الأحد، 27 أكتوبر 2013

بشرى خير

نشاهد على قناة الناشيونال جيوغرافيك و اليوتيوب القط الذي يطارد ذيله دون توقف ، والأرنب الذي يحاول الوصول إلى الجزرة المعلّقة بخيط أمامه دون كلل. نضحك على هذه الحيوانات و لسان حالنا يقول "نحن بشر. نحن أرقى من أن نتصرف بهذه الطريقة المتخلفة". و لكن هل هذا الكلام صحيح١٠٠٪؟  

أمثلة
طالب الطب يفني سنوات شبابه في دراسة طويلة لا تنتهي. سنوات من العناء و "الكرف" و تحمّل الإهانات من الذين يعلونه رتبة. و يصر على إكمال دراساته العليا في الغرب حتى لو تعطّلت بعثته لسنوات طويلة. كل ذلك لأمله في ارتداء المعطف الأبيض و الاستمتاع بالهيبة المصاحبة للقب "دكتور". طالبة الطب ترفض الزواج في سبيل إكمال المسيرة المهنية نفسها.  

المغترب الآسيوي في دول الخليج العربية يعمل ١٦ ساعة يومياً دون إجازة. على "أمل" أن يرجع لأهله بعد سنوات قليلة غنياً مرفوع الرأس. معه ما يكفي من المال لشراء منزل أو بدء تجارة أو الزواج.

البنت الصغيرة يزوجوها أهلها رجلاً مسنّاً لا تحبه ، لتنجب منه  ١٥ طفلاً. تتحمل المعاناة على مر السنين لأن أهلها أقنعوها بأنها "ستحبّه" مع الزمن ، و إن لم يتغير شعورها تجاهه ، فعلى الأقل بوليصة تأمينها أبناؤها ، أملها في المستقبل. 

الشباب "الأحرار" في الدول القمعية يكافحون الديكتاتور الحالي. يجاهدون لنشر الحرية بين الناس و يوفرون العيش الكريم للشعب. و المواطن البسيط الجائع المغلوب على أمره يسمع وعودهم الجميلة في خطبهم الحماسية الرنانة التي تجيّش العواطف. يصدّقهم و يحارب الديكتاتورية الغاشمة معهم و من أجلهم.  

المواطن الخليجي يؤمن بفكرة "البيت". بعكس بعض العرب الذين يكتفون بالشّقة. الخليجي "يجب" أن يعيش في بيت مهما كان الثمن. يقترض هو و زوجته مبالغ ضخمة. يرهن كل ما يملك. يعيش في حالة تقشّف. كل ذلك في سبيل شراء "بيت العمر".  

الأصلع الوسيم يؤمن بأن الشعر سر الجمال. لذلك يغطي رأسه بأي طريقة ممكنة (شعر مستعار ، غترة + عقال ، قبعة…الخ).

تمضي السنين بسرعة غير ملحوظة
حياة الإنسان ما هي إلا "وميض" في عمر الأرض و الكون. 

و طالب الطب أصبح طبيباً. ولكن بعد الجامعة بدأت سنة التدريب ، تلتها سنوات التخصص العام و التخصص الدقيق و تخصص-التخصص الدقيق (sub-sub-specialty) في الغربة. ليجد نفسه على مشارف الأربعين من العمر وهو لا يزال جالساً في قاعة المحاضرات يدوّن ملاحظاته في دفتره أو حاسوبه الشخصي. بينما أترابه في المهن الأخرى يجهزون خططهم للتقاعد!     

و زميلته الطبيبة سارت في نفس الدرب. "طابور" الرجال الراغبين في الزواج منها إضمحل تدريجياً مع الزمن. لكنها مكرسة كل حياتها في المستشفى. 

و المغترب الآسيوي تصله رسائل من أبنائه الذين تخرجوا من الثانوية و دخلوا الجامعة. يريدون المزيد من المال لتغطية مصاريف الدراسة. وقتها يتذكر أنه عندما ترك أبناءه للعمل في الخليج ، كانوا في سن الرضاعة.

و البنت الصغيرة التي تزوجت و ظنّت بأن كفاحها سينتهي برعاية أبنائها لها. هرمت و أصبحت "جَدّة" تكافح لترعى أحفادها (بينما هي بحاجة لمن يرعاها) ، ذلك لأن أبناؤها يكافحون ، حسبهم في عملهم لتكوين أنفسهم و إثبات وجودهم في هذا العالم الذي لا يرحم. 

و الضباط "الأحرار" قلبوا نظام الحكم بنجاح. قتلوا الديكتاتور و أبادوا جلاوزته. ليتربّعون منتصرين على عرش السلطة. و يكوّنوا  بذلك ديكتاتورية العهد الجديد. الديكتاتورية هي نفسها ولكن بحلّة جديدة و وجه جديد و أسماء جديدة. المواطن البسيط المغفّل لا يزال يشجعهم و يدعو لهم بالتوفيق ، و يصفق لهم ، لأنه يؤمن بمصداقية وعودهم المزيفة.  

و الخليجي بعد دفعه لآخر قسط  لقرض البيت الذي اشتراه منذ عقود. رجع لأهله فخوراً مرتاحاً. لأن البيت أصبح أخيراً ملكه بالكامل (لا طالب و لا مطلوب). لكنه قضى شبابه كله و استهلك كل صحته و ضحّى بمتع الحياة فقط لتسديد هذا القرض. و بعد انتهاء السداد ، أخبرته زوجته بحاجتهم للإقتراض مجدداً لترميم البيت نفسه!

و الأصلع لم يزدَد وسامة. حتى بعد عملية زراعة الشعر.

مالقصد من وراء هذه الأمثلة؟
 لا يأس مع الحياة و لا حياة مع اليأس
قائل هذه العبارة أصاب قلب الهدف دون منازع. ذلك لأننا بني آدم نتنفس الأمل و نقتات عليه ولا نعيش بدونه. و المرء إذا آمَنَ  في مبدأ أو قضية من الصعب عليه إعادة حساباته و تقييم وضعه.  كالقط الذي يؤمن بأنه حتماً سيصطاد ذيله ، أو الأرنب الذي يؤمن بأنه حتماً سيلتقط الجزرة. 

طبعاً هذه الأمثلة افتراضية بحتة و نتائجها ليست حتمية. فالحظ و الأقدار و ظروف الزمان و المكان كلها عوامل تلعب دوراً كبيراً في تقرير المصير. المشكلة هنا في المحتالين و ضعاف النفوس (و السذّج أيضاً) الذين يعرفون قيمة الأمل و كيفية تسويقه لليائس. حتى إذا كان هذا "الأمل" مزيفاً. القلة القليلة من الناس تفهم "اللعبة" و تعيش حياتها حرة خالية من الآمال الكاذبة.  

الجمعة، 25 أكتوبر 2013

المفروض



"الأعراف المطلقة" ... مبادئ تتبناها عقولنا.
نكتسبها من البيئة المحيطة (العائلة/القبيلة/المجتمع) لتتحول بعد ذلك إلى أساسيات راسخة في عقولنا لا تتغيّر. هذه الأعراف غير قابلة للإجتهاد أو المناقشة أو الجدل. أسميتها "مطلقة" لأن عقولنا المحدودة لا تفهم مبدأ "النسبية" و إعتمادها على الزمان و المكان.

المشكلة المطروحة هنا عن هذه الأعراف عندما تترسخ في عقولنا ، نصبح على أثرها أمواتاً أحياء (مثل الزومبي). أعرافنا هذه راكدة جافة جامدة أصلب من الأسمنت المسلّح ، لها لونان فقط: الأبيض و الأسود. لا ننتبه للثغرات الرمادية الموجودة فيها. الثغرات التي في بعض الأحيان قد تدمر قانوناً كاملاً من أساسه. الأمر الذي سوّل للنصابين و ضعاف النفوس تسخيرها لإستغلال بساطة الناس لصالحهم.    

نحن نعيش في زمن التقنية سريعة النمو بدرجة مخيفة. العلوم التي يتعلمها إبني الصغير في المرحلة الإبتدائية اليوم لم تكن متوفرة لنيوتن و غاليليو و ابن سينا في زمانهم. إذا يسألني ابني سؤالاً أجهل إجابته ، يستطيع إيجاد الإجابة خلال ثوانٍ معدودة بالبحث في "غوغل" عن طريق "الآيباد". بالرغم من ذلك ، لا نزال نغذي أبناءنا بهذه الأفكار و نعاقبهم (بنيّة حسنة) إذا ناقشوها أو استفسروا عن مصداقيتها.

في زماننا هذا إذا أمرت إبني مثلاً بعمل سخيف أو غير مجدي،  و ناقشني و أفحمني بأسئلته الوجيهة تجاه هذا العمل (باللهجة الكويتية: إذا غزر علي البحر) ، لا أستطيع أن أصرخ بوجهه قائلاً "لا تناقش و لا تجادل ، أنا أبوك و أنا أدرى بمصلحتك". أضعف أنواع الجدال هو "الجدال من منطلق السلطة" (Argument from authority). و إذا نفع هذا "الأسلوب" معي و مع أبي و جدّي قبلي ، فلا يعني بالضرورة أنه سينفع مع أبنائي.   
   
 "الأعراف المطلقة" (التي سأطرح بعضاً منها هنا للمثال لا الحصر) غدت أمثالاً شعبية دارجة تحدد منهج تفكيرنا و بالتالي نمط حياتنا ، و حتماً مصيرنا. ربما نفعت هذه الأمثال أسلافنا الذين كانوا فريسة سهلة للجوع و الجهل و الخوف و المرض. أما في زماننا هذا ، هذه القوانين تعيق تقدمنا. 

العالم العربي بشكل عام (ودول الخليج العربية بشكل خاص) غني بالموارد والثروات. القصور يكمن في العقلية التي تدير هذه الثروات. و كما ذكرت في مقالة سابقة ، الغربيون ليسوا أذكى الناس. وإنما علّمتهم تجاربهم المريرة على مر القرون بعد المحاولة و الخطأ بأن سر النجاح يكمن في تغيير عقلية استثمار الثروات. في الواقع  الأعراف المطلقة (التي نتشبث بها نحن) تبنّاها الغربيون أنفسهم لأجيال عديدة ولا يزال العديد منهم (لا سيما كبار السن) يتمسكون بها.

 إذا أردتَ أن تعرف ما إذا كان الشخص الذي يتحدث معك من أصحاب هذه العقلية المطلقة (الأغلبية الساحقة في مجتمعنا)، تلاحظ في سياق حديثه تكراراً لمفردات مثل "المفروض" و "دائماً" و "بالتأكيد".

الأعراف المطلقة لأنها صارمة و محدّدة (إما أبيض أو أسود) تعطي المؤمن بها إحساساً "كاذباً" بالأمان والراحة. فالغزال حتماً سيشعر بالأمان إذا أقنع نفسه بأن الذي يقف خلفه أرنباً. حتى لو كان الذي يقف خلفه في الواقع أسداً ! (وقتها لن ينفع الندم). تصنيف الأشياء في خانتين فقط (الأبيض والأسود) مريح جداً. اللون الرمادي بدرجاته العديدة تعيس و مكروه لأنه غير مستقر. لكن الحياة مليئة بدرجات الرمادي. تجاهل هذه الحقيقة لن يحل المشكلة.    

سأسرد بعضاً من هذه القوانين المطلقة و ملاحظاتي عليها.    

من علمني حرفاً صرت له عبداً
و حكمة مماثلة في بيت الشعر "قم للمعلم وفّه التبجيلا ، كاد المعلم أن يكون رسولا".
 لا أنكر هنا فضل المعلّم. ربما التعليم هو إحدى الصفات التي ميّزت الإنسان عن باقي المخلوقات. لكن المبالغة في تعظيم المعلّم (خصوصاً في زماننا هذا)  تجعلنا لا إرادياً نتغاضى عن النقاط التالية:

- المدرّس مجرد إنسان له زلّاته و كبواته. غير معصوم و غير منزّه عن الخطأ. 
- المدرّس موظف ، يمارس مهنة التدريس ليكسب قوت يومه. حاله حال أي موظف في أي وظيفة أخرى. 
- المدرّس محترف. و كأي حرفة في الدنيا ، المحترفون منهم الموهوب ومنهم العادي. منهم الشريف و منهم المرتزقة. منهم الصالح ومنهم الطالح. 
- في أحيان كثيرة التلميذ يتفوّق على أستاذه تحت عدة ظروف. و المدرّس إما يعترف بقصوره و يفتخر بهذا الطالب و إما أن يحجّمه و يقلل من شأنه ، حسب درجة كبرياء هذا المدرّس.  

 لذلك تعظيم المدرس و إيصاله إلى مرتبة الرسل فيه شيء من المبالغة. المشكلة هنا تكمن في الجيل القديم من "التربويّون" الذين يديرون الجهات التعليمية في عالمنا العربي ، لأنهم يحتقرون و يذلون الطلبة ويعاملوهم كالعبيد. ينهون تلاميذهم عن خُلُقٍ و يأتون بمثله دون أن يحاسبهم أحد. متغاضين في ذلك عن مبدأ "القيادة بالقدوة" (Leadership by example). أبسط مثال على ذلك الأستاذ الذي يدخّن بشراهة لسنوات و علبة السجائر لا تفارق جيبه ، هو نفسه الأستاذ الذي ينزّل أشد العقوبة على تلاميذه إذا رأى في حوزة أحدهم سيجارة.  

العين لا تعلو على الحاجب
في العالم الثالث و خصوصاً في العقلية العربية ، العربي يبغض مبدأ المساواة و يكرس كل ما بوسعه لإزالته من عقول أبنائه. هذا غير التمسك اللاإرادي بعقلية "العبد" عند البعض. المقارنة الأدبية هنا بين "الطبقية" و "عدم المساواة" بالوضع التشريحي للوجه (العين تحت الحاجب) .
لذلك في مجتمعنا...
الممرض يرى نفسه أقل من الطبيب.
و المرأة ترى نفسها أقل من الرجل.
و الفقير يرى نفسه أقل من الغني.
والضعيف يرى نفسه أقل حقوقاً من القوي. 
و في زمنٍ أُلغِيَت فيه العبودية ، العبد يرى نفسه أقل من الحر.  

يقال في اللهجة الخليجية "الرؤوس نامت والعصاعص قامت"
إشارة الى أن أسياد القوم أصبحوا في القاع  و في المقابل حثالة المجتمع صعدت إلى القمة. 

أليس هذا هو حال الدنيا؟
الفقير يغتني و السيد يُستَعْبَد. 
المرأة تفوقت على الرجل في عدة مجالات بعد منحها حقوقها.
و الأسوَد لا يقل ذكاءاً عن الأبيض. 

حتى يومنا هذا ، إذا تمنّت البنت المتفوقة أن تمتهن التمريض مثلاً ، قال لها أبوها "لماذا يا بنيتي؟ أحسن لك أن تكوني طبيبة".  
ثم نتساءل لماذا التمريض مهنة طاردة!

وطني لو شغلت بالخلد عنه ، نازعتني اليه في الخلد نفسي
 لا أنكر التراث الأدبي العظيم اللي تركه لنا أمير الشعراء أحمد شوقي في حب الوطن. لا سيما الإعلام العربي الذي ساهم في ذلك كثيراً ، مثل قصيدة "موطني" الشهيرة للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان:

موطني .. الجلال و الجمال و السناء والبهاء في رباك 
والحياة و النجاة والهناء والرجاء في هواك

أو "مصر محتاجة لك يا رأفت" قالها محسن ممتاز لتلميذه رأفت الهجان ، الجاسوس المصري في إسرائيل...
الذي أجابه تلقائياً بعبارة "أنا رقابتي سدّادة".
السؤال هنا : لماذا يعيش الإنسان في بلد ليس له فيها رزق أو كرامة؟
هل "وطني" هو المكان الذي ولدتُ و ترعرعت فيه؟
أم "وطني" هو المكان الذي حصلتُ فيه على كرامتي و رزقي؟  

العقلية العربية التي تعلّم الحب المطلق للوطن لها أبعادها. هناك الكثير من العرب ممن وُلِدوا و ترعرعوا على مدى جيلين أو ثلاثة أجيال في الغربة ، و لا يزال ولاؤهم و حبّهم و انتماؤهم لوطنٍ لم يروه و لم يعيشوا فيه! 

الهجرة ليست عيباً. أرض الله واسعة.
كل الكائنات الحيّة تهاجر من البيئة القاسية إلى البيئة المعتدلة و الإنسان لا يُسْتَثنى من هذا القانون.
حتى النباتات تحاول الإنتشار إلى أماكن أفضل عن طريق نشر حبوب لقاحها و بذورها ، و تستعين بالحشرات و الطيور لهذه المهمة. كذلك الإنسان ، يهاجر بحثاً عن الرزق و الحياة الكريمة. "وطني" هو المكان الذي يوفّر لي رزقي و يحفظ لي كرامتي. 

طاعة الوالدين في كل شيء إلا معصية الخالق
طاعة الوالدين مستحبّة ، ذلك لأن الأب و الأم يضعان مصلحة أبنائهم فوق كل اعتبار. لكن علينا أولاً إدراك حقيقة مهمة ، و هي أن الوالدين بشر غير معصومين عن الخطأ (كالمعلّم). هذا غير أن كل جيل له ظروفه الخاصة. لذلك "القرارات" التي نفعت جيل بسبب ظروف معينة تخص هذا الجيل ، ربما تضر الأجيال اللاحقة. أمثلة بسيطة مقتبسة من قصص واقعية توضح وجهة نظري عن طاعة الوالدين منها:

الأم التي ترفض دراسة إبنها في الخارج و تقول له "إذا أنت سافرت ، أنا سأموت". 

الأب الذي يرفض فكرة تعليم إبنه من الأساس ، تعليله لذلك "أريد إبني أن يرعى الحلال أو يدير المزرعة ، ذلك أفضل له من التعليم الذي لن يفيده في شيء".
الإبن الذي يكره مجموعة من الناس ، بالرغم من أنه لم يقابلهم ولا يعرف أصلاً لماذا يكرههم (أو تعلّم أسباباً مزيّفة). يكرههم فقط لأنه "رضع" كراهيتهم من والديه منذ نعومة أظفاره ، و لا حتى يسأل والديه عن سبب بغضه لهؤلاء الناس.

و ما هو"الثأر" إلا كراهية متوارثة بين الأجيال بسبب الطاعة العمياء للوالدين؟  

من جد وجد ومن زرع حصد ، و من سار على الدرب وصل 
المثل الخليجي الموازي لهذا المثل ويحمل نفس المعنى "اللي في الأولي لاعب في التالي تاعب". هذه الأمثال لها صحتها ، لكنها لا تخلو من الإستثناءات. هذا المثل يتغاضى عن عوامل مستقلة مهمة ، ليس لها علاقة بالجد و الإجتهاد. منها الحظ و الظروف و المواهب

كالذي يربح الملايين بعد فوزه بتذكرة اليانصيب. 
أو الذي يربح الملايين لأنه يدير مؤسسة والده الضخمة.
أو الذي يحقق إنجازات ضخمة منقطعة النظير من العدم لأن طريقه أصلاً خالي من العقبات (أساساً غني و لديه نفوذ).   
أو الذي يكسب الملايين لإمتلاكه مهارة / موهبة فريدة من نوعها في تخصص نادر.       

أكبر منك بيوم ،  أفهم منك بسنة 
ليس المقصود "بالفهم" هنا الحكمة و الخبرة فحسب. و إنما الأولوية للأقدمية في كل شيء. 

فالإبن البكر (بمباركة من الوالدين طبعاً) له الحق في إضطهاد و إهانة إخوته الصغار والتجبّر عليهم دون سبب. فقط لأنه وُلِدَ قبلهم.
حتى لو كان هذا الإبن البكر فاشلاً في حياته لقراراته الخاطئة ، و لايستحق بذلك أن يكون مثلاً يُقتَدى به من الأساس. 
لا يقف هذا المثل المتخلف هنا فقط. بل و يمتد إلى الولاء الأعمى للأقدمية. في زمن تتطوّر فيه العلوم بسرعة لا تضاهيها حتى طباعة الكتب العلمية نفسها. في الجراحة على سبيل المثال ، أساليب و تقنيات جراحية تستحدث بشكل دوري. الأمر الذي جعل الجراحين القدامى في وضع محرج ، لأنهم أمضوا سنوات طويلة لإتقان طرقهم الجراحية التي أصبحت حالياً ملغية تحت ظل التقنيات الحديثة. لذلك بعض هؤلاء الجراحين تأخذهم العزة بالإثم و يرفضون التقنيات الجديدة حتى لو كانت تفوق مهاراتهم القديمة التي تعوّدوا عليها. يبررون رفضهم لأي حوار بإستعراض عدد سنوات خبرتهم.

"أنا جراح منذ ٢٥ سنة". 
"أنا أمارس هذا النوع من العمليات منذ ٣٠ سنة".
"في الوقت الذي كانت فيه أمك تبدّل حفاظتك ، أنا كنت جرّاحاً مرموقاً".   

أنا لا أقلل من أهمية الخبرة هنا. لكن الخبرة ليست كل شيء. لا سيما في زماننا هذا حيث أبناؤنا لديهم نبع من المعرفة (الانترنت) لم يكن متوفراً لدينا عندما كنّا صغاراً. فالخبير في زماننا إذا أدلى برأيه في أي موضوع ، فليعلم علم اليقين بأن هناك من يقف له بالمرصاد ليتأكد من صحة آرائه و على استعداد لفضحه إذا كانت آراؤه غير صائبة لأي سبب. قيل في الغرب بأن مهمة أهل العلم الأساسية في الحياة هو البحث عن الحقيقة ، حتى لو كان ثمنها دحض نظرية الخبير "أبو ثلاثين سنة خبرة". 

في الاتحاد دائماً قوة
الحكايات والأمثال الشعبية القديمة تركّز على أهمية الإتحاد (قوم تعاونوا ما ذلّوا). لا سيما القصة الكلاسيكية للأولاد الذين عجزوا عن كسر حزمة من أعواد الخشب المربوطة ، بينما استطاعوا تكسيرها واحدة تلو الأخرى بسهولة بعد فك رباطها. 

كونوا جميعاً يابني إذا إعترى  ...  خطبٌ ولا تتفرقوا آحـادا

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً ... وإذا افترقنَ تكسّرت أفرادا

لنرجع الى أرض الواقع و نسأل أنفسنا ، إذا إتحد طرفان (أو أكثر) ، هل هو إتحاد حقيقي؟
أم انه في الواقع طرفاً قام بإلتهام / ضم / طمس الطرف الآخر؟

على المستوى الإقتصادي (لا سيما دول العالم الثالث) دول فقيرة مكتظة بالسكان إتحدت مع دول غنية قليلة السكان ، فمالذي حدث؟ المواطنون الجياع من الدولة الفقيرة إلتهموا خيرات الدولة الغنية ، لم يتركوا شيئاً لمواطني الدولة الغنية الصغيرة الذين كانوا يعيشون حياة رغدة كريمة قبل هذا الإتحاد. الثروة المحدودة تقسّمت على شريحة كبيرة من السكّان. هذا يفسر لماذا الدول الغنية تفرض  ضوابط و شروط صعبة و كثيرة (أحياناً تعجيزية) للهجرة و التجنيس ، بالذات على مواطني الدول الفقيرة. أشهر مثال على أرض الواقع وحدة مصر و سوريا في عهد جمال عبدالناصر. 

و على مستويات أخرى ، اتحاد الأكثرية مع الأقلية ربما ينتهي بطمس هوية الأقلية. سواءاً كانت هذه الهوية دينية أو مذهبية أو عنصرية أو حضارية أو حتى لغوية. أبسط مثال على ذلك إقليم "كيبيك" (Quebec) الفرنسي في كندا. أهالي هذا الإقليم يكافحون (حتى يومنا هذا) للمحافظة على هويتهم الفرنسية من الإنقراض. لأنهم أقلية تتكلم الفرنسية (Francophone) ضمن أغلبية تتكلم الإنجليزية (Anglophone). بالنسبة لهم المسألة صراع خاسر. فالفرنسي الكندي لا يستطيع الحصول على وظيفة في كيبيك إلا إذا كان يجيد اللغة الإنجليزية. هذا غير بعض الجامعات التي تدرّس باللغة الإنجليزية في كيبيك ، أشهرها و أقدمها جامعة ميغيل (McGill).   

بالملخص ، إذا اتحد القوي مع الضعيف...
ربما القوي يُسْتَنزَف لأن الضعيف يستعين به.
و ربما الضعيف يُضطَهَد و يُستَعبَد لأن القوي يتجبر عليه. 

الدم أبداً لا يصبح ماء
و أمثال مشابهة منها "الظفر ما يطلع من اللحم" و "هذا خشمك حتى لو كان أعوج".

ربما العرب من أكثر الناس اهتماماً بقرابة الدم بكل درجاتها. فأنا مع أخي ضد إبن عمي ، و أنا مع إبن عمي ضد الغريب. و هذا أمر مفهوم. قرابة الدم كانت مهمة جداً للقبائل في الصحراء. "القرابة" عند العرب تعني بالضرورة "الولاء" لضمان البقاء على قيد الحياة  ، في بيئة حارة جافة شحيحة الموارد. يأكل القوي فيها الضعيف دون رحمة. ذلك الصراع من أجل البقاء. لذلك كانت المصاهرة من أنجح وسائل إحلال السلام بين القبائل. لأن القبيلة لا تُغير على قبيلة مجاورة إذا كان بينهم أهالي و صلة رحم. 

أما في عصرنا الحالي ، حيث الموارد وفيرة و التقنية الحديثة طوّرَت نمط الحياة و وفّرت لنا سبل الرفاهية. نعيش في مجتمعات حضرية متعددة الأعراق. يتضح لنا أن صفات كالإنسانية و الصداقة و الكفاءة تضمن لنا حياة أفضل و أكرم ، و هي بالتالي أهم من قرابة الدم. 

أيّهما تفضّل: صديق حميم لا يقرب لك ، تستمتع بصحبته و يقف معك في الشدائد؟ 
أم قريب لك تكره حتى الجلوس معه لفترة وجيزة خلال المناسبات و الأعياد؟

إذا صادفتَ شخصاً في وضع حرج بحاجة ماسّة لأدنى مساعدة (غريق / مفلس / في حالة صحية طارئة).
هل تساعده حتى لو لم يكن بينك و بينه قرابة دم؟

إذا كنتَ صاحب عمل و لديك وظيفة شاغرة.
هل توظّف أخاك الفاشل؟ 
أم توظّف الغريب الذي يستوفي كل شروط الوظيفة؟

إذا جاء رجل محتَرَم و أنت تعرفه جيداً (لكنه لا يقرب إليك) لطلب يد إبنتك أو أختك.
هل ترحب به؟ أم تفضّل زواج البنت من ابن عمّها مهما كانت العواقب؟ 

"تقديس" قرابة الدم ربما لا يلفت النظر كثيراً في الحياة اليومية. على الرغم من سماعنا بين فترة وأخرى عن "فلان"  الذي ترقى مؤخراً لمنصب "مدير عام" في جهة حكومية ، و وظّف كل أبناء قبيلته أو عشيرته أو أسرته في إدارته في اليوم التالي من تولّيه المنصب مباشرة.

الأمر يلفت الأنظار و بشكل مستفز في الظروف الحرجة. على سبيل المثال ، في فترة الغزو العراقي للكويت ، انقسم "الصف" العربي بين مؤيد و معارض لما اقترفه النظام العراقي في حق جاره المسالم. ولكن في المقابل ، الأغلبية الساحقة من العرب استنكرَت الغزو الأمريكي للعراق و شنت حرباً إعلامية ضد الأمريكان.

من المنظور الإنساني ، في الحالتين (الغزو العراقي للكويت و الغزو الأمريكي للعراق) مفهوم الغزو و انتهاك سيادة الدولة واحد بغض النظر عن الأسباب و مصداقيتها (رجوع "الفرع للأصل" أو "تحرير العراق" للبحث عن أسلحة "الدمار الشامل").

لمعرفة المنظور العربي في هذا الخصوص ، سألت أحد إخواننا المفكرين العرب عن إزدواجية المعايير هذه ، فقال لي مفسّراً: الغزو العراقي للكويت كان كالأخ الكبير الذي إعتدى على أخاه الصغير. بينما الغزو الأمريكي إحتلال غاشم من استعمار غريب لبلد عربي شقيق عريق ذو سيادة ، و نحن لا نرضى بذلك! بصراحة: عجز لساني عن التعليق.

الماضي الجميل 
بعكس ما يظنه البعض ، الذاكرة البشرية بطبيعتها انتقائية و ليست تصويرية. بمعنى أن العقل ينتقي ما يتذكره و ينسى الباقي. و في أغلب الأحيان عملية الإنتقاء لا إرادية. و العرب ليسوا إستثناء من هذه القاعدة.

لذلك عندما يتحدث كبار السن عن فترة شبابهم ، سواء أهل الخليج قبل النفط أو مباشرة بعد ظهور النفط ، أو في بقية العالم العربي إبان "عصره الذهبي":
كانت الحياة بسيطة و النوايا صافية.
كانت الناس طموحة و كادحة. و الكل يساعد الكل دون مقابل.
كانت صلة الرحم موجودة.
كانت أسعار السلع معقولة.
كانت الرواتب مرتفعة ، و طمع التجّار لم يكن موجوداً.
كانت ظاهرة الطلاق شبه معدومة.
كانت الناس قوية و بصحّتها.
حتى درجة حرارة الجو في الصيف لم تكن مرتفعة آنذاك كأيامنا هذه.  

ولكن إذا بحثت في التاريخ و سمعت القصص الواقعية من "بعض" كبار السن العقلانيين لتتأكد من صحة "الماضي الجميل" ، تجد بأن الماضي لم يكن جميلاً  على الإطلاق. المجتمع آنذاك كان تحت وطأة الوحوش الفتاكة الثلاثة: الجهل والفقر والمرض.

الحياة كانت صعبة و شاقة.
العامل كان يسعى لاهثاً لكسب قوت يومه.
لا وجود لخطة تقاعدية أو تأمينات إجتماعية. لا وجود لهيئات تعليمية متقدمة ولا لخدمات صحية حديثة. 

نوايا الناس كانت في الماضي (كيومنا هذا) متنوعة بتنوّع الناس أنفسهم.
منهم النشيط و منهم الكسول. 
منهم الطيب ومنهم الخبيث.
منهم المضحّي و منهم الأناني.
منهم المتأني و منهم الأرعَن. 

طمع التجار واحتكارهم لم و لن يتغيّر.

الناس كانت بصحّتها في الماضي؟
لأن قوي البنية كان يعيش ، بينما العليل كان يموت صغيراً من أبسط الأمراض  لعدم توافر أدنى وسائل الطب الحديث.
مريض الصرع كان يتشنج بسبب الجن والعفاريت.
موت الفجأة لم يكن له تعليل غير الأقدار (الله يرحمه ، كان يومه) أو الحسد (عين ما صلّت على النبي).
المرأة كانت تحبل ٢٠ مرة ، و تنجب في حياتها بالمتوسط عشرة أطفال ، ليبقى نصفهم على قيد الحياة على الأقل حتى سن البلوغ.
هذا غير الأوبئة التي حصدت أرواح الآلاف من الأبرياء على مر السنين كالجدري والطاعون والدرن والإنفلونزا. 
الطلاق في الماضي كان نادراً ؟
لأن المرأة كانت مكسورة الجناح مسلوبة الحقوق. تعتمد على زوجها إعتماداً كليّاً.
وصمة العار التي كانت تلازم "المطلّقة" وأهلها فرضَت على المرأة بلع الجمرة لتعيش تحت سقف واحد مع زوج لا تحبّه.
صلة الرحم لم تكن مقطوعة؟
لأن "عميد العائلة" كانت له اليد العليا و السلطة المطلقة في "فرض" لم شمل العائلة على كل أبناء الأسرة و إرغامهم على التجمّع تحت سقف واحد في كل المناسبات ، شاء من شاء و أبى من أبى. هذا غير أن الأبناء كانوا يسكنون في بيوت أهاليهم حتى بعد زواجهم لأسباب مادية و اجتماعية.  

و الجو الصحراوي في الصيف كان و لا زال حاراً لا يرحم.
لم يكن هناك تكييف يخفف من وطأة الحر الشديد.
كان الطعام يتعفّن بسرعة لعدم توفر تقنية التبريد (الثلاجات).  

و بالرغم من كل ذلك ، يبقى التأمل بالماضي "الجميل" من سمات العربي المعاصر. ينقل الآباء صورة محسنة (مزيّفة) لهذا الماضي (بعد تعديلها ذهنياً بالفوتوشوب) للأبناء الذين لم يعاصروا هذه الحقبة التعيسة (لحسن حظهم).     

الخلاصة
هذا المقال لا يشير إلى اقتراب نهاية العالم العربي! إنما بالعكس ، على الرغم من كل العقبات الفكرية سابقة الذكر ، إلا أن الجيل العربي الحالي بدأ يفهم قوانين اللعبة الحقيقية ، و كيّف نمط حياته حسب هذه القوانين و ترك القوانين القديمة البالية وراءه. لكن لا تزال هناك شريحة من العرب تتمسك بالقوانين المطلقة و لن تتنازل عنها مهما كان الثمن. 

الثلاثاء، 22 أكتوبر 2013

خلك روحاني

عنتر ...  

  أستاذ في مادة العلوم للمرحلة الإبتدائية. قرر شد الرحال والعودة للعمل في مسقط رأسه: قرية العلام. وُلِدَ عنتر في القرية. و لكنه عاش طول عمره في العاصمة بعدما قرر والداه هجر القرية وهو رضيع. بعدما وصل عنتر و استقر في القرية ، انصدم بالواقع: القرية كانت خالية من المرافق العامة كالمدارس و المستشفيات و المخافر. "فتوّة" القرية أنفسهم كانوا المسئولين عن الأمن. كانت بالمختصر قرية معزولة عن العالم المتحضّر. أخذ الجهل و الفقر و المرض من القرية الكثير. الناس كانت تؤمن بالخزعبلات و الخرافات. و الأمّية كانت من نصيب الأغلبية الساحقة. 

  بدلاً من نشر العلم و المعرفة بين أهل قريته ، أدرك عنتر أن تدريس "العلوم" لأبناء ناس لا يعرفون أصلاً القراءة و الكتابة أمراً صعباً ، إن لم يكن مستحيلاً. لذلك اتخذَ عنتر منحنى آخر غير إعتيادي و غير نبيل. عيّن نفسه "روحانياً" للقرية. هو في الحقيقة ساحر. لكنه فضّل لقب "روحاني".  

  أبهر عنتر أهل القرية بسحره. كان يُخرِج النار من الماء. و كانت يده تشع نوراً بمجرد لمسه للبطاطا (الغذاء الرئيسي لأهل القرية). كان يحرك الحديد عن بُعد بيديه المجرّدتين. كان يستطيع رؤية كل شيء حوله في الظلام الدامس. و كان يستطيع التنبؤ بمن سيزوره قبل طرق الزائر للباب. هذا غير تسخيره للجن لتنزيل المطر و كسوف الشمس و خسوف القمر. أصبح عنتر بقدراته "الخارقة" الملك غير المتوّج للقرية. بأمره سارت الأمور. و بحكمه حُلّت الخلافات. و بمشورته اقتدى الناس ، و ببركاته هلّت الخيرات. في المقابل ، كل فرد من أهل القرية كان يدفع له "المقسوم" كل شهر. إن كان نقداً أو محاصيل زراعية أو هدايا عينيّة. 

  بالرغم من نشوته في حكم الناس بأقوى سلاح: الجهل ، إلا انه كان يعلم بأن حكمه بهذه الطريقة لن يدوم طويلاً. لذلك حرص على عزل القرية عن العالم الخارجي: الغريب لا يدخل ، و القريب لا يخرج. المتمرد يتعذب على يد الفتوّة إلى أن يتوب أو يموت (أيهما أولاً). بالإضافة إلى منع نشر العلم و المعرفة و التوعية و نبذ كل من يشك أو حتى يستفسر. كان عنتر و فتوته يرددون جملة "لعن الله الشاك". لكن المسألة كانت مسألة وقت إلى أن تسلل بعض "المشككين" من القرية إلى العاصمة للسؤال عن الخلفية التي جاء منها عنتر.

  إنفجر أهل العاصمة بالضحك (شر البلية ما يُضحِك) عندما سمعوا بما فعله عنتر في القرية. قالوا زملاء عنتر عنه بأنه كان مجرد مدرس متواضع للعلوم للمرحلة الإبتدائية. مستواه الأكاديمي أيام الجامعة كان أقل من العادي. كل السحر الذي أبهر به أهل القرية ما كان إلا تجارب علمية بسيطة يعرفها أطفال العاصمة في المرحلة الإبتدائية. 

كان يخرج النار من الماء؟ 
إذا حلّلنا الماء كهربائياً استخلصنا منه مكوناته الأساسية: الهيدروجين و الأكسجين.
إذا أشعلنا الهيدروجين توهّج بفرقعة ليتحد من الأوكسجين و يتحوّل إلى ماء مرة أخرى. 

كان يخرج النور من البطاطا؟
إذا غرسنا قطبين كهربائيين في البطاطا و أوصلناهما بمصباح كهربائي صغير ، من الممكن إضاءته بعد توليد تيار كهربائي. 

كان يحرك الحديد عن بُعد بيديه المجردتين؟
كان يخفي مغناطيساً تحت رسغه ، يحرك به الحديد عن بعد دون لمسه بخفة يده. 

كان يستطيع الرؤية في الظلام الدامس؟
دربيل الرؤية الليلية بالأشعة تحت الحمراء (infra-red night vision goggles) متوفر في الأسواق و بسعر زهيد هذه الأيام. 

كان يتنبأ بمن سيزوره ؟
كاميرا للمراقبة عند الباب موصولة لا سلكياً بحاسبه الآلي الشخصي كانت تفي بالغرض. 

كان ينزل المطر و يكسف الشمس و يخسف القمر؟
نشرات الطقس و حسابات الظواهر الكونية متوفرة في الانترنت و هي كفيلة بتقديم أي معلومات في هذا الخصوص. 

  قصة "عنتر" الوهمية مبالغ فيها و أنا أعترف بذلك. روايات كلاسيكية معروفة تحمل نفس المغزى. ربما أشهرها على الإطلاق رواية "الساحر أوز" (The Wizard of Oz). مبدأ القصة موجود على أرض الواقع و مستشري في كل دول الخليج العربية في مجالات شتى و يسير على نفس المنوال...

إبن البلد يتعلم مهارة أو صنعة جديدة في الخارج. يسوّق لنفسه هذه المهارة. لا يعلمها لغيره لأنها "صعبة" و "محصورة للعباقرة فقط". و إذا علّم غيره ، كان تعليمه للغير سطحياً شحيحاً (بالقطّارة). إذا علّم غيره فهو يعلّم لبناء مجده الشخصي و مصلحته فقط. 

   في الكويت بين الحين و الآخر يرجع إلى البلاد "خبير" كويتي معه "شهادات" في تخصصه (في الطب و غير الطب). تخصصه "نادر" و المهارات التي تعلّمها صعبة و ثورية وفريدة من نوعها. هو الوحيد في البلاد الذي يتقن هذه المهارة. و في بعض الأحيان ، تصل الوقاحة الى زعم "الخبير" بأنه هو من اخترع المهارة التي تعلمها في الخارج. 

في مجال عملي ، هذه الظاهرة بارزة و مستفزّة جداً في الكويت.
لماذا مستفزة؟ لأنني درست الطب في ايرلندا و تدربت بعد ذلك في الكويت (أمراض باطنية) و السعودية (أمراض القلب للكبار) و الزمالة التخصصية لقسطرة القلب في كندا. لاحظت الفرق الواضح بين سلوك بعض أطبائنا الذين تدربوا في كندا مقارنة بسلوك أساتذتهم الأطباء الكنديين أنفسهم الذين علموهم الصنعة. هنا سأسرد عبارات واقعية قيلت لي في الخليج و أقارنها بما قيل لي في كندا. 

لنبدأ في الخليج.
عبارات "عظيمة" قيلت لي خلال سنوات تدريبي من قِبَل ناس عباقرة لا حاجة لذكر أسماؤهم هنا. هوياتهم ليس لها علاقة بصلب موضوعنا. منها التالي:  

"قسطرة القلب علم و فن لا يتقنه أي شخص"

"مع احترامي الشديد لك. لا أتعامل معك لأن مستواك العلمي أقل من مستواي"

"لن أسمح لك أن تجري قسطرة أو سونار للقلب دون إشراف مباشر مني ، مهما كنتَ ماهراً"

"روح كندا و تدرّب هناك أحسن لك"

"روح البيت إدرس و لما تفهم المعلومات النظرية ، بعدين إرجع المستشفى للعمل"

بعض أطباء القلب الكويتيون لا يسمحون لتلاميذهم حتى مشاهدة عملية القسطرة عن بُعد، ناهيك عن تعليمهم أساسيات المهنة. رفضهم تدريب الغير في مجال القسطرة ربما له تبريره (إلى حد ما). لأن القسطرة القلبية "مبضعية" (invasive) لها مخاطرها.المسألة تمتد إلى ما هو أبسط من ذلك. وصلت "المسخرة" إلى احتكار بعض الأطباء لأداة سونار القلب (Echocardiography) التي هي "غير مبضعية" بطبيعتها. أي أنها تشخيصية بحتة عديمة المخاطر. يحتكرون هذه التقنية و لا يعلمونها لغيرهم. 

  التدريب الطبي في المملكة العربية السعودية مقنّن و مطوّر و منظّم بشكل أفضل بكثير من نظيره في الكويت. و أنا كنت محظوظاً لأنني تدربت على يد خيرة الأطباء (على رأسهم د. بهاء فاضل) بالرغم من ذلك ، بعض الأطباء السعوديين - كزملائهم في الكويت - كانوا يقنعونني بأسلوب نرجسي مستفز بأن القسطرة القلبية مليئة بالتحديات والصعاب. 

 بينما في الطرف الآخر من المحيط الأطلسي ، أساتذتي أطباء قسطرة القلب في كندا كانوا يصفون مهنتهم بكل تواضع على انها...

"مجرد سباكة"
(Pure plumbing)

"القسطرة القلبية التدخلية ما هي إلا إدخال أنبوبة في أنبوبة"
 (Coronary intervention is simply putting a tube inside a tube) 

"ليست هندسة صواريخ"
(It is not rocket science)

"حتى القرد يستطيع تنفيذها"
(Even a monkey can do it)

"هي مهنة إلتقاط صور بشكل أساسي"
(It is mainly about taking pictures)   

  هذا غير شغفهم في تدريبي أساسيات القسطرة. على الرغم من أنني في نظرهم أجنبي متدرب في مكان سحيق مجهول عبر البحار. و السماح لي بقسطرة الحالات بنفسي (بإشرافهم لي عن بعد) بعدما أطمأنوا بأنني تعلمت المهارة و أصول المهنة منهم. الأمر الذي يفسّر لي لماذا يستميت بعض الأطباء المحليون على طلب العلم في الخارج حتى لو كانت ظروفهم المادية و الإجتماعية لا تسمح بذلك. و الشكر (كل الشكر) في ذلك لأطبائنا القدامى الفطاحل الذين لم يتعلّموا الصنعة و احتفظوا بأسرارها لأنفسهم فحسب ، و إنما صعّبوها و عقّدوها علينا وهي سهلة في أساسياتها.  

قال لي أحد الزملاء العرب بأن "أفواجاً" من الأطباء من اليابان و كوريا الجنوبية كانت تتدفق طلباً للتدريب الطبي في مستشفيات كندا خلال فترة السبعينات و الثمانينات من القرن الماضي. انقطع هذا التدفق لاحقاً. هؤلاء الأطباء أسّسوا برامج تدريبية في بلدانهم و أبدعوا في تخصصاتهم و استغنوا عن التدريب في أمريكا الشمالية. هل سنصل نحن الخليجيون إلى هذه المرحلة ؟ مع العينات التي نراها في مستشفياتنا حالياً ، أشك في ذلك. على الأقل ليس على المدى القريب. ربما ستتغيّر الظروف في المستقبل البعيد.   

الكويت بلد صغير المساحة و أسواقه مفتوحة. لكنه يافع الخبرة في مجالات كثيرة.
صفة "يافع الخبرة" أعني بها غياب القوانين و المعايير حتى الآن لمهن و تخصصات متنوعة. لم ألاحظ هذه الظاهرة في مجال عملي في الطب فحسب  و إنما لاحظتها في مجالات أخرى. لاحظتُ مثلاً من الكويتيين من سافر إلى شرق آسيا ليتعلّم فنون قتالية جديدة (فنون مماثلة للكاراتيه و الكونغ فو ...الخ) ليستفرد بها و يحتكرها ، و يعيّن نفسه مدرباً و ممثلاً رسمياً لهذه الرياضة في الكويت. في المقابل لا نلومه ، فلا يوجد في البلاد من يقيّم كفاءة هذا "المدرب" الذي يمثل هذه الرياضة في البلد.

كانت هذه تجربتي في مستشفيات كندا كما رأيتها. تجربتي في تخصص القلب لا تشابه بالضرورة تجارب الغير في التخصصات الأخرى. في النهاية لكل مجتهد نصيب. و كل يغني على ليلاه.

الأحد، 6 أكتوبر 2013

خلك عربي

أولاً و قبل كل شيء أريد أن أوضّح نقطة مهمة جداً: لستُ خبيراً في علم اللغات.
أنا كنت (ولا زلت) تلميذاً لديه اهتمام خاص باللغة كوسيلة للتواصل بين البشر. إهتمامي باللغة يمتد إلى جذورها و كيفية نشوئها و صياغتها و هيكلتها و علاقتها بتراث و عادات و تقاليد الأمم. في هذا المقال أعرض ملاحظاتي الشخصية المتواضعة عن تركيبة لغات الغرب و مقارنتها بلغتي الأم. 

منذ نعومة أظفاري كنت ألاحظ المثقفين من أبناء مجتمعي (خصوصاً المتخرجين من الغرب) تفضيلهم للحديث باللغة الإنجليزية. حتى عندما يتكلمون العربية ، بين كل عبارتين عربيّتين هناك مصطلحاً باللغة الإنجليزية (ما يسمّيه البعض "فرانكو آراب"). البعض يتحدث بهذا الأسلوب لا إرادياً. و البعض الآخر يتعمد التشدّق بهذه الطريقة ليستعرض للناس ثقافته الإنجليزية. و منهم من يلوي لسانه ليتحدث الإنجليزية بلكنة الدولة التي درس فيها. خصوصاً اللكنة الأمريكية.   

إخواننا الأساتذة العرب الذين وُلِدوا في بلدان كانت تحت الإستعمار الفرنسي زادوا علينا الطين بلّة. لأنهم عندما جاءوا للعمل في دول الخليج العربية نشروا لهجاتهم و آدابهم و ثقافتهم المتأثرة بطبيعة الحال باللغة الفرنسية. عندهم "المثقف" هو من يتحدث الفرنسية بطلاقة. نفس وضع المثقف في مجتمعنا عندما يتحدث الإنجليزية بطلاقة. حتى في لهجتنا الخليجية مفردات فرنسية الأصل اقتبسناها من أساتذتنا هؤلاء. كلمات مثل "فيشة" و "فترينة" و "فاتورة" و "شفرة" و "جرسون" و "كوافيرة".  

حالتي لم تكن إستثنائية بأي حال من الأحوال. لقد أمضيتُ سنوات الجامعة في إيرلندا. حيث درستُ الطب باللغة الإنجليزية. و لأنني كنت و لا زلت أحب القراءة ، ثقافتي غير الطبية كانت باللغة الإنجليزية بشكل رئيسي. للأسف ليست كل الكتب الإنجليزية تُتَرجَم إلى العربية، بالرغم من المجهود الأسطوري الذي تبذله بعض المكتبات العربية في الترجمة. ربما لأن العرب لا يحبون القراءة مقارنة بغيرهم من الناس. 

وقت كتابة هذا المقال كنت أعيش في مونتريال. مدينة تقع في إقليم "كيبيك" الكندي الناطق باللغة الفرنسية. قررت دراسة الفرنسية لأن بعض المرضى لا يتحدثون إلا بالفرنسية و هذا من حقهم. طبعاً أدرس لغة جديدة من الصفر وعمري في نهاية الثلاثينات ليس شيئاً سهلاً. لكنني أعتبرتها تجربة جميلة و فريدة من نوعها.  دراسة لغة عالمية جديدة ربما ستنفعني في المستقبل القريب و البعيد.  دراسة اللغة الفرنسية من الصفر فتحت لي آفاقاً جديدة و منحت لغتي العربية بُعداً جديداً. ذلك لأنني و بصراحة لم أدرك درجة جمال لغتي إلا بعدما قارنتها بلغات أوروبا. 

"اللغة" في رأيي المتواضع هي وسيلة للتواصل بين البشر. لذلك يُستَحسن لها أن تكون سهلة التعلّم ، دقيقة في وصف الأمور و نقل المعلومات ، و الأهم أن تكون صوتية. (صوتية phonetic بمعنى أن المكتوب هو نفسه المنطوق).

كل اللغات الأوروبية حروفها إما لاتينية أو إغريقية أو خليط من الإثنين. بعد تعلّم و ممارسة أي لغة أوروبية لاحظت الآتي:

١. حروف ليس لها أهمية. 
على سبيل المثال في اللغة الإنجليزية: ما هي أهمية حرف "c" ؟ هذا الحرف أحياناً يُنطَق "ك" و في أحيان أخرى يُنطَق "س". إذاً ما فائدة الحرفين "s" و "k"؟

نفس المشكلة في حرف "x".
لا نحتاجه لأنه خليط من "s" و "k".
في بداية الكلمة يُنطَق "z". ولكن حرف "z " موجود أصلاً في الأبجدية.

و بعض الحروف تُدمَج لعمل حروف جديدة ، مثلاً حرفي "s"  و "h" صوتهما  "ش"
و حرفي "th" و "" صوتهما إما "ت" أو "ث".
و حرفي "ph" و "" صوتهما "ف" بالرغم من وجود حرف "f" في الأبجدية اللاتينية !

الحق يقال بأن الأمريكان حلّوا بعضاً من هذه العيوب بإضافة تعديلات بسيطة في اللغة الإنجليزية لجعلها صوتية أكثر (fone بدلاً من phone)، و لكن الإنجليز إستاؤوا من هذه المبادرة الأمريكية و اتهموا الأمريكان بتشويه لغتهم الإنجليزية "الجميلة"!

٢. ضعف اللغة الإنجليزية في دقة الوصف و نقل المعلومات لقلّة مفرداتها.
على سبيل المثال ، كلمة "uncle" تعني عم أو خال.
و كلمة "consin" تعني إبن/إبنة العم أو إبن/إبنة الخال.

٣. بعض المفردات لها معانٍ متعددة غير مترابطة. 
فكلمة "vice" تعني "عادة سيئة" و تعني "نائب" أيضاً.

نائب الرئيس "vice president" 
التدخين عادة سيئة "smoking is a vice"  

حالياً أنا أدرس اللغة الفرنسية من الصفر (مستوى مبتديء). و بالرغم من ان فرنسا كانت امبراطورية نافست بريطانيا في استعمار العالم في قديم الزمان، و من الفرنسيين من غيروا العالم بعلومهم و آدابهم ، إلا أن الفرنسية لها كبواتها و قصورها.

١. اللغة الفرنسية محدودة المفردات. 
في الفرنسية مثلاً الفعل "يقصد" غير موجود. 
"ماذا تقصد؟" ترجمتها الفرنسية الحرفية "مالذي تريد قوله؟ Que voulez-vous dire"

٢. اللغة الفرنسية غير دقيقة في الوصف.
المعنى مفهوم من سياق الحديث. مثلاً كلمة "mal" بالفرنسية تعني "مرض" أو "مؤلم" أو "سيء".

٣. اللغة الفرنسية غير صوتية إطلاقاً. فالمكتوب شيء و المنطوق شيء آخر !
سؤال "ماذا تقصد؟" المذكور أعلاه "Que voulez-vous dire" ننطقها "كي ڤولي-ڤو دير".
  
خمّنَت بعض الدراسات بأن الأطفال الإيطاليين اللذين يعانون من الديسليكسيا (مرض صعوبة القراءة) ربما مشاكلهم في القراءة أقل من نظرائهم من الأطفال الفرنسيين لأن أكثر لغة أوروبية "صوتية" هي اللغة الإيطالية.

٤. كل الأسماء في الفرنسية لها جنس. إما مذكر أو مؤنث.
يجب حفظ الأسماء مع جنسها. ولا توجد قاعدة معينة لحفظ الجنس.

المذكر يبدأ بكلمة "Le" و المؤنث بكلمة "La".
بالنسبة للجماد ، "Le" أو "la" قد يغيّر معنى الكلمة.  

مثلاً  "Le livre" معناها "كتاب" و "La Livre" معناها "رطل" (وحدة الوزن).

٥. الأرقام الفرنسية و الإبداع في التعقيد !
الأرقام الفرنسية تسلسلية و متتالية مثل أي لغة.
إلى أن نصل الى الرقم "سبعين" ، هنا يبدأ اللف و الدوران. 

باللغة الفرنسية هكذا تُلفَظ الأرقام التالية (٦٠ ، ٢٠ ، ١٠ ، ٤): 

٦٠ : سواسان      /    ٢٠ : ڤان      /    ١٠ : دِس     /     ٤ : كاتر

الأرقام ٧٠ و ٨٠ و ٩٠ ليس لها مفردات في اللغة الفرنسية.

لذلك الفرنسيون ركّبوا مفردات قديمة لتكوين مفردات جديدة. 

سبعين : ستين + عشرة                 (بالفرنسية: سواسان دِس). 
ثمانين : أربعة x عشرين               (بالفرنسية: كاتر ڤان). 
تسعين : أربعة x عشرين + عشرة   (بالفرنسية: كاتر ڤان دِس). 

هذه ملاحظاتي عن الفرنسية حتى الآن. و أنا لازلت في بداياتي في تعلّم هذه اللغة.

الغرب لا يزال في المقدمة في مجالات الثقافة و العلوم و التكنولوجيا. لذلك لا أنكر بأن اكتساب اللغات الغربية له ميزاته العديدة.

 لكن قبل أن"يتفلسف" على رأسك أي مواطن عربي بثقافته الفرنسية أو الإنجليزية ، ليدرك بأن لغته الأم معانيها أعمق و وصفها أدق من كل لغات أوروبا. 

إذا تمعّنتَ في اللغة العربية ستلاحظ أنها لغة "مُهَندَسَة" و بدقة. و كأن مجموعة من العقول النيّرة قد إجتمعت على طاولة واحدة قبل مئات السنين لتضع  أساسيات و قواعد اللغة العربية لجعلها أنيقة مرتبة صوتية. لكن "عبقرية" من هندسَ لغتنا لا يعني بالضرورة "ذكاء" المتحدثين بها.

الخميس، 3 أكتوبر 2013

الإحباط الحقيقي و الإعجاز المزيّف


الأول على الدفعة
سألوا "الأول على الدفعة" عن سر نجاحه.
قال : أنا أدرس عشر ساعات يومياً كل يوم ، بدون راحة.
و أحضّر المادة العلمية طوال فترة الصيف لأكون مستعداً للمنهج الدراسي قبل بداية السنة الدراسية. 

مدربة اللياقة البدنية
أختي سألت مدربة اللياقة في النادي الرياضي المجاور عن سر جمالها و تناسق جسدها و لياقتها العالية. 
قالت: أنا أركض ١٠ كيلومترات يومياً.
و أسبح عشرون شوطاً في حمام السباحة ، ثلاث مرات في الأسبوع. 
و أمارس اليوغا و البيلاتس في نهاية كل أسبوع. 
غذائي نباتي بحت ، خالٍ من أي منتجات حيوانية. لا أشرب حتى المرطبات الغازية ، و أتفادى السكّريات بكل أنواعها.  

المعالج بالقرآن
ذهب جاري البسيط إلى المعالج بالقرآن (بدلاً من إستشارة طبيب مختص) لإيجاد حلاً لداء الصدفية.
هذا المعالج التقي الورع أشار عليه …
بأن يتلو آيات و أدعية معيّنة.
و يرتدي حرزاً معيناً. 
و يشرب ماء "مقروء عليه". 
و يصلي عدداً معيناً من الركعات في الليل. 

الأم الخارقة
حدّثتني زوجتي عن "أم خارقة" لديها خمسة أولاد و و ثلاث بنات. 
هذه الأم تطبخ و تكنس و تغسل و تمسح و تدير البيت كله بنفسها بدون خدم. 
هذه الأم تشتري تموين المنزل و تساعد أبنائها على حل واجباتهم المدرسية.
و بالرغم من كل ذلك ، لديها وقت لتقضيه في "تدليع" زوجها أبو عيالها الذي "يعشقها و يموت" فيها. 
و صديقاتها يستفهمون عن سر هذه المرأة الحديدية و يغبطوها على حياتها المتوازنة.  

نصادف في حياتنا هؤلاء الناس. و ليس عيباً أن نستفسر منهم لنتعلم منهم.

هل حياتنا ستتحسن إذا اقتدينا بهم و استمعنا لنصائحهم؟ 
هؤلاء الناس ربما يقدّمون "إستشاراتهم" للغير مقابل "ثمن" معيّن ، و هذا من حقهم.

الإحباط الحقيقي !

أنا حاولت أن أجلس مقابل الكتب عشر ساعات يومياً …
نمت من الملل بعد العشرين دقيقة الأولى !

حاولت أختي أن تركض عشرة كيلومترات يومياً ، لكنها فقدت وعيها من التعب بعد أول خمسمائة متر.
و لم تترك السرير في اليوم التالي بسبب الألم الشديد في كل عضلات جسدها. 
أما عن الحمية الغذائية الصارمة (الريجيم/الدايت) ، فكانت دموعها تنهمر عند تناول كل وجبة.
ذلك لأن وجباتها كانت خالية من الدهون و السكريات و الأملاح والمنتجات الحيوانية. 
بمعنى آخر ، طعامها كان من البلاستيك المقوّى !

و  جاري الذي كان يشكو من داء الصدفية.
بالرغم من إلتزامه بكل تعليمات الشيخ المعالج  بالقرآن.
إلا أن حالته المرضية تدهورت من سيء إلى أسوأ.

أما المرأة الخارقة ، فزوجتي كانت تضرب بها المثل ، و تتمنى لو كانت لديها و لو ربع طاقتها.
كانت تتمنى لو كان حبي لها بمقدار حب زوجها لها.

ربما كان إحباطي حقيقياً و مؤلماً ، إلا أنه كان على ناس مزيّفين !

الإعجاز المزيّف
الأول على الدفعة...
كان يخصص مبالغ ضخمة سنوياً للدروس الخصوصية. و رشوة المدرّسين لتسريب أسئلة الإختبارات قبل نهاية العام.

مدربة اللياقة البدنية ...
لم تخبر أحداً بأنها سافرت إلى دولة مجاورة لإجراء عملية تغيير مسار المعدة (gastric bypass).
قبل هذه العملية كانت تأكل كل ما تشتهيه ، لتتقيّؤه لاحقاً (مرض النهم العصبي bulimia nervosa).
و بعد هذه العملية أجرت عملية "شد" تجميلية لبطنها و صدرها.

الشيخ المعالج بالقرآن ...
رجع جاري (مريض الصدفية) إلى الشيخ ليشكو له تردّي الحال.
فكان رد الشيخ التلقائي (و المتوقع): "لأنك لم تكن خاشعاً و إيمانك لم يكن قوياً".
و الشيخ المعالج بالقرآن نفسه لديه نصيبه من الضغط والسكّر ...
و يصرف أدويته شهرياً من الطبيب في المستوصف المجاور. 

 الأم الخارقة ...
فهي لم تخبر أحداً بأنها تتعاطى العقاقير المنشّطة و تستهلك الكثير من القهوة التركية لتبقى مستيقظة.
هي لا تحتاج للخدم لأن بناتها أنفسهن يؤدّينَ المطلوب من طبخ و كنس و مسح و تنظيف.
أولادها يدرّسون بعضهم البعض لأن الفرق بين أعمارهم ليس كبيراً.
و زوجها الذي "يعشقها و يموت فيها" يمضي أغلب وقته في العمل لأنه لا يطيق البقاء معها تحت سقف واحد.
يسافر زوجها هربا منها للنقاهة ، و يدّعي أنه في رحلة عمل. ويُسكِتها عن "صولاته و جولاته في الخارج" بالمال والهدايا الثمينة بين الحين و الآخر.

ناس من هذه النوعية لا تفضّل كشف الحقيقة و الأسباب مفهومة. 
أما بالنسبة لنا نحن "المعجبين" ، لنفهم بأن ليس كل ما يلمع أمامنا في هذه الحياة ذهباً.