عنتر ...
أستاذ في مادة العلوم للمرحلة الإبتدائية. قرر شد الرحال والعودة للعمل في مسقط رأسه: قرية العلام. وُلِدَ عنتر في القرية. و لكنه عاش طول عمره في العاصمة بعدما قرر والداه هجر القرية وهو رضيع. بعدما وصل عنتر و استقر في القرية ، انصدم بالواقع: القرية كانت خالية من المرافق العامة كالمدارس و المستشفيات و المخافر. "فتوّة" القرية أنفسهم كانوا المسئولين عن الأمن. كانت بالمختصر قرية معزولة عن العالم المتحضّر. أخذ الجهل و الفقر و المرض من القرية الكثير. الناس كانت تؤمن بالخزعبلات و الخرافات. و الأمّية كانت من نصيب الأغلبية الساحقة.
بدلاً من نشر العلم و المعرفة بين أهل قريته ، أدرك عنتر أن تدريس "العلوم" لأبناء ناس لا يعرفون أصلاً القراءة و الكتابة أمراً صعباً ، إن لم يكن مستحيلاً. لذلك اتخذَ عنتر منحنى آخر غير إعتيادي و غير نبيل. عيّن نفسه "روحانياً" للقرية. هو في الحقيقة ساحر. لكنه فضّل لقب "روحاني".
أبهر عنتر أهل القرية بسحره. كان يُخرِج النار من الماء. و كانت يده تشع نوراً بمجرد لمسه للبطاطا (الغذاء الرئيسي لأهل القرية). كان يحرك الحديد عن بُعد بيديه المجرّدتين. كان يستطيع رؤية كل شيء حوله في الظلام الدامس. و كان يستطيع التنبؤ بمن سيزوره قبل طرق الزائر للباب. هذا غير تسخيره للجن لتنزيل المطر و كسوف الشمس و خسوف القمر. أصبح عنتر بقدراته "الخارقة" الملك غير المتوّج للقرية. بأمره سارت الأمور. و بحكمه حُلّت الخلافات. و بمشورته اقتدى الناس ، و ببركاته هلّت الخيرات. في المقابل ، كل فرد من أهل القرية كان يدفع له "المقسوم" كل شهر. إن كان نقداً أو محاصيل زراعية أو هدايا عينيّة.
بالرغم من نشوته في حكم الناس بأقوى سلاح: الجهل ، إلا انه كان يعلم بأن حكمه بهذه الطريقة لن يدوم طويلاً. لذلك حرص على عزل القرية عن العالم الخارجي: الغريب لا يدخل ، و القريب لا يخرج. المتمرد يتعذب على يد الفتوّة إلى أن يتوب أو يموت (أيهما أولاً). بالإضافة إلى منع نشر العلم و المعرفة و التوعية و نبذ كل من يشك أو حتى يستفسر. كان عنتر و فتوته يرددون جملة "لعن الله الشاك". لكن المسألة كانت مسألة وقت إلى أن تسلل بعض "المشككين" من القرية إلى العاصمة للسؤال عن الخلفية التي جاء منها عنتر.
إنفجر أهل العاصمة بالضحك (شر البلية ما يُضحِك) عندما سمعوا بما فعله عنتر في القرية. قالوا زملاء عنتر عنه بأنه كان مجرد مدرس متواضع للعلوم للمرحلة الإبتدائية. مستواه الأكاديمي أيام الجامعة كان أقل من العادي. كل السحر الذي أبهر به أهل القرية ما كان إلا تجارب علمية بسيطة يعرفها أطفال العاصمة في المرحلة الإبتدائية.
كان يخرج النار من الماء؟
إذا حلّلنا الماء كهربائياً استخلصنا منه مكوناته الأساسية: الهيدروجين و الأكسجين.
إذا أشعلنا الهيدروجين توهّج بفرقعة ليتحد من الأوكسجين و يتحوّل إلى ماء مرة أخرى.
كان يخرج النور من البطاطا؟
إذا غرسنا قطبين كهربائيين في البطاطا و أوصلناهما بمصباح كهربائي صغير ، من الممكن إضاءته بعد توليد تيار كهربائي.
كان يحرك الحديد عن بُعد بيديه المجردتين؟
كان يخفي مغناطيساً تحت رسغه ، يحرك به الحديد عن بعد دون لمسه بخفة يده.
كان يستطيع الرؤية في الظلام الدامس؟
دربيل الرؤية الليلية بالأشعة تحت الحمراء (infra-red night vision goggles) متوفر في الأسواق و بسعر زهيد هذه الأيام.
كان يتنبأ بمن سيزوره ؟
كاميرا للمراقبة عند الباب موصولة لا سلكياً بحاسبه الآلي الشخصي كانت تفي بالغرض.
كان ينزل المطر و يكسف الشمس و يخسف القمر؟
نشرات الطقس و حسابات الظواهر الكونية متوفرة في الانترنت و هي كفيلة بتقديم أي معلومات في هذا الخصوص.
قصة "عنتر" الوهمية مبالغ فيها و أنا أعترف بذلك. روايات كلاسيكية معروفة تحمل نفس المغزى. ربما أشهرها على الإطلاق رواية "الساحر أوز" (The Wizard of Oz). مبدأ القصة موجود على أرض الواقع و مستشري في كل دول الخليج العربية في مجالات شتى و يسير على نفس المنوال...
إبن البلد يتعلم مهارة أو صنعة جديدة في الخارج. يسوّق لنفسه هذه المهارة. لا يعلمها لغيره لأنها "صعبة" و "محصورة للعباقرة فقط". و إذا علّم غيره ، كان تعليمه للغير سطحياً شحيحاً (بالقطّارة). إذا علّم غيره فهو يعلّم لبناء مجده الشخصي و مصلحته فقط.
في الكويت بين الحين و الآخر يرجع إلى البلاد "خبير" كويتي معه "شهادات" في تخصصه (في الطب و غير الطب). تخصصه "نادر" و المهارات التي تعلّمها صعبة و ثورية وفريدة من نوعها. هو الوحيد في البلاد الذي يتقن هذه المهارة. و في بعض الأحيان ، تصل الوقاحة الى زعم "الخبير" بأنه هو من اخترع المهارة التي تعلمها في الخارج.
في مجال عملي ، هذه الظاهرة بارزة و مستفزّة جداً في الكويت.
لماذا مستفزة؟ لأنني درست الطب في ايرلندا و تدربت بعد ذلك في الكويت (أمراض باطنية) و السعودية (أمراض القلب للكبار) و الزمالة التخصصية لقسطرة القلب في كندا. لاحظت الفرق الواضح بين سلوك بعض أطبائنا الذين تدربوا في كندا مقارنة بسلوك أساتذتهم الأطباء الكنديين أنفسهم الذين علموهم الصنعة. هنا سأسرد عبارات واقعية قيلت لي في الخليج و أقارنها بما قيل لي في كندا.
لنبدأ في الخليج.
عبارات "عظيمة" قيلت لي خلال سنوات تدريبي من قِبَل ناس عباقرة لا حاجة لذكر أسماؤهم هنا. هوياتهم ليس لها علاقة بصلب موضوعنا. منها التالي:
"قسطرة القلب علم و فن لا يتقنه أي شخص"
"مع احترامي الشديد لك. لا أتعامل معك لأن مستواك العلمي أقل من مستواي"
"لن أسمح لك أن تجري قسطرة أو سونار للقلب دون إشراف مباشر مني ، مهما كنتَ ماهراً"
"روح كندا و تدرّب هناك أحسن لك"
"روح البيت إدرس و لما تفهم المعلومات النظرية ، بعدين إرجع المستشفى للعمل"
بعض أطباء القلب الكويتيون لا يسمحون لتلاميذهم حتى مشاهدة عملية القسطرة عن بُعد، ناهيك عن تعليمهم أساسيات المهنة. رفضهم تدريب الغير في مجال القسطرة ربما له تبريره (إلى حد ما). لأن القسطرة القلبية "مبضعية" (invasive) لها مخاطرها.المسألة تمتد إلى ما هو أبسط من ذلك. وصلت "المسخرة" إلى احتكار بعض الأطباء لأداة سونار القلب (Echocardiography) التي هي "غير مبضعية" بطبيعتها. أي أنها تشخيصية بحتة عديمة المخاطر. يحتكرون هذه التقنية و لا يعلمونها لغيرهم.
التدريب الطبي في المملكة العربية السعودية مقنّن و مطوّر و منظّم بشكل أفضل بكثير من نظيره في الكويت. و أنا كنت محظوظاً لأنني تدربت على يد خيرة الأطباء (على رأسهم د. بهاء فاضل) بالرغم من ذلك ، بعض الأطباء السعوديين - كزملائهم في الكويت - كانوا يقنعونني بأسلوب نرجسي مستفز بأن القسطرة القلبية مليئة بالتحديات والصعاب.
بينما في الطرف الآخر من المحيط الأطلسي ، أساتذتي أطباء قسطرة القلب في كندا كانوا يصفون مهنتهم بكل تواضع على انها...
"مجرد سباكة"
(Pure plumbing)
"القسطرة القلبية التدخلية ما هي إلا إدخال أنبوبة في أنبوبة"
(Coronary intervention is simply putting a tube inside a tube)
"ليست هندسة صواريخ"
(It is not rocket science)
"حتى القرد يستطيع تنفيذها"
(Even a monkey can do it)
"هي مهنة إلتقاط صور بشكل أساسي"
(It is mainly about taking pictures)
هذا غير شغفهم في تدريبي أساسيات القسطرة. على الرغم من أنني في نظرهم أجنبي متدرب في مكان سحيق مجهول عبر البحار. و السماح لي بقسطرة الحالات بنفسي (بإشرافهم لي عن بعد) بعدما أطمأنوا بأنني تعلمت المهارة و أصول المهنة منهم. الأمر الذي يفسّر لي لماذا يستميت بعض الأطباء المحليون على طلب العلم في الخارج حتى لو كانت ظروفهم المادية و الإجتماعية لا تسمح بذلك. و الشكر (كل الشكر) في ذلك لأطبائنا القدامى الفطاحل الذين لم يتعلّموا الصنعة و احتفظوا بأسرارها لأنفسهم فحسب ، و إنما صعّبوها و عقّدوها علينا وهي سهلة في أساسياتها.
قال لي أحد الزملاء العرب بأن "أفواجاً" من الأطباء من اليابان و كوريا الجنوبية كانت تتدفق طلباً للتدريب الطبي في مستشفيات كندا خلال فترة السبعينات و الثمانينات من القرن الماضي. انقطع هذا التدفق لاحقاً. هؤلاء الأطباء أسّسوا برامج تدريبية في بلدانهم و أبدعوا في تخصصاتهم و استغنوا عن التدريب في أمريكا الشمالية. هل سنصل نحن الخليجيون إلى هذه المرحلة ؟ مع العينات التي نراها في مستشفياتنا حالياً ، أشك في ذلك. على الأقل ليس على المدى القريب. ربما ستتغيّر الظروف في المستقبل البعيد.
الكويت بلد صغير المساحة و أسواقه مفتوحة. لكنه يافع الخبرة في مجالات كثيرة.
صفة "يافع الخبرة" أعني بها غياب القوانين و المعايير حتى الآن لمهن و تخصصات متنوعة. لم ألاحظ هذه الظاهرة في مجال عملي في الطب فحسب و إنما لاحظتها في مجالات أخرى. لاحظتُ مثلاً من الكويتيين من سافر إلى شرق آسيا ليتعلّم فنون قتالية جديدة (فنون مماثلة للكاراتيه و الكونغ فو ...الخ) ليستفرد بها و يحتكرها ، و يعيّن نفسه مدرباً و ممثلاً رسمياً لهذه الرياضة في الكويت. في المقابل لا نلومه ، فلا يوجد في البلاد من يقيّم كفاءة هذا "المدرب" الذي يمثل هذه الرياضة في البلد.
كانت هذه تجربتي في مستشفيات كندا كما رأيتها. تجربتي في تخصص القلب لا تشابه بالضرورة تجارب الغير في التخصصات الأخرى. في النهاية لكل مجتهد نصيب. و كل يغني على ليلاه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق