". القسطرة هي أنبوبة صغيرة ندخلها إلى القلب عن طريق وخزة إبرة في شريان الرسغ (Radial artery) أو شريان الفخذ (Femoral Artery). من خلال هذه الأنبوبة نضع بالونة لنفخ و فتح الشريان المسدود. بعد ذلك نضع شبكة معدنية (دعامة - Stent) لإبقاء الشريان التاجي مفتوحاً. هذا الإجراء يتم تحت تخدير موضعي. يستغرق من الوقت نصف ساعة إلى ساعة (في المراكز المتخصصة ذات الخبرة). والمريض يرجع إلى بيته بعد ٢٤ ساعة من القسطرة. القسطرة مثالية تحت ظروف خاصة منها عدد الشرايين الضيقة و شكلها و قابليتها للإصلاح. و ما إذا كان المريض لديه داء السكري أم لا.

أما الحل الثاني ، هو عملية جراحية كبرى. يتم خلالها فتح صدر المريض و إيقاف القلب مؤقتاً و وضع المريض على مضخة قلبية صناعية. ثم نزع أوردة الفخذ (Saphenous veins) أو أحد شرايين  القفص الصدري (Internal mammary arteries) و تركيبها في شرايين القلب ، لتحويل مسار الدم بعيداً عن المنطقة المسدودة. يتم بعد ذلك إنعاش (إيقاظ) عضلة القلب و إغلاق الصدر. العملية الجراحية تتم تحت تخدير عام (طبعاً!). بعدها يبقى المريض في العناية المركزة لبضعة أيام. جراحة القلب المفتوح مثالية اذا كانت الشرايين التاجية المتضررة متعددة. و اذا كان المريض لديه داء السكري.

أيهما أفضل لمريض القلب؟ الحل الأول ، أم الثاني؟
كل يغني على ليلاه. أطباء القسطرة يناصرون الحل الأول. بينما جراحين القلب يناصرون الحل الثاني. 
   
في بعض العيادات الخاصة في العالم العربي ، بعض أطباء قسطرة القلب من ضعاف النفوس يخاطبون مرضاهم المصابين بالسكر و القلب - بالذات البسطاء من كبار السن و الأمّيين الذين لا يعرفون حتى الانترنت- بهذا الأسلوب:

"يا عمي شرايين قلبك مسدودة. انت عندك إختيارين: أفتح لك شرايينك تحت بنج موضعي اليوم و تروح بيتكم غداً. أو أحولك على الجراحين يفتحون صدرك و يوقفون قلبك مؤقتاً و يحولون مسار شرايينك ، تنتقل بعدها الى العناية المركزة و ترجع بيتكم بعد ثلاث أسابيع".

بعد ثوانٍ من التفكير "المنطقي": هل سيختار المريض المسكين الحل الأول أم الحل الثاني؟

على مر السنين ، تجارب علمية ضخمة تم إجراؤها في عدة مراكز للقلب في عدة دول متقدمة تبحث عن إجابة لهذا السؤال لمرضى شرايين القلب: أيهما أفضل ، القسطرة أم عملية القلب المفتوح؟ مرضى السكر معنيون بالذات في هذا السؤال. لأن مرض السكر يتلف شرايين القلب أسرع من أي مرض آخر. 

أشهر و أحدث دراسة علمية لإجابة هذا السؤال كانت دراسة "فريدوم" ( FREEDOM Trial) و هي اختصار للعبارة:
Future REvascularization 
Evaluation in patients with Diabetes mellitus 
Optimal Management of Multivessel disease

أثبتت الدراسة و بالدليل القاطع أن جراحة القلب المفتوح لمرضى السكر بالذات تتفوق على القسطرة من حيث الفائدة للمريض على المدى البعيد و نسبة حدوث المضاعفات ، و حتى في الكلفة المالية.   
  
الأمية و الجهل في مجتمعنا أعلى بكثير من المجتمعات الأخرى. لذلك قرارات الطبيب في مجتمعنا لها هيبة و احترام. و المريض الجاهل البسيط لا يجرؤ على مساءلة الطبيب في قراراته. لذلك اختيار العلاج في النهاية يتم حسب التفكير "المنطقي" للمريض ، و "أمانة" الطبيب المعالج.

في الولايات المتحدة تورط د. محمود باتيل استشاري القسطرة في قضايا نصب و احتيال لأنه كان يضع دعامات في الشرايين القلبية لمرضى لم يحتاجوها. تمت محاكمته و إصدار حكم بسجنه عشر سنوات. هل هناك عواقب مشابهة للطبيب في مجتمعنا؟ أم أنه فوق القانون؟ هذا سؤال لا أعرف إجابته.    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق