الأحد، 26 يناير 2014

خلك حكيم

سؤال كان و لا زال يؤرق كل طالب في سبيل النجاة. الباحثون عن الحكمة أطلقوا على أنفسهم “فلاسفة”. 

"الفلسفة" مشتقة من المفردة اللاتينية “فيلو-سوفي” (حب الحكمة). الماضين ربطوا الحكمة بالسن. و آخرون ربطوها بالدين. و البعض الآخر ربطها بالثقافة و العلوم و الذكاء الخارق.

  أهل لبنان يطلقون على الطبيب "حكيم".
 
  فإذا بنينا صورة في أذهاننا من كل هذه الروابط ، خلال لحظات سنتصور رجلاً هرماً لحيته بيضاء طويلة.  نظارة القراءة معلقة على رقبته. يمسك في يده كتاب كبير الحجم ثقيل الوزن و المضمون. الناس من حوله تناديه “دكتور فلان”. و إذا ناقشه أحد في أي موضوع فلسفي ، أجابه بعبارات معقدة بليغة جداً محشوة بالمصطلحات الفلسفية “الخاثرة” التي لا يعيها حتى زملاؤه الفلاسفة أنفسهم.
 
  أنا لا أدعي الحكمة. بل و ليس لدي أدنى معرفة في علم الفلسفة. 
  حتى أنني حاولت قراءة كتاب الفلسفة (Textbook of Wisdom) و لم أتعدّ الصفحة الثالثة!
    
  لكن لدي تفسير بسيط عن ماهية الحكمة وضعتها في إطار بسيط جداً للناس البسطاء أمثالي.
  "الحكيم" بالمختصر المفيد هو الشخص الذي: 

  ١. يعرف قوانين اللعبة. 
  ٢. يصف الأمور كما هي.
  ٣. يرى الأنماط المتكررة و يتنبأ بها قبل وقوعها مرة أخرى.
  ٤. يعرف حدوده و يدرك مكانه و إمكانياته.
 
  ١. يعرف قوانين اللعبة.

     في حياتنا الاجتماعية اليومية هناك قوانين لكل “لعبة". و من الطبيعي جداً أن  “نلعب” مع أو على غيرنا. المقصود من “اللعبة" هنا البروتوكول أو العرف الاجتماعي الذي تقتضيه المهنة أو العلاقة. إدراك قوانين اللعبة لا يعني بالضرورة عدم الاستمتاع في اللعب. و إنما يعني أن الحكيم من يعرف ما له و ما عليه. على سبيل المثال...
 
  على خشبة المسرح...
  الساحر يخرج الأرانب من قبعته و يقسم الفتاة التي معه بالمنشار إلى نصفين دون إلحاق أي ضرر بها. الأطفال ينبهرون و ربما يصدقون هذا السحر. بينما جمهور البالغين يضحك و يستمتع و يصفّق بالعرض لأنه يشاهد خدع بصرية ترفيهية.   
 
  و المليونير...
  إبن التسعين عاماً عندما يتزوج بنت يتيمة فقيرة عمرها ١٨ عاماً ، هو يدرك جيداً بأنه ليس فتى أحلامها.
  هي تزوجته لإفتقادها حنان الأب (أو حنان الجد) أو لأنها قريباً ستصبح أرملة و ترِث الملايين!   
 
  القصص الخيالية...
  مثل "هاري بوتر" و "سيد الخواتم” و "حرب النجوم" مجرد قصص غير حقيقية. 
  لكنني أستمتع بقراءتها بالرغم من معرفتي بأنها من نسج خيال الروائيين الذين ألفوها. 
 
  المضيفة الجميلة...
  تقدم لي الفوطة المعطرة و هي تبتسم على متن الخطوط الجوية.
  و أنا أعلم أنها ليست معجبة بوسامتي الأخاذة و طولي الفارع و صلعتي اللامعة.
  و إنما إبتسامتها مجرد جزء من وظيفتها.
 
  الكنـّة (زوجة الإبن)...
  إذا تواصلت مع أهل زوجها قالوا عنها "دعلة". و إذا ابتعدَت عنهم قالوا عنها "قاطعة الأرحام".
  إذا شاركت أهل زوجها فرحهم قالوا عنها "لماذا تشاركنا الفرح؟"
  و إذا شاركتهم الأحزان قالوا عنها "لماذا تشاركنا البكاء؟ الفقيد فقيدنا نحن".
  إذا أدركَت الكنة قوانين اللعبة عرفت أنها ستظل غريبة و مكروهة في نظر أهل زوجها مهما فعلت.
 
  ٢. يصف الأمور كما هي.
  بمعنى أنه لا يصف الأمور كما يتمناها أو يراها أو يحس بها.
 
  المتفائل يصف الكأس بأن نصفه ممتليء. المتشائم يصف الكأس بأن نصفه فارغ.

  بينما الحكيم يصف الكأس على أنه ٥٠٪ ممتليء و ٥٠٪ فارغ.
 
  الرجل الخليجي...
   في نظر والدته:وائل كفوري. 
  و في نظر أبنائه: سوبرمان. 
  و في نظر زوجته: جيمس بوند.
  فإذا وصف نفسه على أنه مجرد "أبو سروال + فانيلة" ، فمعناها أنه حكيم!
 
  الجاهل يقول… 
  كل المواطنين من الدولة الفلانية نصابين. 
  و كل أتباع الدين أو المذهب العلاني مجرمين. 
  و كل هؤلاء أغبياء لأن لون بشرتهم يختلف عن لون بشرتنا.
 
  بينما الحكيم يرد عليه…
  كل دولة فيها الشريف و النصاب. 
  كل دين و مذهب فيه المعتدل المسالم و المتطرف العنيف. 
  و كل عِرق و سلالة و جنس فيها الغبي و العبقري. 
 
  ٣. يرى الأنماط المتكررة و يتنبأ بها قبل وقوعها مرة أخرى.

  يقال عن الحكماء أن الحجاب عنهم مكشوف لأنهم يرون ما لا يراه غيرهم. المسألة أبسط من ذلك.
 
  إذا رميتَ الصخرة عالياً ، فمصيرها حتماً الوقوع على الأرض.
  و اذا أشرقت الشمس من الشرق اليوم ، فأغلب الظن سشترق من الشرق غداً أيضاً.
 
  الحكماء يعلمون بأن السلوك الانساني يتكرر في كل زمان و مكان.
  و إذا تكرر السلوك الخاطيء ، ستتكرر النتائج الخاطئة!  
  الغبي أو المتخلف هو من لا يغير سلوكه ، و يتوقع نتائج مختلفة! 
 
  ٤. يعرف حدوده و يدرك مكانه و إمكانياته.
  لماذا الجراح اليافع الذي أجرى ١٠٠٠عملية جراحية غروره يوازي الجبال؟
  بينما نظيره المخضرم الذي أجرى ١٠ آلاف عملية يصير متواضعاً؟
 
  كلما تقدم الانسان في علمه و إطّلاعاته و خبرته و قارن نفسه بمن حوله ، كلما أدرك حدوده و فهم قصوره و بالتالي زادت حكمته. هذا ما يسمّى بالبصيرة (Insight). ربما هذا يفسر أحياناً إقتران الحكمة بكبر السن. في المقابل ، أعلى معدلات النرجسية والعنصرية و كره الغرباء (Xenophobia) نراها في المجتمعات المغلقة والمعزولة عن العالم. 
 
 

    

السبت، 25 يناير 2014

خلك قدوة

   جرت العادة في البيت الذي ترعرعت فيه أن نساعد الخدم في رفع الصحون من المائدة الى المطبخ بعد كل وجبة. “نساعد” المعني بها هنا نحن صغار السن فقط. بينما الكبار (الأم و الأب و الإبن البكر) يتكئون و يشربون الشاي بعد الوليمة. الصغار يقومون لمساعدة الخدم.

مرة واحدة فقط أقدمت على خطوة جريئة (كانت حركة غبية وقتها) عندما سألت أخي الكبير عن سبب عدم مشاركته لنا في هذه المهمة. خاصمني أخي و لم يكلمني بعدها لعدة أسابيع. و لم ينتهِ الخصام إلا بعد إعتذاري الرسمي و الصريح له. هناك "عُرف" مشابه عند قبائل الجزيرة العربية (ما يسمى "علوم الرجاجيل")، حيث صغار السن يباشرون الضيوف و كبار السن بصب القهوة العربية لهم في المجالس.

أستاذ التربية البدنية في المدرسة الثانوية التي تخرجت منها كان وزنه تقديرياً ١٥٠ كلغم. أكثرها كانت مرتكزة في كرشه. كان يصرخ على الطلبة وقت التمارين صارخاً فيهم “مافيش لياقة!”. في المدرسة ذاتها أستاذي الفاضل ناظر المدرسة كان معروفاً بسياسة اللا هوادة (zero tolerance) ضد ظاهرة تدخين الطلبة. بينما علبة سجائره الحمراء كانت تطل علينا من جيبه العلوي لتلفت الأنظار من تحت ثوبه الأبيض الصيفي (الدشداشة).  

بعدما تخرجت من الجامعة و توظفت في وزارة الصحة ، لاحظت بأن القليل من الاستشاريين من كان يلتزم بساعات الدوام الرسمي في المستشفيات الحكومية. و الذين يحضرون منهم لفحص المرضى في الخفارات ليلاً عددهم أقل . بل منهم من كان يعفي نفسه من جدول الخفارات و المرور على المرضى في نهاية الأسبوع دون أن يحاسبه أحد. و في فترة زمالتي لأمراض القلب ، كان بعض الاستشاريين يتقاعس عن الذهاب الى المستشفى ليلاً إذا نودي لحالة طارئة. و لا يوجد أخطر من طبيب قلب كسول تحت هذه الظروف.

مبدأ القيادة بالقدوة

مجتمعنا تم تصميمه بطريقة تجعله يحارب مبدأ "القيادة بالقدوة" بكل ما أوتي من عزم و قوة. ذلك لأن هذا المبدأ الدخيل علينا يهدد أمن و استقرار نمط حياتنا المتمحور على تسلسل السلطة و أهمية الطبقية و المحسوبية و إحترام الأقدمية.

حتى الصغير عندما يساعد الخدم في رفع الصحون يقول في نفسه...
 "غداً عندما أكبر ، سأجالس الكبار و أدع الصغار يساعدون الخدم".

و الطالب في المدرسة يقول في نفسه ...
"غداً عندما أكبر ، سأدخن و آكل و أنام كما يحلو لي ، حالي من حال أستاذ التربية البدنية و الناظر"

و الطبيب المتدرب "المكروف" يقول في نفسه...
"غداً سأصبح استشارياً قد الدنيا. حينئذٍ سأداوم في المستشفى الحكومي ساعتين فقط في اليوم. لأكرس جُل وقتي الثمين لمرضى عيادتي الخاصة. بالضبط كما يفعل أستاذي الآن". 

في الحضارات الشرقية "القائد" هو من يسن القوانين و يستثني نفسه منها تلقائياً. ذلك لأن  وضعه “مختلف”. و يشمل هذا الاستثناء كل أتباعه طبعاً. الرعية في المقابل تتنازع فيما بينها على السلطة كي يتسنى لها أيضاً إستثناء نفسها من القانون عندما تصل القمة. "الواسطة" ما هي إلا "الإستثناء" التي يمنحه القياديون لأتباعهم ، لأنهم هم أنفسهم فوق القانون. كل جيل يسير على خطى الجيل الذي سبقه. و تستمر دائرة الشر ، و دقّي يا مزّيكا!

القطاع الخاص يعي موضوع القيادة بالقدوة جيداً. لذلك في الأندية الصحية الخاصة ترى المدرب في صالة الحديد نفسه بطلاً في كمال الأجسام. و في محلات العطور و المكياج أيضاً ترى الموظفة هناك جميلة جداً و بكامل زينتها و مكياجها. 

الأربعاء، 22 يناير 2014

خلك صانع المطر

  سكاّن أمريكا الشمالية الأصليون (المعروفين سابقاً بالهنود الحمر) كانوا خلال مواسم الصيف و الجفاف في العصور القديمة يطلبون من ساحرهم إنزال المطر. و هو كان ينفذ طلبهم بممارسة رقصات معينة و شعائر خاصة لتحقيق هذا الغرض. و في حال نزول المطر، عامة الناس في تلك الفترة كانت تصدق بأن الساحر هو فعلاً من أنزل المطر. لذلك ليس غريباً بعد ذلك إذا انتشرت سمعة هذا الساحر إلى القبائل الأخرى المجاورة ، التي تلجأ أيضاً إلى الساحر نفسه لقضاء حوائجها الأخرى. فربما سحره الذي أنزل المطر سيحقق لهم رغباتهم و أمنياتهم.

في وقتنا الحاضر نحن نعلم بأن هطول الأمطار ظاهرة طبيعية لها مواسمها و أسبابها. نحن نعلم أيضاً أن الشعوذة و الرقص حول النار ليلاً  ليسا من هذه الأسباب. لكن للأسف مبدأ "صانع المطر" لا يزال محفوراً في جيناتنا. أعني بذلك "تأليف" تفسيرات خاطئة للظواهر المحيطة بنا. و لا تقف المصيبة هنا. بل تمتد أيضاً إلى البحث عن الأسباب الخاطئة لهذه الظواهر.  

 إذا إبتكر شخص موهوب "مفهوماً جديداً" غيّر به مجرى التاريخ إلى الأفضل. كل من يستفيد من هذا المفهوم سيتبع خطى صاحب الفكرة و ينهج نهجه. هذا أمر طبيعي و صحي. على سبيل المثال: طبيب اخترع علاجاً جديداً أنقذ به الناس من مرض قاتل. أو مدرس ابتكر طريقة جديدة غير تقليدية لتسهيل دراسة المواد الصعبة. أو فيزيائي استنتج نظرية جديدة لتفسير بعض الظواهر الفلكية. 

عامة الناس تظن بأن المؤسسات التعليمية التي درّست / درّبت هؤلاء النوابغ كانت السبب الأول و الأخير في نبوغهم و تميزهم. المؤسسات التعليمية اكتسبت سمعة طيبة بسبب الطبيب و المدرّس و الفيزيائي الذين تخرجوا منها. مثل الساحر "صانع المطر" الذي اكتسب سمعة طيبة لأن الأمطار نزلت "بفضله و مجهوده".

المؤسسات التعليمية من مدارس و جامعات لها دور لا ننكره في صناعة العظماء.
لكنه دور ثانوي مقارنة بعوامل أخرى أهمها الحظ و الصدفة و و العنصر البشري. 

١. الصدفة: 
مثال ١: الأطباء في الكثير من الأحيان يكتشفون علاجاً ثورياً لمرض قاتل بالصدفة البحتة دون تخطيط مسبق. ربما أشهرهم كان بارنيت روزنبيرغ عندما إكتشف علاج السرطان "سيسبلاتين". الذي فتح بعدها باب العلاج الكيماوي للسرطان على مصراعيه.

مثال ٢: حساب عمر الكون عن طريق أشعة المايكرويف الكونية بالصدفة على يد العالمين أرنو بينزياس و روبرت ويلسون ، الأمر الذي جعلهما يفوزان بجائزة نوبل سنة ١٩٧٨.

٢. العنصر البشري: 
بعض الأفراد أذكياء و نوابغ منذ ولادتهم. يفكرون بطرق غير تقليدية. 
يبرزون عن غيرهم بغض النظر عن المدارس  التي التحقوا بها.

٣. الحظ:
و يشمل ذلك الظروف المحيطة و الموقع الجغرافي و الفرصة المتاحة.
الفرد الذكي و الموهوب لن يبرز للسطح اذا لم يكن لديه الحظ الكافي.
للمثال لا الحصر: باراك أوباما لن يكون رئيساً لأمريكا إذا كان مولوداً في بلد أبيه. 
و ألبرت آينشتاين لن يبرز للعالم إذا لم يهرب من ألمانيا النازية. 
و د. مجدي يعقوب و د. أحمد زويل ربما لن يعرفهما العالم إذا بقيا في بلدهما الأم.  

جامعة "ميغيل" في كندا تفتخر كل الفخر بأن مؤسس التعليم الطبي الحديث في العالم كله "السّير ويليام أوزلر" درس الطب فيها و تخرج منها. لكن ما لا يعلمه الجميع بأن السّير ويليام أسّس نظام التعليم الطبي الحديث عندما سافر للعمل جامعة "جونز هوبكينز" في الولايات المتحدة الأمريكية حيث كان من المؤسسين الأربعة لها. ويليام أوزلر رفع من شأن جامعة ميغيل ، و ليس العكس. 

اللغة الفرنسية بالرغم من كبواتها الكثيرة في تركيبة قواعدها و نطقها للحروف و قراءتها ، إلا أن أروع نوابغ العالم كانوا فرنسيين من أمثال ديكارت و ڤولتير و لابلاس و باستور. هؤلاء النوابغ رفعوا من شأن اللغة الفرنسية و أوجدوا لها شعبيتها و ليس العكس.    

أولياء الأمور يريدون توفير أفضل تعليم لأبنائهم. لذلك يبحثون بكل إخلاص و حسن نية عن "صانع المطر" الذي حتماً سيصنع من أبنائهم نوابغ. يفرضون على أبنائهم دراسة اللغات الأجنبية و الإلتحاق بالجامعات الأجنبية. دون الإنتباه إلى العوامل الأخرى المذكورة سابقاً. هذا السلوك ربما يعلل ظاهرة عقدة الأجنبي (عقدة الخواجات).

الإداري الذكي هو من يدرك بطلان مبدأ صانع المطر ويبحث عن العنصر البشري الذي سيرفع من شأن مؤسسته أينما وُجِد. لذلك الأندية الرياضية تدفع الملايين للتعاقد مع الرياضيين المحترفين على مستوى عالمي. و الجامعات العريقة تدفع أعلى الرواتب لاستقطاب الأساتذة المميزين للتدريس فيها لإعطائها سمعة لامعة.  

السبت، 18 يناير 2014

شرايين القلب: نسلك؟ أو نغير المسار؟

  لا أنكر أنني من عشاق البحث العلمي و الطريقة العلمية في التفكير. ذلك لأن الطبيعة فيها من العجائب ما لا يستطيع بلوغه حتى خيال أكثر الروائيين إبداعاً في التاريخ. لذلك أحب الإستماع مثلاً إلى "سايوير بودكاست".

  كما أنني أحب متابعة هؤلاء الذين يساهمون في نشر و تعميم "حب المعرفة" بين عامة الناس (Popularization of science). ربما من بدأ هذه الحركة على المستوى العالمي في عصرنا كان الفلكي الراحل كارل سيغن ، و يسير حالياً على نهجه على المستوى المحلي د. محمد قاسم و د. فيصل الصايغ. أنا لا أستطيع بلوغ مرتبة هؤلاء الناس ولا أستطيع نشر و تبسيط العلم كما يفعلون. أنا مجرد متابع و مشجع. هم أساتذتي و أنا تلميذهم.  

  عامة الناس تجد صعوبة في تقبّل البحث العلمي لأسباب عديدة. أحدها أن البحث العلمي في بعض الأحيان يعاكس الفطرة و الغريزة و المنطق (Counterintuitive). 

في الفيزياء على سبيل المثال: 
جسمان من نفس المعدن. أحدهما أثقل وزناً من الآخر. أسقطناهما من نفس الإرتفاع في نفس اللحظة.
بدون مقاومة الهواء ، أيهما يصل الأرض أولاً؟ منطقياً ، الجسم الأثقل يصل الأرض أولاً.
لكن علمياً الجسمان يصلان الأرض معاً.
لأن عجلة الجاذبية الأرضية موحّدة (٩.٨ متر/ثانية/ثانية). 

إذا مر تيار هوائي بين ورقتين معلقتين. هل الورقتان تبتعدان أم تقتربان من بعضيهما؟
منطقياً ، تبتعدان عن بعضيهما.
لكن علمياً ، تقتربان من بعضهما.
ذلك لأن التيار الهوائي يسبب خلخلة (vacuum) التي بدورها تجذب الورقتين تجاه بعضيهما. 

 نفس التفكير "المنطقي" تم استخدامه في إثبات أن الأرض مسطحة و ليست كروية. و ان الرجل يتفوق على المرأة في كل المجالات و الوظائف (حتى في قيادة السيارة!). و أن الأوروبيين البيض أذكى من الأفارقة السود. يتضح لنا هنا ضعف التفكير المنطقي و هشاشته كلما مد يداه أمام "قطار" الدليل العلمي لإيقافه!  

في مجال عملي ، تخصصي يتمحور على القسطرة القلبية للشرايين التاجية. لهؤلاء الذين لا يعرفون ماهية تخصصي ، الذبحة الصدرية أو الجلطة القلبية سببهما تضيق شديد أو إنسداد مفاجيء في أحد الشرايين التي تغذي عضلة القلب. هناك اختيارين رئيسيين لحل هذه المشكلة. 

الحل الأول: توسعة الشريان الضيق لإستعادة تدفق الدم فيه.
الحل الثاني: تركيب مسار بديل لتفادي المنطقة المسدودة (bypass).

الحل الأول يتم عن طريق "القسطرة". القسطرة هي أنبوبة صغيرة ندخلها إلى القلب عن طريق وخزة إبرة في شريان الرسغ (Radial artery) أو شريان الفخذ (Femoral Artery). من خلال هذه الأنبوبة نضع بالونة لنفخ و فتح الشريان المسدود. بعد ذلك نضع شبكة معدنية (دعامة - Stent) لإبقاء الشريان التاجي مفتوحاً. هذا الإجراء يتم تحت تخدير موضعي. يستغرق من الوقت نصف ساعة إلى ساعة (في المراكز المتخصصة ذات الخبرة). والمريض يرجع إلى بيته بعد ٢٤ ساعة من القسطرة. القسطرة مثالية تحت ظروف خاصة منها عدد الشرايين الضيقة و شكلها و قابليتها للإصلاح. و ما إذا كان المريض لديه داء السكري أم لا.

أما الحل الثاني ، هو عملية جراحية كبرى. يتم خلالها فتح صدر المريض و إيقاف القلب مؤقتاً و وضع المريض على مضخة قلبية صناعية. ثم نزع أوردة الفخذ (Saphenous veins) أو أحد شرايين  القفص الصدري (Internal mammary arteries) و تركيبها في شرايين القلب ، لتحويل مسار الدم بعيداً عن المنطقة المسدودة. يتم بعد ذلك إنعاش (إيقاظ) عضلة القلب و إغلاق الصدر. العملية الجراحية تتم تحت تخدير عام (طبعاً!). بعدها يبقى المريض في العناية المركزة لبضعة أيام. جراحة القلب المفتوح مثالية اذا كانت الشرايين التاجية المتضررة متعددة. و اذا كان المريض لديه داء السكري.

أيهما أفضل لمريض القلب؟ الحل الأول ، أم الثاني؟
كل يغني على ليلاه. أطباء القسطرة يناصرون الحل الأول. بينما جراحين القلب يناصرون الحل الثاني. 
   
في بعض العيادات الخاصة في العالم العربي ، بعض أطباء قسطرة القلب من ضعاف النفوس يخاطبون مرضاهم المصابين بالسكر و القلب - بالذات البسطاء من كبار السن و الأمّيين الذين لا يعرفون حتى الانترنت- بهذا الأسلوب:

"يا عمي شرايين قلبك مسدودة. انت عندك إختيارين: أفتح لك شرايينك تحت بنج موضعي اليوم و تروح بيتكم غداً. أو أحولك على الجراحين يفتحون صدرك و يوقفون قلبك مؤقتاً و يحولون مسار شرايينك ، تنتقل بعدها الى العناية المركزة و ترجع بيتكم بعد ثلاث أسابيع".

بعد ثوانٍ من التفكير "المنطقي": هل سيختار المريض المسكين الحل الأول أم الحل الثاني؟

على مر السنين ، تجارب علمية ضخمة تم إجراؤها في عدة مراكز للقلب في عدة دول متقدمة تبحث عن إجابة لهذا السؤال لمرضى شرايين القلب: أيهما أفضل ، القسطرة أم عملية القلب المفتوح؟ مرضى السكر معنيون بالذات في هذا السؤال. لأن مرض السكر يتلف شرايين القلب أسرع من أي مرض آخر. 

أشهر و أحدث دراسة علمية لإجابة هذا السؤال كانت دراسة "فريدوم" ( FREEDOM Trial) و هي اختصار للعبارة:
Future REvascularization 
Evaluation in patients with Diabetes mellitus 
Optimal Management of Multivessel disease

أثبتت الدراسة و بالدليل القاطع أن جراحة القلب المفتوح لمرضى السكر بالذات تتفوق على القسطرة من حيث الفائدة للمريض على المدى البعيد و نسبة حدوث المضاعفات ، و حتى في الكلفة المالية.   
  
الأمية و الجهل في مجتمعنا أعلى بكثير من المجتمعات الأخرى. لذلك قرارات الطبيب في مجتمعنا لها هيبة و احترام. و المريض الجاهل البسيط لا يجرؤ على مساءلة الطبيب في قراراته. لذلك اختيار العلاج في النهاية يتم حسب التفكير "المنطقي" للمريض ، و "أمانة" الطبيب المعالج.

في الولايات المتحدة تورط د. محمود باتيل استشاري القسطرة في قضايا نصب و احتيال لأنه كان يضع دعامات في الشرايين القلبية لمرضى لم يحتاجوها. تمت محاكمته و إصدار حكم بسجنه عشر سنوات. هل هناك عواقب مشابهة للطبيب في مجتمعنا؟ أم أنه فوق القانون؟ هذا سؤال لا أعرف إجابته.    

السبت، 11 يناير 2014

تدرب "عندهم" أحسن لك

  سؤال كهذا يتكرر على لسان كل من يرغب في دراسة أي مرحلة من مراحل الطب:
منذ البكالوريوس ، مروراً بالبورد العام إلى الزمالة التخصصية ، إنتهاءاً بزمالة التخصص الدقيق.

المتعصبون للغرب (و ما أكثرهم) يجاوبون تلقائياً بأن الدراسة في الغرب أفضل طبعاً. بينما الأساتذة المحليّون يدافعون عن كليّات الطب المحلية و يرفعون من شأن مستشفيات البلد و التعليم الطبي فيها. أساتذة محليون آخرون يشجعون تلاميذهم (تحت الطاولة) على إنتهاز فرص الإبتعاث إذا توفرت لهم لدراسة الطب في الخارج. كل واحد منهم لديه أسبابه. 

إتضح لي بأن المشكلة ليست في الإجابات المتنوعة.
المشكلة ربما تكمن في السؤال نفسه.
بمعنى أننا ربما كنا نسأل السؤال الخطأ. 

الأساتذة المحلّيون الذين يدافعون عن جودة التدريب الطبي المحلي ("المحلي": في الدول الخليجية و الدول العربية) يدّعون بأن مستوى تلاميذهم الأكاديمي يفوق مستوى نظرائهم المتدربين في الغرب. و لديهم نتائج الإختبارات التي تثبت صحة إدعاءاتهم. 

في المقابل ، الذين يمدحون التدريب في الغرب لا يبذلون مجهوداً كبيراً في الدفاع عن جودة التدريب هناك. لأن سمعة الجامعات وحدها مثل "ستانفورد" أو "أوكسفورد" أو "هارڤارد" كفيلة بإسكات أي متسائل. لكن كما قلت مسبقاً ، نحن كنا نسأل السؤال الخطأ.

  الفرق الأساسي بين التعليم المحلي و الأجنبي هو إختلاف الأولويات. فالأساتذة في الغرب هدفهم "صناعة" طبيب قادر على التفكير المنطقي المرتّب المتسلسل و إتخاذ القرار في التشخيص و العلاج في نفس اللحظة و من قلب الحدث. بعد ذلك إجادة المهارات اليدوية   لمساعدة المريض (كلٌ حسب تخصصه)

  بينما في التعليم المحلي ، الهدف الأساسي هو صنع طبيب حافظ المنهج الدراسي كله عن ظهر قلب. التركيز على الجانب النظري أهم شيء في الدنيا بالنسبة للأساتذة المحليون الأفاضل. لذلك الأطباء الذي يتمتعون بذاكرة تصويرية ينجحون في كل الإختبارات و يحصلون على أعلى الشهادات. و فعلاً يتفوقون على نظرائهم من الجامعات الغربية في الإختبارات النظرية. 

بينما الطبيب المتدرب في الغرب ربما لا يحفظ الكتاب "من الغلاف إلى الغلاف" و لا يدرس عشر ساعات في اليوم. و لكنه إذا ذهب إلى غرفة الطواريء يستطيع أن يضع خطة مسبقة مفصّلة للفحوصات المطلوبة لتشخيص كل مريض ، و يجري بنفسه العمليات/الإجراءات المطلوبة حسب تخصصه (قسطرة قلبية ، منظار للمريء و المعدة ، تنفس صناعي في الإنعاش ، جراحة البطن المفتوح ...الخ).

السؤال الصحيح ربما ...
في ميدان المعركة: 
هل تريد جنوداً لديهم لياقة بدنية عالية و معرفة في استخدام السلاح و خبرة سابقة في الحروب؟
أم تريد جنوداً يحفظون الشعر و النثر و النحو و الصرف؟
ستضحك من هذا السؤال لأن إجابته واضحة. 

 السؤال نفسه في المستشفى...
هل تريد طبيباً يحفظ كل مقررات الطب في تخصصه عن ظهر قلب؟
أم تريد طبيباً يعرف كيف يتصرف بمفرده في الطواريء و الأجنحة و العيادات الخارجية؟

إذا تظن بأن إجابة هذا السؤال سهلة كالسؤال السابق...
- أنت لا تعلم كم مرة قال لنا الإستشاري "روح بيتكم ادرس أحسن لك".
- أنت لا تعلم كيف الإستشاريون يحاولون إبعاد الأطباء المتدربين عن ممارسة (أو حتى مشاهدة) مهاراتهم الطبية.  
-لا يزال نظام الترقيات في العديد من المستشفيات العربية قائم على اجتياز الإختبارات النظرية (الزمالة البريطانية أو الماجستير أو الدكتوراه...الخ). لذلك الطبيب يمضي أغلب وقته في دراسة الكتب و حل أسئلة الإختبارات السابقة. 

الأطباء العرب يتفاخرون بأن اختباراتهم المحلية أصعب كثيراً من اختبارات الغرب. "الخواجات" يريدون تخريج "طبيب حقيقي" يفهم أساسيات المهنة. بينما العرب يريدون تخريج "هارد-ديسك" متنقل أعصابه تالفة من كثرة التخويف و التهديد و الوعيد و أسئلة الإختبارات التعجيزية.    

الأربعاء، 8 يناير 2014

خلك محترم

قصة جميلة بمغزى رائع تناقلتها ألسنة العرب شفهياً ، كلٌ حسب لهجته و بيئته. سمعتها لأول مرة باللهجة العراقية "كاتل الكلب كِتلوه" (أقتلوا قاتل الكلب). القصة مكتوبة باللغة العربية الفصحى في عدة مواقع على الانترنت. لمن لا يعرفها ، مختصرها كالآتي... 

  يحكى أن هناك قبيلة كانت مستقرة على ضفاف نهر الفرات منذ القِدَم. نزحت بجوارها قبيلة جديدة. و في يوم ما ، دون سابق انذار ، رجل من القبيلة الجديدة قتل الكلب الذي كان يحرس أغنام القبيلة القديمة. لجأ وجهاء القبيلة القديمة إلى شيخهم أكبرهم سناً ليطلبوا منه المشورة لحل هذه الأزمة. 

"كاتل الچَلِب كِتلوه" كانت إجابة الشيخ الفورية. 
لم تعجبهم هذه الإجابة و لأسباب واضحة.
حتى أن "البعض" ظن بأن الشيخ بدأ يخرّف.
لأنها مصيبة إذا قتلنا إنساناً فقط لأنه قتل كلباً. 

بعد بضعة أيام ، تحرّش البعض من شباب القبيلة الجديدة ببنات القبيلة القديمة.
و للمرة الثانية طلب وجهاء القبيلة رأي شيخهم ، الذي أفادهم بالإجابة نفسها: "كاتل الچَلِب كِتلوه". 

و بعد حادثة التحرش بعدة أيام ، أغارَت القبيلة الجديدة ليلاً على القبيلة القديمة.  
وجهاء القبيلة إجتمعوا مع شيخهم للمرة الثالثة. و هذه المرة نفذوا مشورته و قتلوا قاتل الكلب.

بعد قتل "قاتل الكلب" مباشرة ، زار وفد من  القبيلة الجديدة القبيلة القديمة ، مبررين ما بَدَرَ منهم قائلين:
١. أحدنا قتل كلبكم لأنه ظن بأن كلبكم كان يخيف أغنامنا.
٢. و شبابنا الذين تحرشوا ببناتكم فعلوا ذلك بنيّة الزواج.
٣. أم عن الإغارة عليكم ليلاً  ، ذلك لأننا كنا نلاحق لصوصاً اختبؤوا في مضارب قبيلتكم.  
ليس بيننا و بينكم غير المودة و المحبة و الإحترام!

  المغزى من القصة صريح. فالقوانين الجنائية و المدنية أصلاً موجودة من باب "مَن أمِنَ العقوبة أساء الأدب".

و بعدما رأى العالم أثر القنبلة النووية على هيروشيما و ناجازاكي ، تسابقت الدول العظمى على التسليح النووي لأنه سلاح رادع (Deterrent). فلا دولة تجرؤ على الإعتداء على دولة لديها سلاح نووي.     

  لكن على المستوى الإجتماعي ، قصة مثل هذه تعكس التدنّي الأخلاقي لبعض الأفراد و الجماعات. الشخص الطيّب المسالم الذي يبتعد عن المشاكل بطبعه ، عليه أن "يتحول" إلى وحش طويل اللسان و اليد. و إلا ضاع حقه و رآه الآخرون على أنه "ضعيف" و "لقمة سائغة". إحترام "النجري" صاحب المشاكل أصبح جزءاً من تراثنا. حتى في نقاشنا الروتيني نقول لبعضنا "إحترم فلان و لا تجادله لأنه عصبي و لسانه طويل و يحب المشاكل". بالرغم من تنبيه الحكماء لهذا السلوك الخاطيء (إتقِ شر الحليم إذا غضب).

إحدى صفات المجتمع "الراقي" إلتزام الناس بالأخلاق تلقائياً دون الخوف من العقاب أو الطمع في الثواب (عامِل الناس كما تحب أن يعاملوك). كل من عاش في الغرب لاحظ كيف عامة الناس تصف في طوابير عند أي مكان مزدحم دون الحاجة إلى حارس أمن ينظّم هذه الطوابير.

و كيف المشاة في الممرات يفسحون الطريق للمستعجل الذي لديه أمر طاريء.

و كيف الذي يدخل المصعد يبقي الباب مفتوحاً للشخص الذي يليه.
و كيف الجالس في الباص يقف ليعطي مقعده للمرأة الحامل أو الشيخ العاجز.

و كيف مواقف سيارات ذوي الإحتياجات الخاصة لا تقف فيها غير سيارات ذوي الإحتياجات الخاصة.

و الذي لا يحترم الدور في الغرب عادة ما يكون من دول العالم الثالث!  
حتى الشرطي في المدن الراقية (أشهرها لندن) لا يحمل معه مسدساً خلال أيام العمل العادية.

عندما نمدح أحداً نقول عنه أنه "محترَم".
و إذا إحتد الخلاف بين شخصين ، يقول أحدهما للآخَر "إحترم نفسك".
و من هنا يأتي معنى الإحترام. المحترَم يضع حدوداً لنفسه يقف عندها. بينما قليل الأدب ينتظر الغير لإيقافه عند حدّه.

الحس الأخلاقي النابع من الداخل هو الإسمنت الذي يدعم وحدات بناء المجتمع الحديث. سياسة "كاتل الكلب كِتلوه" ربما كانت مفيدة في فترة الصراع من أجل البقاء بسبب الفقر و شح الموارد. لكن نمط حياة "الفتوّة" القائم على الإنتقام الفوري و أخذ الثأر المتوارث و تصفية كل الحسابات ، لا يستهلك في النهاية غير الفتوّة نفسه.    

الأحد، 5 يناير 2014

خلك واضح

كان "شن" معروفاً بالعقل و الفطنة و الدهاء. رغب في الزواج من فتاة تضاهيه في ذلك. قرر شد الرحال للبحث عن تلك الفتاة. و بدأ بحثه في القرية المجاورة. في بداية طريقه صادفَ رجلاً مسافراً. سأله عن وجهته. إتضح أن كلاهما متجهان إلى نفس القرية.

الرجل: أنا أريد السفر الى موطني ، القرية المجاورة. فهل لك بمرافقتي؟
شن: لا مانع لدي. أتحملني ام أحملك ؟
الرجل: يالك من جاهل. أنت على بعيرك و أنا على بعيري. فلماذا نحمل بعضنا؟
شن: سامحني ياصاحبي. لقد أخطأت.

واصلا طريقهما حتى لاحظا حقلاً من القمح حان وقت حصاده.
شن: هل أكل الفلاحون قمحهم؟
الرجل: يالك من جاهل. كيف تقول ذلك و القمح لم يُحصَد بعد؟
شن: أرجو المعذرة. لقد أخطأت مرة اخرى.

بعدما وصلا الى القرية المجاورة ، رؤوا فيها جنازة. أهلها رافعين نعشاً و يبكون.
شن: هل الذي في داخل النعش ميتاً أم حياً؟
إنفجر الرجل غاضباً: يالك من احمق. أتسأل عن الذي في التابوت ما إذا كان حياً أو ميتاً؟
شن: لا تغضب مني يا صاحبي. ها قد إنتهت رفقتنا هنا و ستستريح مني و من أسئلتي الغبية.

الرجل: لكنك ضيفي في قريتنا. يجب أن أضيفك عندي.
ذهب الرجل إلى عائلته و قال: معي ضيفاً. 
أعدوا طعاماً لنا. لقد أزعجني بأسئلته المتخلفة طوال الطريق. لكنه على أي  حال ضيفي و علينا إكرامه.

قالت إبنته "طبقة" بعد ما رأت الضيف: لم تبدُ عليه معالم التخلف. فلماذا وصفته بذلك؟
الأب : لا يخدعك مظهره. أنا لم أرَ شاباً بمثل غبائه من قبل. أخبر الرجل إبنته بالأسئلة التي طرحها شن في الطريق.

طبقة: ولكن يا أبي ، هذه الأسئلة حكيمة. 
هذا الشاب قد أنهكه السفر و فرح بلقائك. فأقترح عليك: "أتحملني أم أحملك"؟ 
كان قصده أيكما "يريح الآخر" عناء الطريق.

أما سؤاله عن القمح و قد آن حصاده ، لأنه يرَ له حاصداً. 
سألك إذا أصحابه باعوه قبل حصاده فأكلوا ثمنه. أو أنهم استغنوا عنه فتركوه.

و أما سؤاله عن الجنازة…
قصده أن الميت إذا كان من أهل الخير فسيحيا بدوام ذِكرِه.
أما إن غير ذلك فسيموت ذكره معه.

دُهش الأب لفطنة ابنته. لذلك رجع إلى ضيفه شن و سرد له تفسير أسئلته.

فقال له شن: أصبت. لكن هذه ليست إجاباتك۔

رد عليه الرجل: إنما كانت إجابات أبنتي "طبقة". 
ظني بك كان صائباً. أنت فعلاً أحمق و متخلف و متحذلق الى أبعد الحدود. لماذا لم تكن واضحاً في أسئلتك معي منذ البداية؟ 
هل ظننت أن "الغموض" و "الرموز المبهمة" و "التلميح بين السطور" من أسرار الحكمة؟ أم أنك كنت تستهين بذكاء من يرافقك بألغازك التعجيزية و عباراتك الفلسفية العائمة؟ أخرج من بيتي. و إذا رأيتك في قريتي مرة أخرى حشيت ريولك حش!

"ذلف" شن راجعاً الى قريته خائباً.بينما تزوجت طبقة أغنى و أوسم شاب في قريتها.عاشت معه في سعادة و خلّفت منه البنين و البنات.


في التواصل بين الناس ، خير الكلام ما قل و دَل. "دَل" معناها تفادي "الغموض" و هو أهم شرط. حتى في اللغة الإنجليزية يقال "Avoid ambiguity". العبارات الغامضة العائمة المفتوحة يستخدمها المنجمون و المشعوذون و "أشباه الحكماء" على حد سواء لأنها فعالة لأي موقف أو مناسبة. صالحة لكل زمان و مكان. لا يمكن تكذيبها أو إبطالها. تنطلي على البسطاء و ضعاف العقول لأنها تمنح هيبة مزيفة لمن يتفوه بها.

على سبيل المثال. في المطاعم الصينية لديهم بسكوتة الحظ (fortune cookie) فيها ورقة تحوي كلام عام له أكثر من تفسير. فإذا كتب لك المنجّم عبارة "أمامك سكة سفر" قد تعني: ترقية في الوظيفة أو بعثة دراسية أو رحلة سياحية إلى باريس أو الخفجي! و مليون تفسير غيره. كذلك في "علم" الأبراج. يصورون لك و كأن موقع الكواكب و حركة المجرات و النجوم في يوم ميلادك يؤثر على نمط شخصيتك و خط سير مستقبلك.

أشباه الحكماء يتسخدمون نفس الغموض لإضافة "هيبة مصطنعة" لشخصهم. و ذلك بإستخدام العبارات الرمزية في حديثهم و التي غالباً غير مفهومة من أول مرة و تحتاج لتأويل لاحقاً. مثل حديث صاحبنا المتفلسف "شن" في القصة السابقة.

الأربعاء، 1 يناير 2014

حسب الله درس في الخارج

خلال حقبة السبعينات من القرن الماضي في بلاد "الواق واق". تخرّج "حسب الله" من الثانوية العامة و كان من الأوائل على دفعته. كان أبوه تاجر الأغنام الحاج "أبوحسب الله" فخوراً جداً به. كونه أول شخص في العائلة يحصل على شهادة الثانوية العامة. في تلك الفترة كان يتسنى للنخبة فقط إكمال تعليمها النظامي. أكثر الشباب كانوا يرثون مهنة آبائهم.  

الحاج أبوحسب الله كبير في السن. أمّي لا يقرأ و لا يكتب. لذلك أراد الأفضل لإبنه. أشار عليه بالسفر لدراسة الهندسة في أمريكا. لم تكن هناك جامعة محلية في بلاد الواق واق في تلك الفترة. تزوّج حسب الله من إبنة جارهم (كان يعشقها من الصغر) و سافر معها إلى أمريكا حسب خطة أبيه. و لكنه لم يكمل دراسته. رجع إلى البلاد بخفّي حنين بعد بضعة أشهر. 

سأل أبو "حسب الله" مستنكراً: 
لماذا فشل إبني في أمريكا ؟ كان متفوقاً طوال سنوات تحصيله العلمي في المدارس. 

قال "حسب الله":
أنا لا أحب الهندسة و أكره الغربة. سافرت للدراسة تنفيذاً لرغبة أبي فقط. اشتقت لأهلي و أصحابي. هذا غير أن أستاذي في الجامعة رسّبني في الإختبارات التحضيرية لأنه كان يهودياً متطرفاً يكره المسلمين. قررت الرجوع إلى بلدي لأرعى الحلال (أغنام أبي) أفضل لي من إكمال دراستي. 

قالت أم "حسب الله":
إبني كان راغباً في الهندسة. و لكن كَنّتي (زوجة إبني) الله يسامحها كانت السبب في فشله. إنها يافعة طائشة مندفعة منذ أن تزوّجها. كانت تريد الإستمتاع بالحياة و السياحة في أمريكا بدلاً من شد أزر إبني في دراسته. أنا لم أرضَ بها كزوجة لإبني منذ البداية. و لولا إصرار إبني للزواج منها لبحثت له عن زوجة أخرى تفوقها جمالاً و إخلاصاً لتليق بمقامه أكثر. هذا غير أمها التي كانت توصيها "لا تخلينه يكمل دراسته هناك و إلا سيطير من يديك و يتزوج أمريكية شقراء!".

قالت أخت "حسب الله":
أؤيد أمّي في أن زوجة أخي كانت هي السبب. لكنني ألوم أمّي لأنها كانت السبب في تزويج بنت جارنا لأخي الذي رضخ لضغوطها في نهاية الأمر. تزوجها بالرغم من عدم رغبته بالزواج أساساً. و ها هي النتيجة: فشل أخي في دراسته.

قالت زوجة "حسب الله":
بيني و بين حسب الله حب قديم منذ نعومة أظفارنا. لأننا كنا جيران منذ سنوات طويلة. قسماً بالله لا دخل لي في قرار زوجي بإنهاء دراسته. هو الذي سئم الغربة و قرر شد الرحال و الرجوع إلى الوطن دون تخطيط مسبق. لم يُبدِ لي الأسباب. زوجي عنيد و صعب المراس. قرر الرجوع بالرغم من معارضتي لقراره.  

زملاء "حسب الله" الذين كانوا معه في الغربة (و تخرجوا بنجاح بعد بضع سنوات) قالوا:
أمضى صاحبنا حسب الله أغلب وقته في أمريكا بقراءة القصص المصوّرة (كوميكس). لم يكن يحضر المحاضرات. حتى أستاذنا في الجامعة لم يقابله شخصياً و لم يعرفه. عندما استفسرنا منه عن إهماله عن الحضور و الدراسة ، رد علينا: أنا هنا تنفيذاً لرغبة والدي. سأمضي وقتي بقراءة هذه القصص إلى أن يحلها ألف حلّال. 

إذا استمع أحد غريب (محايد) لقصة حسب الله ، يضع لها بعض الإحتمالات...

إحتمال رقم ١:
ربما "حسب الله" لم يكن بالفعل راغباً في إكمال دراسته بعد الثانوية و سافر إستجابة لضغوط أبيه فقط. الآباء في بلاد الواق واق معروف أن رغباتهم أوامر غير قابلة للنقاش.

إحتمال رقم ٢:
ربما "حسب الله" كان راغباً في إكمال دراسته ، لكن الهندسة لم تكن شغفه. 

إحتمال رقم ٣:
حسب الله كان أول من يخوض تجربة الدراسة الجامعية في أسرته. لذلك كان يفتقر القدوة. إستشارة ناس أكبر منه في السن لها خبرة سابقة في الدراسة في الخارج لم تكن متوفرة في تلك الأيام. ناهيك عن عدم توفر طرق البحث عبر القارات (مثل الإنترنت) خلال فترة السبعينات.   

تحليل
  واضح أن الروايات الشفهية المنقولة من صاحب الشأن و أمه و أخته و زوجته و أصحابه فيها بعضاً من التفاوت و التناقض. هذا شيء طبيعي. "إليزابيث لوفتس" كرست حياتها في البحث العلمي لإثبات قصور الشهادة العينية. شهود العيان عندما يصفون أحداثاً معينة ، وصفهم مبني على العواطف و الأحاسيس و القناعات الشخصية. الأمر الذي لا يعوّل عليه ، خصوصاً في القضايا الجنائية.

الروايات الشفهية عن أسباب فشل "حسب الله" منقولة من لسان الأهل مباشرة. صاحب الشأن على قيد الحياة و مستعد لتكذيب (أو تأكيد) هذه "الروايات" المنقولة.

يا ترى ما هي الروايات التي ستتناقل على لسان أحفاد حسب الله بعد أربعين سنة؟

طالما أن هذه الروايات منقولة شفهياً ، كل شخص ينقلها سيضيف عليها القليل من بهاراته الخاصة.

ربما الرواية عندما تصل إلى عاشر مستمع بعد مائتي عام ستكون مختلفة جداً عن الرواية الأصلية. 

القصة القصيرة بشخصياتها و أحداثها من نسيج خيالي. مبنية على أحداث واقعية و المغزى منها واقعي جداً.