الثلاثاء، 26 نوفمبر 2013

المدرسة القديمة

 التقنيات الحديثة في تطوّر مستمر و سريع. التقنية التي يتعلمها جيل اليوم ستصبح قديمة لجيل الغد. لكن التقنية القديمة تهمّشت لسبب وجيه. لأن التقنية الحديثة أثبتت وجودها و أفضليتها من القديمة. نفس الأمر ينطبق على الجيل القديم. لنا كل التقدير و الإحترام للجيل القديم. لكن إذا الجيل القديم لم يحدّث معلوماته و مهاراته و تمسّك بمفاهيمه الغابرة ، سيهمّشه الجيل الجديد عاجلاً أم آجلاً. 

  في اللغة الإنجليزية يُطلَق على الخبير المتمسّك بالمباديء العلمية القديمة مصطلح "المدرسة القديمة" (Old School). التعبير يُستٓخدٓم كإطراء عموماً. ذلك لأن الجيل القديم عادةً يستهزيء بالطرق الحديثة لأنها غير مألوفة لديه. الجيل القديم لا يستوعب بأن العلم "ليس له صاحب". البحث العلمي في تطور مستمر. و الحقائق العلمية المسلّم بها اليوم من الممكن أن تصبح باطلة غداً و العكس صحيح :  المعلومات الباطلة اليوم ربما تثبت صحتها غداً.

  نقطة الجدل هنا أن الغرب أدرك هذه المشكلة خلال العقدين الماضيين فقط. أعني بها مشكلة الجيل القديم الذي يقمع الجيل الجديد. الجيل القديم له أسبابه الخفية و العلنية في شن مثل هذه الحرب. أياً كانت الأسباب ، هذه الحملة ضد "الدماء الجديدة" تستهلك الموارد و تعطّل التنمية و بالتالي  ليست في مصلحة البلد. لذلك الدول الغربية  تهتم الآن بتنمية أفكار و ابداعات الجيل الجديد أكثر من أي وقت مضى. 

  في حال حدوث جريمة ،  الشرطة في العقود السابقة كانت تعتمد في تحقيقها على الإستجواب المباشر و شهود العيان و بصمات الأصابع و الحدس (إحساسي يقول لي بأن فلان متورط في الجريمة). أما الآن ، وسائل التحقيق تطوّرت ، منها البصمة الوراثية بالحمض النووي (DNA)  و الطب الشرعي (Forensic Medicine) و انتشار تقنية كاميرات المراقبة في الأماكن العامة أكثر بكثير من السابق. الأمر الذي استدعى إعادة فتح ملفات التحقيق في جرائم قديمة تمت فيها إدانة أبرياء سُجِنوا لجرائم لم يرتكبوها. و تم إطلاق سراح هؤلاء الذين أثبت الدليل العلمي الحديث براءتهم من الجريمة ، لكن بعد فوات الأوان: بعدما أمضوا زهرة شبابهم في السجون. 

  نفس الوضع في الجراحة. في بعض الحالات الجراحية ، بعض الجراحين القدامى يفضّلون الجراحة المفتوحة على جراحة المناظير. بالرغم من الدليل العلمي الذي يفضل جراحة المناظير التي مضاعفاتها أقل و تعافي المريض منها أسرع و ندباتها الجراحية على الجلد أقل. 

  عشّاق المدرسة القديمة يتمسكون بها و بالسلوكيات المصاحبة لها أيضاً. أساتذة المدرسة القديمة عاشوا شبابهم في حقبة لم يكن فيها التعليم النظامي و التخصصي متوفراً و بسهولة للجميع كما هو الآن. لم تكن هناك هواتف نقالة أو انترنت. كان التعليم محصوراً  لفئة محدودة و رفيعة من الناس. الأمر الذي جعل المتعلّم (و المختص) في تلك الفترة له مكانة مرموقة و إمتيازات خاصة و معاملة مختلفة.  رأي المتعلم في أي موضوع كان حاسماً غير قابل للمناقشة أو الدحض. فلم يكن غريباً على المتعلم في تلك الأيام "نفش ريشه" على الغير. ألقاب مثل "دكتور" أو "بروفيسور" أو "مهندس" أو "محامي" كان لها وقعها على الأذن في فترة كانت أعلى شهادة دراسية عند أغلب الناس هي الثانوية العامة.

"سلوكيات" المدرسة القديمة من الممكن تلخيصها في النقاط التالية:
١. إزدواجية المعايير منهج حياة.
٢. مبدأ "القيادة بالقدوة" مرفوض. 
٣. الإهتمام بالمظهر أهم من الإهتمام بالجوهر.
 ٤. العبقري الأجنبي دائماً أفضل من العبقري المحلّي.
٥. الصورة الإعلامية للعامة يجب أن لا تعكس الواقع.
٦. إختيار رئيس البحث العلمي يتم حسب شروط معيّنة ، " الأقدمية" أهمّها ، و "الكفاءة" ليست منها. 
٧. الكبير كلمته مسموعة حتى لو كان غبياً. و الصغير كلمته مقموعة حتى لو كان عبقرياً.   
٨. الكبير يفهم في كل شيء. حتى في الأمور الخارجة عن اختصاصه (الجدل من منطلق السّلطة).
٩. الإعتماد على العاطفة و الأحاسيس و المعتقدات الشخصية و المنطق في اتخاذ القرار ، بدلاً من التجربة العلمية. 
١٠. يبقى الحال العام على ما هو عليه. القديم مقبول و الجديد مرفوض. واللي مش عاجبه يخبط راسه في الحيط!

ما هو العامل المشترك لكل سلوكيات المدرسة القديمة المذكورة أعلاه؟
سلوكيات المدرسة القديمة تشير إلى النفس البشرية "الأمّارة بالسوء". بمعنى أن الإنسان بطبيعته غالباً ما يميل إلى الفساد في قراراته لخدمة مصالحه  الشخصية ، ما لم يضع لنفسه ضوابط تردعه. و بالضوابط هنا أعني استراتيجيات البحث العلمي التي تأسّست عليها المدرسة الحديثة. أما عن سلوكيات المدرسة الحديثة فإنها عمداً تناقض كل سلوكيات المدرسة القديمة

في عالمنا العربي قبل عدة عقود ، كانت المدرسة القديمة البديل الأمثل للجهل و الأمّية و لأسباب واضحة. أما الآن ، المدرسة الحديثة بالرغم من انتشارها صورياً ، إلا أنها عاجزة عن تطوير واقعنا العربي و لسببين أساسيين:

١. أتباع المدرسة القديمة متمسكون بمناصبهم بالنواجذ و يقمعون الدماء الجديدة الناهضة.

٢. أتباع المدرسة الحديثة من جيلنا الحالي متمسكون بسلوكيات المدرسة القديمة (ما طاح ، إلا انبطح)! 

بوجود هاذين السببين ، لن ترقى الجامعات العربية إلى مستوى نظيراتها من الجامعات الغربية. و بالتالي سنظل نحتاج لإبتعاث أبنائنا و بناتنا للدراسة في الخارج و في كل التخصصات ، لا سيما الطب. صحيح أن مباني جامعاتنا آية في الجمال المعماري الحديث (خصوصاً في دول الخليج العربية) ، إلا أن العقول التي تدير هذه الصروح التعليمية لا تزال تعبد المدرسة القديمة من أيام العصر البرونزي ، وتبرمج تلاميذها عليها.  

الأحد، 24 نوفمبر 2013

خلك موهوب

في أحيان كثيرة عندما أدرّس أساسيات أمراض القلب لطلبة الطب أو الأطباء المقيمين ، يصفونني بأنني "ذكي" أو "متميّز".

و عندما أنكر هذه الصفات يصفونني بالمتواضع. المسألة أصلاً لا علاقة لها بالتواضع. الأمر الذي أوحى لي كتابة هذا المقال البسيط لأوضح وجهة نظر مهمة ربما تفيد البعض. لا سيما زملائي الأطباء في بداية مشوارهم المهني. ما سأشرحه لا يقال في قاعة المحاضرات. لكنه واقعي حتى النخاع. ربما أكثر ما يميّز الإنسان عن بقية المخلوقات رغبته في تطوير نفسه. والتطوير بالضرورة يعني تعليم الغير.

إذا أردتَ أن تجعل لحياتك معنى و رغبتَ في العلم ، ضع في بالك ثلاث أسئلة أساسية. 

السؤال الأول: من الذي يحدد مستواك و يقرر مصيرك؟

 لا يعتمد التلميذ المجتهد على أستاذه "القدوة" في اكتساب المعلومات فحسب. و إنما يهتم أيضاً لرأيه و تقييمه (بالإنجليزية feedback). فإذا قيّم المدرس تلميذه بعبارة "إبقى قابلني إزا فلحت"، ربما هذا التقييم سيؤثر على أداء الطالب في المستقبل سلبياً. 

أطلق علماء النفس على هذا التأثير مصطلح "النبوءة المحققة لذاتها" (self-fulfilling prophecy).

فإذا كان "القدوة" ذو وزن و قيمة في حياة التلميذ ، سيطبق هذا التلميذ لا إرادياً ما يتنبأ به هذا القدوة. 

لنربط الآن حقيقتين مهمتين معاً
الحقيقة الأولى: النبوءة المحققة لذاتها.

الحقيقة الثانية: البشر لا يعلمون الغيب و غير معصومين عن الخطأ. 

من الوارد جداً للقدوة  أن يكون مخطئاً في رأيه أو حكمه أو تقييمه لأداء تلميذه. هذه الإحتمالية تزداد إذا كان المدرّس لديه أصلاً تحفظات مسبقة ضد هذا التلميذ. الجانب الإيجابي لهذا الربط يفسح للتلميذ المجال لتحديد مصيره بنفسه و تكذيب "نبوءات" قدوته و ربما التفوق على أستاذه أيضاً في يوم ما.  

  في البرامج الفنية لإستعراض المغنيين المغمورين مثل "أميريكان آيدول" أو "إكس فاكتور" و ما شابهها من البرامج في اللغات الأخرى (منها اللغة العربية) تبحث عن المواهب الدفينة. لجنة التحكيم فيها تتكون عادة من ثلاث إلى أربع فنّانين مشهورين. يُشتَرط في أحدهم أن يكون وقحاً و كلامه "سم في البدن".

يستمتع و يتفنن هذا الحَكَم الوقح  في شتم و تهزيء المتسابقين الذين يفتقرون للموهبة. و يكتفي بإبتسامة فقط للموهوبين منهم (داق الثقل). فإذا كان هناك فرضاً متسابق موهوب فعلاً و لكنه لم يفز في هذا البرنامج ، فهل معناها  أن رأي لجنة التحكيم فيه كان صائباً؟ المسخرة في الموضوع أن أعضاء لجنة التحكيم أنفسهم ربما يفتقرون للموهبة. حصلوا على نصيبهم من الشهرة في الوسط الفني بوسائل أخرى غير الموهبة مثل الحظ والأقدمية و المحسوبية وغياب المنافسين في زمانهم. 

في الأوساط العلمية ، تحليل و نقاش و نقض تصريحات "القدوة" يشكّل حجر أساس البحث العلمي. و الحال لا يختلف في هذا السياق عن النجاح الشخصي و تحقيق الذات. 

السؤال الثانيأين المدرّس الممتاز؟

 عندما تخرجت من بورد الأمراض الباطنية ، أبلغتُ رئيس القسم في أحد المستشفيات الحكومية رغبتي في التخصص بأمراض القلب و  العمل في وحدة العناية القلبية (CCU) كمرحلة انتقالية قبل الإلتحاق ببرنامج زمالة أمراض القلب. قال لي "إزا كنت عايز تشتغل في وحدة السي سي يو لازم تبدأ من الصفر لأنك ما تعرفش حاجة في الألب".

  مستواي في أمراض القلب في تلك الفترة فعلاً لم يكن عالياً. لكن رئيس القسم آنذاك كان مشهوراً بتفاديه المتعمّد لتدريب أطباء البورد. و لأنه لم يذكر أسباب رفضه تدريبنا. وقع  استنتاج الأسباب على عاتقنا نحن المتدربون. المضحك المبكي في الموضوع أن هذا الإستشاري نفسه كان دائم التذمر من تدني المستوى التعليمي للأطباء المتدربين. سؤالي له: كيف تتذمر من مشكلة أنت سبباً أساسياً فيها؟ علّمني أسرار الصنعة ثم إنتقدني. لا تنتقدني قبل أن تعلمني.

مع العلم ان رئيس القسم نفسه ترقّى بشهادة عضوية الكلية الملكية البريطانية (MRCP) والتي يحصل عليها الطبيب عادةً  بالدراسة المنزلية دون تدريب مهني منظّم ومقنن. شهادة العضوية البريطانية هذه بحد ذاتها لا قيمة لها في بريطانيا حالياً. إذ أن المملكة المتحدة لديها برامجها التدريبية المهنية المكثفة المعتمدة الخاصة بها و تسمى "CSST".  

سافرت إلى المملكة العربية السعودية و التحقت ببرنامج الزمالة التخصصية لأمراض القلب للكبار (adult cardiology). و من حسن حظي أصبحت تلميذاً لأروع أستاذ لأمراض القلب: د. بهاء فاضل. 

علّمني د. فاضل التخصص على أصوله بطريقة مبسّطة أشك في قدرة الكثير على مضاهاتها. المدرس الممتاز لا يبسط المعلومة فحسب ، بل و يعمل على صقل المواهب الدفينة لدى تلاميذه. ليستوعب كل تلميذ المعلومة على طريقته الخاصة. كل تلميذ لديه مواهب دفينة تحتاج لمن يصقلها.

قال فلاسفة الشرق الأقصى منذ القدم "لا يوجد هناك طالب سيء. فقط هناك مدرس سيء"
 There is no such thing as a bad student, only a bad teacher


د. بدر المهدي (يمين): جائزة أفضل طبيب زمالة لأمراض القلب لسنة ٢٠١٢
د. بهاء فاضل (يسار) جائزة أفضل مدرس لزمالة أمراض القلب لسنة ٢٠١٢

السؤال الثالثالتكرار يعلم الشطّار

  ربما المعنى الموازي لهذا المثل في الإنجليزية هو "الممارسة سر الإتقان" (Practice makes perfect).

تعلّم مهارة جديدة أو علم جديد ربما يكون صعباً في بدايته. لكن الصعوبة تتلاشى تدريجياً بممارسة تلك المهارة. إلى مرحلة عندما تُمارَس المهارة تلقائياً دون تفكير واعٍ. لذلك الجراح الذي يمارس الجراحة منذ ثلاثين سنة مثلاً أبرَع من الطبيب المتدرب سنة أولى في بورد الجراحة.

القكرة من تكرار دراسة نفس المعلومة أو ممارسة نفس المهارة بأن التكرار يُظهِر "نَمطاً" معيّناً (pattern) في سيل المعلومات. التعرف على هذا النمط يسهّل استيعاب المعلومة. 

- في المرحلة المتوسطة (على أيامنا) تعلم اللغة الانجليزية للمرة الأولى كان صعباً جداً بالنسبة لي.

- في كلية الطب قيل لي بأن الدراسة صعبة لأنها باللغة الانجليزية ، و مطلوب مني حفظ اسم كل عظمة و عضلة و عصب و عضو في جسم الإنسان في مادة التشريح (anatomy). 

العبقرية تكمن في اكتساب المعلومات في زمن قياسي.
مثلاً بعض الأطفال الذين يتخرجون من الجامعة بشهادات الماجستير و الدكتوراه قبل سن البلوغ.

العبقرية تكمن في إبتكار مفاهيم علمية ثورية جديدة. 
مثلاً أينشتاين و نظريته النسبية.

العبقرية تكمن في في إتقان مهارة معينة دون تدريب مسبق. 
مثلاً موزارت (Mozart) و عزفه على الآلات الموسيقية.

أما الإنسان الذي يقرر مصيره بنفسه.
و يتحدّى آراء النقّاد الراغبين في إحباطه مهما كانت أسبابهم.
و يتتلمذ على يد أفضل الأساتذة في مجاله.
و يصقل معلوماته و يتقن مهاراته بالتدريب المستمر.
ربما صفاته الحميدة كثيرة. لكن "العبقرية" ليست منها. 

الأحد، 10 نوفمبر 2013

العينة المحفوظة


  يبحث علم الأحافير عن كائنات حية سادت ثم بادت. المميز في البعض منها أنها بقيت محفوظة بين طبقات الأرض و لم تتحلّل. ربما أشهرها الحيوان الشبيه بالفيل المسمى "الماموث". حيوانات الماموث عندما انقرضت حُفِظَت في الجليد بكامل لحمها و عظمها و شعرها ولم تتحلل. هنا يأتي التشبيه بالعينة المحفوظة (The preserved specimen).

 يتغرب المواطن العربي في لطلب الرزق أو العلم. ليجد ضالته المنشودة في دول الغرب. لكن الحياة في الغرب غير محصورة فقط في طلب العلم. إذ تسنح الفرصة للمغترب لإكتساب صفات فكرية غربية ربما تحتاجها العقلية العربية (و تحتاجها بشدة) منها للمثال  التواضع و المساواة و الشغف في العمل و روح الفريق والتعددية العرقية. 

 من ما لاحظته من إحتكاكي ببعض العرب في الغربة بأنهم يحرصون (بشكل إرادي أو عفوي) للإحتفاظ بعقليتهم العربية والتفاني في الدفاع عنها مهما كان الثمن و مهما طال الزمن. منهم من يعيش في الغرب لسنوات طويلة دون ممارسة لغة أهل البلد الذي أمضى أحلى سنوات عمره فيه و تخرج منه. قابلت بعض العرب المقيمين هنا في إقليم "كيبيك" الناطق باللغة الفرنسية منذ سنوات و لا يتحدثون اللغة الفرنسية إطلاقاً !

هذا الانسان العربي المغترب بشكل عام. لنرَ الآن الرجل الخليجي بشكل خاص. الخليجي في بلده يتسم ببعض أو كل السمات الآتية:

١. نشاطه البدني يتضاءل تدريجياً كلما كبر في السن.
ليصل إلى أدنى مستوياته بعد الزواج. لذلك يفضّل قضاء حوائجه بالسيارة حتى لو كانت مشاويره قريبة. 
بالنسبة له الرز (بالكويتي: العيش) هو عصب الحياة.
و الكرش رمز النعمة و الخير.

٢. المساواة مرفوضة بأي شكل من الأشكال وعلى كل المستويات.
فالكبير في السن أفضل من اليافع.
و الذكَر أفضل من الأنثى.
و الحُر أفضل من العبد.
و العربي أفضل من الأجنبي.
و قبيلته/عائلته أفضل من القبائل/العوائل الأخرى.
حتى بين أبناء قبيلته/عائلته أنفسهم ، ابن المرأة العربية أفضل من ابن المرأة الأجنبية.
و إبن الحرّة أفضل من إبن العبدة/الخادمة. (في الحوار الدارج ، الإبن المنبوذ بين اخوته يصف نفسه مجازاً على أنه "إبن العبدة").
و البشرة البيضاء أفضل من البشرة البنية أو الصفراء أو السوداء.
هذا غير الطائفية ، فأتباع مذهبه أفضل عنده من أتباع المذاهب الأخرى. 

٣. المظهر الخارجي أهم بكثير من الجوهر.
لا ضير هنا في تطوير الجوهر ، ولكن المظهر الخارجي له الأولوية دائماً.
و بالمظهر لا أعني به حسن الهندام فحسب ، وإنما بالهيبة و الكاريزما و الحضور و اللقب (دكتور/بروفيسور/صاحب المعالي..الخ). 

٤. حب القوة بحد ذاتها و احترامها من سمات العرب.
بغض النظر عن ما إذا كانت خيّرة أو شريرة. فالقوي محبوب لأنه مهيمن ، لا يجرؤ أحد على عراكه أو مساومته أو نقاشه. بينما الطيّب منبوذ لأنه "ضعيف" لا يحب المشاكل ولا يفضّل جذب العداوات. ربما هذا السبب الرئيسي لوجود العديد من محبي المقبور صدام حسين في العالم العربي إلى يومنا هذا
 
٥. الخليجي يؤمن بالميتافيزيائيات والخرافات والسحر و بشدّة.
لذلك يقضي كل حوائجه بالكتمان الشديد.
زوجته تحبل و تلد بالسر. و يترقى في عمله بالسر. كل ذلك خوفاً من الحسد.
أما إذا نزلت عليه مصيبة ، مهما كان حجمها ، فسببها بالتأكيد "عين ما صلّت على النبي".
أما إذا حصل خلاف بينه و بين أهله ، أو كان مزاجه متعكراً في يوم من الأيام ، أو كان جسده واهناً ، فذلك بالتأكيد بسبب "سحر".
و إذا كان يحب زوجته و يعشقها ولا يستطيع العيش بدونها ، فذلك بالتأكيد لأنها إستعانت بساحر ليعمل لها "عمل" تربطه به.     


يسافر الخليجي الى دول الغرب بهذه العقلية "الفريدة من نوعها" ، ليجد نفسه في عالم غريب عليه ، كأنه "ألِيس في بلاد العجائب" (Alice in Wonderland). يجد نفسه بين ناس متعددة الأعراق و الألوان و الأديان. يجمعها عامل المصالح المشتركة فقط. الغرب سئم من العقلية السطحية التافهة التي تستنزف طاقة الناس دون جدوى. حتى لو كانت رواسبها لا تزال تحت السطح.

يلاحظ الطالب الخليجي في "بلاد العجائب" رئيسه "البروفيسور جوزيف" (الكل يناديه "جو" Joe) يذهب الى الجامعة مبكراً قبل كل الطلبة كل يوم. مرتدياً ملابس متواضعة (كاجوال Casual). عندما يلقي "جو" محاضراته ، يبدأ كل درس بعبارة "ربما أكون مخطئاً ، ولكن...". الجدير بالذكر هنا أن "جو" من أصل أوروبي أبيض البشرة أزرق العينين. و زوجته سمراء عيونها مسحوبة ، أصولها كورية/هندية.  

ينبهر هذا الخليجي أكثر عندما يتمشى في الشارع في الصباح الباكر ليرى رجالاً و نساء أعمارهم فوق الستين سنة يهرولون يومياً.

في البقالات ، أسعار السجائر مبالغ فيها. و السن القانوني الأدنى للتدخين ٢٥ سنة. الأماكن العامة و الخاصة التي تسمح بالتدخين قليلة.    

في أي مكان مزدحم بالزبائن (مثلاً شباك التذاكر / الكاشير في الأسواق) الناس تقف تلقائياً منتظمة في طوابير. دون الحاجة لرجل أمن أو مسئول لتنظيم وتقنين هذه الطوابير. الغربيون تعلّموا بالتجربة أن الكل سيحصل على ما يريده بالتنظيم.

و بالرغم من معايشة هذه "العجائب" لسنوات طويلة ، يتخرج صاحبنا العربي أبو العناتر ليرجع الى الخليج مرفوع الرأس. مصطحباً معه "درزن" من الشهادات اللامعة في إطارات ذهبية. يعلقها في مكتبه للتباهي ونفش الريش. بينما عقليته "عينة محفوظة" هي نفسها لم تتغير أبداً.

- كرشه يمتد أمامه كأنه إمرأة حامل في شهرها التاسع. لأن الكرش رمز النعمة.

- آخر من يداوم و أول من يرجع بيته. 

- لا يرضى أن يناديه أحد بإسمه دون ألقاب (دكتور / بروفيسور .. الخ). 

- يرتدي أفخر الملابس دائماً في كل الأوقات ، كأنه سفير في مهمة دبلوماسية أو "جيمس بوند"!

- لا يزال ينظر إلى "كومار الهندي" على أنه دون البشر ، حتى لو كان "كومار" هذا مليونيراً أو عالِماً.

- لا يزال ينظر إلى المرأة على أنها مخلوقة فقط لخدمة الرجل. حتى لو كانت هذه المرأة أمه و أخته و إبنته.

- لا يزال ينتفض خائفاً عند سماع حديثاً عن الجن و العفاريت ، مردداً بعد انتفاضته عبارة "سكّنهم بمساكنهم".

- لا يزال يعظّم القوي فقط لأنه قوي. حتى لو كان هذا القوي ديكتاتور طاغية مجرم. يترحّم مثلاً على صدام حسين لأنه قتل "الشيعة المجوس" و يعشق هتلر لأنه حرق "اليهود أحفاد القردة و الخنازير". 

أحيّيك يا ابن الصحراء.
في النهاية لا فرق بينك و بين ابن بلدك الذي لم يتغرّب. 


خلك بائس

"عائلة البائس" تعود تسميتها قبل مائتي سنة إلى جدها "البائس الأول". لقّبَت الأسرة بذلك لفقر جدهم الشديد الذي ورّثه لأبنائه ، ليصبح "البائس" لقبهم الدائم جيلاً تلو الآخر. بسبب الفاقة ، كانت الخدمة في البيوت هي الحل الوحيد المتوفر لأبناء "البائس" في تلك الفترة. 

  وجدوا أبناء "البائس" الستر عندما خدموا جيرانهم من بيت "المعزّب" ولأجيال عدة. بعكس عائلة "البائس" ، كانت "المعزّب" عائلة تجّار أباً عن جد. أموالهم طائلة بسبب تجارتهم الرابحة المتشعبة في كل مجال منذ القِدَم. إبن "المعزّب" كان يولَد و في فمه ملعقة من ذهب ، يحملها له دائماً خادمه الأمين ابن البائس. 

  أبناء "البائس" كانوا يخجلون من لقب عائلتهم و لأسباب واضحة. كان الفرد منهم يعرّف نفسه للغير على أنه فلان بن علّان فقط ، دون ذكر اسم العائلة. وصلت المرحلة عند البعض بحذف إسم "البائس" من جواز سفرهم و بطاقة هويتهم الشخصية. وبالرغم من كل هذا   التضليل و الاختباء، إلا أن أبناء "الفريج الواحد" كانوا يعرفون من هم البؤساء و من هم المعازيب. عوائل الفريج كانت لا تناسب البؤساء لفقرهم. لذلك كان البؤساء يضطرون عادة للزواج من الخارج. 

  قبل بضع سنوات ، ظهر في عائلة البائس شاباً قصير القامة ضئيل البنية يدعى "حنظل".
حنظل كان يعمل فرّاشاً في شركة تنظيف تملكها عائلة "المعزّب". بالرغم من ساعات عمله الطويلة و المتعبة ، إلا أنه أصرّ على إكمال تعليمه في المدارس المسائية. و بعد فترة قياسية ، تخرج حنظل و حصل على شهادة البكالوريوس من كلية إدارة الأعمال و بإمتياز. بسبب مؤهله الجامعي و نشاطه و إبداعه في العمل ، رقته إدارة الشركة إلى رئيس الفراشين. و مع مرور الوقت و لفته لأنظار المسئولين بإبتكاراته في الإدارة ، صعد حنظل تدريجياً على سلم الترقيات إلى أن انتهى به الأمر بتنصيبه مديراً عاماً لشركة "المعزّب" لخدمات التنظيف. 

  عصفت أزمة اقتصادية حادة بعائلة "المعزب" ، ذلك لأن الجيل الجديد من العائلة بطر بالنعمة و بذّرها على الشهوات و النزوات. مستنزفين في ذلك الثروة التي كافح أسلافهم في تجميعها. وقتها عرض "المدير حنظل البائس" على أبناء المعزب شراء الشركة منهم و بثمن زهيد نسبياً. كان توقيت حنظل بمثابة الطرقة القوية على الحديد أحمر الحرارة. ذلك بسبب الهبوط الحاد لأسهم شركات "المعزب" في البورصة في تلك الفترة. وافق على إثرها أبناء المعزب دون مساومة. و أضحى حنظل البائس ، الفقير سليل الخَدَم ، صاحباً لأكبر شركة لخدمات التنظيف. 

  تحسنت أمور الشركة من صفقة تجارية إلى أخرى. بدأت "شركة البائس للتنظيف" (شركة المعزب سابقاً) بالنمو السريع و التشعّب للإستثمار في مجالات أخرى غير خدمات التنظيف. زادت أملاك "المليونير" حنظل ، الذي بنى بعد ذلك ديوان ضخم للعائلة ، كتب على واجهته و بالخط العريض "ديوان البؤساء". الديوان كان ملتقى أبناء البائس في الأعياد و المناسبات و الأفراح. أغلب أبناء البائس تركوا الخدمة في منازل "المعازيب" و حصلوا على وظائف في شركات حنظل التي انتشرت في كل أرجاء البلاد.  

سبحان مغير الأحوال...
صارت عوائل الفريج الواحد تتشرف بمصاهرة عائلة البائس.
هناك من الغرباء في البلد من نَسَب نفسه لعائلة البائس دون إذنهم.
وصلت المرحلة إلى نسب بعض الأجانب من الدول المجاورة أنفسهم لعائلة البائس.
كان تعليلهم في ذلك "نحن ننحدر أصلاً من البؤساء ، و لكن جدنا هاجر إلى قلعة وادرين لطلب لقمة العيش و استقر هناك!!!".

في الجانب الآخر من الفريج ، أبناء المعزب أصبحوا على عتبة الفقر. بالكاد يوفرون قوت يومهم.
و لكنهم بالرغم من حالتهم المادية الصعبة إلا أن هندامهم لم يتغير. و سياراتهم الفارهة لم تتبدل.
ظلوا مرفوعين الرأس. إذ كانوا يفضلون البطالة و الموت جوعاً على طلب وظيفة في إحدى شركات البائس.
و ظلّوا يردّدون لكل من زارهم 

"البؤساء كانوا خدماً عندنا ، و سيبقون كذلك. حتى لو ملكوا الدنيا و ما فيها. فالبائس بائس و المعزّب معزّب مهما كانت الظروف".

إلا أن الحسرة كانت تحرقهم من الداخل.
فمهما كانوا بارعين في تمثيلهم ، إلا أن لغة جسدهم كانت أحياناً تفضحهم. 

هنا يأتي سؤال الفلاسفة الأزلي: أيهما أتى أولاً. البيضة أو الدجاجة؟

هذه القصة القصيرة الخيالية تطرح سؤالاً مشابهاً لسؤال الفلاسفة:  
هل الفرد يبرز اسم العائلة؟ أو اسم العائلة يبرز الفرد؟

في الحياة الأكاديمية هناك العديد من الأمثلة المشابهة لأفراد تربويون. بجهودهم و عبقريتهم حوّلوا المدارس الفاشلة إلى مدارس عباقرة. في الحياة السياسية أيضاً هناك قادة حوّلوا مدنهم و دولهم من معاقل للجريمة إلى جنّات.

السؤال هنا: كم منّا لديه ميول "حنظلية"؟ و كم واحد منا يفضل أن يبقى معزّباً؟

تنويه: أسماء كل العوائل والأفراد في هذه القصة القصيرة من نسج خيال المؤلف. 
أي تشابه بينها و بين الواقع هو من محض الصدفة البحتة. 

الأربعاء، 6 نوفمبر 2013

برمجتنا واحدة !

  كلما استنكرنا ظاهرة سلبية في مجتمعنا ، ضربنا المثل بالدول المتقدمة و "صرّحنا" بأن هذه الظاهرة تحدث هنا و لكنها لا تحدث هناك. في رأيي المتواضع ، إذا تراجعنا خطوتان إلى الوراء و رأينا الصورة الكاملة ربما سنلاحظ بأننا نحن بني آدم كلنا طباعنا و سلوكياتنا متشابهة. و نقاط تشابهنا أكثر بكثير من نقاط إختلافنا. بمعنى آخر ، كلنا لنا "سوفت-وير" واحد و برمجة واحدة.  

  نظرتنا للغرب على أنهم ناس متحضرون و تقنيتهم متقدمة جداً و عقلياتهم راقية و أخلاقهم عالية و يحترمون حقوق الإنسان ، بعكس دول العالم الثالث. جزء كبير من هذا الكلام صحيح. لكن هناك وجه آخر للغرب ربما لا يعرفه الكثير من الناس ، لا سيما العرب منهم. حبنا أو احترامنا للغرب و انجازاته ربما يعمي أعيننا عن بعض الحقائق الذي يتشابه فيها معنا و هذا أمر طبيعي. كما قال الشاعر...

عين الرضا عن كل عيب كليلة   و لكن عين السخط تبدي المساويء

في هذا المقال سأطرح ثلاث نقاط فقط (للمثال لا الحصر) نتشابه فيها مع الغرب. أنا أعنى هنا دول الغرب خلال العقود الثلاثة الماضية حتى يومنا هذا. أوروبا في عصور الظلام و خصوصا حقبة الإستجواب في أسبانيا (The Inquisition) تاريخها "سواد وجه" و موثق في الكتب و الإنترنت.  ربما ستلاحظ بأن الغرب - في بعض الأمور - ربما لا يختلف كثيراً عن العرب.

١. الناس تستجيب للحوافز
  كتاب "فريكونوميكس" (Freakonomics) ، من تأليف ستيفن ليڤيت و ستيفن دوبنر ، طرح نقطة مهمة جداً في سلوك البشر: الناس تستجيب للحوافز. هذه الحقيقة مؤلمة خصوصاً إذا تضاربت مع المثاليات. فليس غريباً على الطبيب الذي يعمل لساعات طويلة براتب زهيد إن كان كسولاً يتهرب من العمل. و المشكلة تتفاقم إذا كان المرتب موحداً للنشيط و الكسول على حد سواء. في هذه الحالة حتى الطبيب النشيط سيصاب بالإحباط عاجلاً أم آجلاً.   

هذا هو السبب الرئيسي لتوجه الأطباء في الكويت إلى القطاع الخاص. ففي النهاية الطبيب مجرد إنسان يحتاج المال لتسديد الفواتير و توفير العيش الكريم لأسرته و شراء سكن حاله حال غيره. التفاني و الشغف في العمل مقابل "ملاليم" لا يكفي.  

في كندا عولِجَت هذه المشكلة بنظام الفواتير للأطباء (Billing). فالجرّاح مثلاً بعد إجرائه للعملية الجراحية في المستشفيات العامة ، يرسل فاتورة أتعابه للجهات المعنية للدولة ليحصل على أجرته. في هذه الحالة يعتمد دخل الطبيب على كمية عمله. فهل تحققت "العدالة" للطبيب هنا؟ نعم و لا.

"نعم" لأن التعويض المادي بالطبع منصف للطبيب. و "لا" لأن بعض الأطباء المخضرمين القدامى بدؤوا يحاربون الدماء الجديدة، ذلك لأن الجيل الجديد حتماً سيقاسمهم"الكعكة". هذه الظاهرة برزت في تخصص جراحة القلب. فبالرغم من أن توفر الحاجة لجراحين القلب في كندا ، إلا أن عدد الوظائف المتوفرة لهم محدود جداً. لأن جراحين القلب القدامى لا يريدون من أحد جديد أن "يناشبهم في رزقهم".

هذا الرابط يشرح المشكلة بالتفصيل. 
http://www.royalcollege.ca/portal/page/portal/rc/common/documents/advocacy/hhr_attachment6_e.pdf 


٢. الإعتزاز بالهوية و تعصب الناس الأعمى لها. 
  ظاهرة التعصب الأعمى في الدول العربية للجماعة (على أساس الجنس أو الأصل أو الدين أو المذهب …الخ) متفشّية. و نحن نظن بأن الغرب تغلب على هذه المشكلة بالكامل.

في العمل لدي زميل كندي ، من مواليد كندا و عاش حياته كلها في مونتريال. و لكن لغته الإنجليزية ضعيفة و لغته الفرنسية أضعف! سألته: ما هي لغتك الأم؟ فقال لي: لغتي الأم الإيطالية. والداي هاجرا إلى مونتريال (في الإقليم الفرنسي من كندا) منذ ثلاثين عاماً. و كما كانت الأغلبية الإنجليزية في كندا تضطهد الأقلية الفرنسية ، كانت الأقلية الفرنسية بدورها تضطهد الأقلية الإيطالية (الكل يستعرض عضلاته على من هو أضعف منه). لذلك والداي رفضا مخاطبتي بالإنجليزية أو الفرنسية. ترعرتُ في بيت ينطق الإيطالية فقط. 

المستشفى اليهودي العام في مونتريال 
تأسس إقليم "كيبيك" الفرنسي في كندا أصلاً على يد الفرنسيين الكاثوليك المهاجرين. لذلك موقفهم من المهاجرين اليهود ا(لأقلية) لم يكن جيداً و لأسباب واضحة. فكان المريض اليهودي لا يحصل على نفس العناية الطبية التي يحصل عليها المريض المسيحي. و الطبيب اليهودي الكندي لا يُمنَح فرصة التدريب الإكلينيكي في المستشفيات كبقية زملائه الكنديين المسيحيين.

لذلك قرر أغنياء اليهود بناء مستشفى متكامل لتدريب أبناء جماعتهم. على شرط أن يكون هذا المستشفى مفتوحاً لعلاج كل المرضى دون تمييز أو استثناء ، و مفتوحاً أيضاً لتدريب كل الأطباء من كل الجنسيات و الديانات دون استثناء. المستشفى اليهودي العام مشهور إلى يومنا هذا بجودة تدريبه العالية للأطباء و خدماته الطبية المتكاملة لكل المرضى دون تمييز.

٣. متمردين اليوم ، أبطال الغد: الناس تكره التغيير و تقاومه.
  المسيح (ع) حاربته امبراطورية الروم. بعد ذلك أصبحت المسيحية الدين الرسمي للروم. قريش حاربت الرسول (ص). أصبح الإسلام الدين الرسمي لقريش و كل الجزيرة العربية بعد ذلك. الناس كانت و لا زالت و ستظل تقاوم التغيير. لا سيما التغيير الجذري السريع. و الكل لديه أسبابه. و كما ذكرت في السببين أعلاه ، محاربة التغيير أسبابه ربما التعصب و الحوافز. 

 سأضرب المثل في قسطرة القلب لأنها في مجال عملي.
الأمريكان يتميزون عن غيرهم من دول الغرب بقوتهم في  الإعلام و التسويق.
لذلك يظن الحميع بأن الأمريكان هم الأفضل في كل المجالات.   

  في مجال القسطرة القلبية ، يتم تشخيص و معالجة بعض أمراض القلب بالقساطر. القساطر هي أنابيب يتم إدخالها في شريان الفخذ (Femoral artery) و من ثم تمديدها لوضعها داخل القلب. لسنوات طويلة في كل دول العالم (بقيادة الأمريكان) كانت القسطرة القلبية عن طريق شريان الفخذ (Femoral approach) هي الطريقة المعتمدة. 

شريان الفخذ موقعه حساس ، لأنه يمر بجانب مناطق حيوية حساسة (بين الأعضاء التناسلية و البطن) و بجانبه مباشرة تمر أعصاب الفخذ أيضاً. لذلك المضاعفات المحتملة المصاحبة لقسطرة القلب عن طريق الفخذ كثيرة. أخطرها النزيف الداخلي (داخل البطن) الذي قد يهدد حياة المريض. هذا غير أن المريض عليه أن لا يتحرك من السرير لمدة ست ساعات على الأقل بعد انتهاء القسطرة. و بسبب الحجم الكبير لشريان الفخذ ، هناك تقنيات مبتكرة (لكنها مكلفة) لإغلاق فتحة شريان الفخذ بعد انتهاء القسطرة (Perclose/Angioseal).  

  في الثمانينات من القرن الماضي ،ابتكر الطبيب الفرنسي الكندي "لوسين كامبو" (Lucien Campeau) اسلوب ثوري جديد. ألا و هو القسطرة القلبية عن طريق شريان اليد (الشريان الكعبري Radial artery). بعكس شريان الفخذ ، شريان اليد لا توجد حوله أعضاء حساسة أو أعصاب. و لأن شريان اليد صغير ، لا حاجة لتقنيات خاصة مكلفة لإغلاقه (ضمادة عادية تفي بالغرض). و لأن القسطرة عن طريق اليد ، يستطيع المريض أن يقوم من سريره بعد القسطرة مباشرة. لذلك المضاعفات الناتجة من قسطرة الفخذ تكاد تكون معدومة في قسطرة اليد. 

بالرغم من ميزاتها الكثيرة ، إلا أن القسطرة عن طريق اليد لها شعبية قليلة و انتشارها بطيء جداً في الولايات المتحدة ، مقارنة بكندا و دول أوروبا. فلماذا يا ترى؟ هذه هي الأسباب:

١. القطاع الخاص يتحكم بشكل رئيسي في الخدمة الصحية في أمريكا. لذلك "الحافز" هنا استنزاف جيب المريض (أو بالأحرى شركات التأمين) إلى أقصى درجة ممكنة. إبقاء المريض على سرير المستشفى لمدة ست ساعات و استخدام تقنيات مكلفة لإغلاق جرح شريان الفخذ كلها لها مصاريفها و "الحسّابة بتحسب".

٢. قبل إدخال القسطرة في شريان الفخذ ، يتم تثبيت انبوبة داخلية تحوي صمام (Sheath). في أمريكا ، هناك موظفون متخصصون في "سحب" هذه الأنبوبة بعد نهاية القسطرة ، مسماهم الوظيفي "Sheath Pullers". إذا كانت القسطرة تتم عن طريق اليد ، فلن تبقى هناك وظيفة لهؤلاء الاختصاصيون! 

 ٣. القسطرة عن طريق اليد مهارة تحتاج إلى وقت طويل لإجادتها (مقارنة بقسطرة الفخذ). الوقت المطلوب لإجادة مهارة يسمى بالإنجليزية "Learning curve". بعض الاستشاريين الأمريكان القدامى تعوّدوا على قسطرة الفخذ و غير مستعدين لتعلّم قسطرة اليد (لأنها بالنسبة لهم تقنية جديدة). هؤلاء الاستشاريون بدورهم يدربون الجيل الجديد القسطرة عن طريق الفخذ! و هلم جرّا.


الخلاصة
إذا ركزنا على نقاط تشابهنا . أدركنا بأن عقلياتنا تحتاج للتطوير. و ربما سنجعل مستقبل الأجيال القادمة أفضل من حاضرنا.