الاثنين، 21 يناير 2019

مهزلة جامع الطوابع

عشق "حسن" منذ صغره تجميع الطوابع البريدية

شغفه كان بلا حدودإذ وصل إلى درجة طلبه للعمل في مكتب بريد الحي الذي كان يعيش فيه ، بعد تخرجه من المدرسةتراكمَت ألبومات الطوابع البريدية في مكتبة حسن على مر السنين. إلى أن قرّر ذات يوم أن يسأل جيرانه من أبناء الحي إن كان أحدهم يشاركه هذا الشغف. وجد عدداً لا بأس به من أترابه لهم نفس الهواية. فأصبحوا يتجمعون نهاية كل أسبوع في بيت أحدهم لعرض إصدارات الطوابع الجديدة و القديمة و مناقشة أصولها و تاريخ إصدارها و غيرها من التفاصيل التي تهمهم. 

مع مرور الوقت إنتشرت سمعة هذا التجمع الأسبوعي غير الرسمي ، و رغم رفض "حسن" ، تحوّل هذا التجمع إلى نادي محلي رسمي لهواة جمع الطوابع. يستقطب الهواة من كل أنحاء البلاد. ذاع صيت نادي جمع الطوابع خلال شهور و إنتشر كالنار في الحطب الهشيم. عبر الانترنت تواصلت أندية جمع الطوابع الى  الدول المجاورة. ثم الأقاليم. ثم القارات. و أصبح أصحاب "حسن" المؤسّسون للمنظمة الدولية لجمع و تصنيف الطوابع. 

تم فرض رسوم للإِنْضِمام لهذه المنظمة. و المنضمون إليها بالملايين من مختلَف دول العالم. لذلك تم تكوين مجلس إدارة و أمين خزينة من أصحاب "حسن". و بالطبع نصّب أصحاب "حسن" أنفسهم أعضاء دائمون لهذا المجلس. بعد ذلك حدث خلاف بينهم على كيفية تقسيم أرباح المنظمة (من رسوم المشتركين فيها) و التي أصبحت ثروة طائلة تتراكم كل شهر في الخزينة التي لم تسلَم هي الأخرى من إختلاسات أمينها. حاميها حراميها. 

إستفحل الخلاف بين المؤسّسين. الذي تحوّل إلى مشادة كلامية ، ثم تبادل شتائم ، ثم إشتباك بالأيدي. فَتّنَ أحد الأعضاء المؤسسين للمنظمة على أصحابه. طَفَت الفضائح على السطح. إذ كان أعضاء المنظمة (أصحاب "حسن" سابقاً) يدلّعون أنفسهم بأموال المشتركين. مبانٍ شاهقة لمنظمتهم. مكاتب مؤثثة بأفخر الأثاث. قسم للسكرتارية فيه أجمل السكرتيرات. سيارات فاخرة مع سائقيها. تم القبض عليهم و أحيلوا إلى النيابة.

 إنتشرت صور المتهمين في الجرائد و برامج التواصل الاجتماعي. إعترض المشتركون في المنظمة على هذه التجاوزات المالية. طالبوا بمحاسبة المختلسين. و حَل مجلس الإدارة. و تدخل القضاء. و في خضم هذه الفوضى العارمة و الهيصة و الزمبليطة. كان حسن يشاهد أخبارهم من تلفزيون بيته هادئاً متأسفاً. كل ما تمناه من الأساس جمع الطوابع و الاستمتاع بها فقط. 

هذه قصة خيالية رمزية انعكاساتها على أرض الواقع واضحة. هناك ناس يؤسسون جمعيات و منظمات و رابطات و هيئات لكل نشاط. الغرض الأساسي منها نبيل. لكن مع الوقت يتغلغل الفساد في قلوب ضعاف النفوس. فننسى مع الوقت السبب الأساسي الذي من أجله تأسست هذه الأنشطة. 

النابغة الذي لم يقدره أحد

عالِم/أستاذ/نابغة/موهوب عربي يرجع بلده بعد غربة طويلة في الفرنجة. لا يجد التقدير المتوقّع. يحزّم أمتعته و يهاجر الى الفرنجة ليحصل على التقدير الذي يستحقه. و هذا دليل على تخلفنا لعدم تقديرنا لهذه المواهب الشابة و محاربتنا للدماء الجديدة.

هذه القصة... 
قرأناها و عرفنا فحواها مليون مرة. حفظناها عن ظهر قلب. ولكن ...
هناك وجه آخَر مجهول لهذه القصة الشيكسبيرية قليل من يتحدث عنه. 

ألخّصه في هذا السيناريو :
المبتعث عند رجوعه لأرض الوطن يتحدث عن حياته في بلاد الفرنجة و كأنه نازل من الفردوس الأعلى. المدينة الفاضلة. حيث الخير كثير و الناس محترَمة و الحقوق محفوظة و الفساد منقرض و الكل متعايش  مع الكل بحب و سعادة و وئام. يباشر هذا المبتعث مهنته في بلاده. بغض النظر عن شهادته و طبيعة تخصصه. يطالب بتطبيق القوانين الإفرنجية بحذافيرها في بلاده. لأن قوانين بلاده -على حد قوله- غبية متخلفة.  

  يعامل زملاءه -ممن لم يحالفهم حظ الإبتعاث- بتعالي و دونية. لسان حاله يقول "صحيح أنني أفوقكم علماً و خبرة ، و لكني سأنزّل من مقامي فقط لأسايركم و أجاملكم". ثم يثور ، في موجة من الغضب العارم ، إذا لم تتم إزاحة رئيس القسم الحالي فوراً و تعيينه رئيساً جديداً للمكان. كونه خريجاً جديداً و أفكاره الإبداعية ستُحدِث ثورة في سوق العمل. و لا كأن بلده دولة مؤسسات ذات سيادة. و لا كأن هناك قوانين و شروط و "سلّم" في الدرجات و الترقيات و العلاوات يجب ان يرتقيه حاله من حال غيره.

  و في كل خصومة أو عِراك ، يعيد و يزيد في الأسطوانة المشروخة ذاتها: انا تركت الفرنجة بلاد الحضارة و العز و النعيم لأعمل في هذا البلد المتخلف الذي لا يقدّر أبناءه. إذا كانت وظيفته فنّية. طبيب او مهندس مثلاً. يضع قوانينه المفصّلة على راحته و هواه. يفرض بروتوكولاته الخاصة به على بقية الزملاء عنوةً. كأنه و قد أصبح دولة كاملة تجسّدت في إنسان واحد. هذا غير قمعه و تنمّره لكل من يسخر منه أو يتهكّم عليه. 

  في نهاية المطاف، عندما يثور أحد ليوقفه عنده حدّه، حزم أمتعته، و رجع مهاجراً  إلى الفرنجة. بينما زملاءه "يكسرون قُلّة" وراءه من الفرحة. أما إذا بقي هذا المبتعث في منصبه، يظل متربعاً عليه عقوداً طويلة. لا تنحّي و لا تقاعد و لا إستقالة. و يحارب الدماء الجديدة مثلما كان هو يُحارَب وقت توظيفه. أما إذا كان تخصّصه نادراً ، يتمنّن في عمله. و لا يدرّب أحداً على أسرار صنعته التي تعلمها في الفرنجة. 

ليس سراً أن بعض الكفاءات حقاً محارَبة. لا سيما الدماء الجديدة منها. لكن إذا سمعتم عن مظلومية أحدهم ، ربما -فقط ربما-  هناك جانب آخَر  من القصة لا يعرفه الجميع. 

و سلامتكم.

الأحد، 1 يوليو 2018

جمعية المعالجة

أتذكرها كأنها البارحة. منذ ما يقارب عشر سنوات مضت. أهل ضاحية قلعة وادرين؛ كبرى ضواحي بلاد الواقواق ، كانوا يشتكون من تكرار تلف عجلات سياراتهم و أنظمة التعليق فيها (المعاونات) بسبب "وعورة" شوارعهم. 

ربما "وعورة" أفضل "وصف" لهذه الطرق. كانت مليئة بالحُفَرْ ، التي كانت تتحول إلى مستنقعات بعد هطول الأمطار. هذا غير تطاير الحصى و تكسّر زجاج السيارات بسبب التعبيد التجاري المغشوش للشوارع

كلما اشتكى اهل الضاحية للشخص المسؤول ، السيد رئيس قسم تعبيد الشوارع الواقواقية ، كان رده السلبي المعتاد "لن أفيدكم. خلوني برة الموضوع". 

اجتمع اهل المنطقة و أسّسوا "جمعية معالجة شوارع قلعة وادرين" و التي سمّيت جوازاً "جمعية المعالجة". جمعية نفع عام. من إسمها نستنتج غرضها و أهداف تأسيسها. قال أول رئيس منتَخَب لها في خطبة رنانة: هدفنا تجديد شوارع ضاحيتنا لأن أهلنا يستاهلون. تذكّروا يا إخواني و أخواتي أن السلبية غير مجدية. نريد فزعتكم معنا. 


كلها بضعة شهور و رئيس الجمعية المنتخَب قد نجح في الانتخابات البرلمانية الواقواقية و اصبح عضواً لامعاً في البرلمان و إستقال تلقائياً من رئاسة جمعية المعالجة. تاركاً وراءه مشاكل شوارع قلعة وادرين المعلّقة المزمنة بلا حَل. و كيف لا ينساها؟ و هو الآن يواجه مهاماً أكبر و اخطر من مشكلة سخيفة كالشوارع الوعرة غير المُعَبّدة. حتى لو الجمعية تأسست لعلاج هذه الشوارع.


صورة أرشيفية: مقر جمعية المعالجة في قلعة وادرين
اليوم 
و قد مرّت ١٠ سنوات على تأسيس جمعية المعالجة. إنجازاتها كانت صفر. أو للأمانة ، ما هو أقرب إلى الصفر. لأن الجمعية ردمت حفرة كبيرة كانت أمام مقرها و كان هذا إنجازها الوحيد. كل رئيس منتخَب لها كان يستخدم الجمعية كعتبة. سلّم. وسيلة. ليصعد بها الى منصب أعلى و أهم في الدولة. لا أحد يتذكر الغرض الأساسي الذي من أجله تأسست الجمعية. و لا عزاء لأهالي ضاحية قلعة وادرين.

قبل يومين جاء شاب وسيم. أنيق. متحدث لبق. له حضور و هيبة و كاريزما ربما تليق بسفير أو وزير. إعتلى منبر جمعية المعالجة و أعلن ترشّحه لرئاستها. تلى هذا الإعلان سلسلة من الوعود لإصلاح الطرق المتهتّكة و الشوارع التالفة. دام الخطاب تقريباً لساعتين. خَتَمَ خطابه اللمّاع بجملة رمتني بالمنجنيق عبر الزمن  الى الماضي السحيق ، عندما قال "يا جماعة ترا السلبية غير مجدية". 

الحضور الغفير في صالة الجمعية -أغلبه من الشباب أصغر من ثلاثين عاماً- بدأ بالتصفيق الحار. لم يحضر "شايب" غيري في الصالة  انتخابات الجمعية الأولى وقت تأسيسها. لذلك عبارة "السلبية غير مجدية" كانت جديدة على كل الحضور. لكنها لم تكن جديدة علي. 

مفاجأة الموسم 
أن المفتاح الانتخابي للمرشّح الجديد. هو نفسه الرئيس السابق لقسم تعبيد الشوارع الواقواقية. الطرطور الكاشخ. المزهرية. خيال المآتة. الذي كان قبل عشر سنوات يردِّد عبارة "لن أفيدكم. خلوني برة الموضوع" لكل المشتكين. عندما رأيته إبتسمت. نهضت. جمعتُ مفاتيحي و محفظتي و جوّالي من فوق الطاولة. و رجعتُ البيت. نادماً على ساعتين ضيّعتهما من عمري في صالة الجمعية. لو قضيت هذا الوقت في مساعدة أبنائي في واجباتهم المدرسية لكان أكثر بركة. 

هذه القصة خيالية من قريحتي الفكرية. زبدتها تصلح لكل زمان و مكان. أي تشابه بينها و بين أحداث واقعية هو بمحض الصدفة البحتة. أنا ما لي شغل... خلوني برة الموضوع.

الجمعة، 8 يونيو 2018

أسطورة السيارة تسلا


 عندما كنت أتدرب في برنامج القسطرة القلبية في مونتريال ، كان أحد أساتذتي يعشق التقنيات الإبداعية المبهرة (بالكويتي: الفناتق). إبتاع لنفسه سيارة "تسلا" من باب تدليع الذات على حد تعبيره. تسلا...المركبة المستقبلية المعجزة. تعمل على الطاقة الكهربائية ١٠٠٪. 

سيارة تسلا قيد الشحن في أحد شوارع باريس

شركة تسلا أسّسها رائد الأعمال المشهور "إيلون مَسْك". رؤيته تقليل الإعتماد على النفط ، مع خطة منهجية للإستغناء عنه بالكامل في المستقبل القريب. طبعاً أي عاشق للتكنولوجيا و البيئة سيفرح بهذه السيارة. شكلها الإنسيابي. سرعتها الفائقة. ناهيك عن محطات الوقود الكهربائية الخاصة بها و المنتشرة في مواقع عديدة في أوروبا و أمريكا و كندا. تولّد هذه المحطات الكهرباء من لوحات الطاقة الشمسية على سطوحها. الشركة الأم متعهدة بتزويد سيارات تسلا بالطاقة الكهربائية المجانية مدى الحياة. شيء جميل. أليس كذلك؟ 

و لكن. بعيداً عن هذه البهرجة الإعلامية. لنفحص قصة سيارة تسلا تحت المجهر العلمي:

١من الداخل و الخارج ، جزء كبير ممن مكوّنات تسلا (عجلات ، طبلون ....الخ) أصلها من مشتقات البترول. حتى بعض مكونات ألواح الطاقة الشمسية مصنوعة من مشتقات البترول.

٢. سيارات تسلا تعمل على بطاريات مصنوعة من الليثيوم. العنصر الذي يستخرَج من باطن الأرض بالحفّارات و البلدوزرات التي تعمل على الديزل الذي هو من مشتقات البترول. 

٣خمس و ثمانين بالمائة من من الطاقة الكهربائية المستخدَمة في كل دول العالم مصدرها مولدات كهربائية تعمل على الوقود العضوي المشتق من البترول و الغاز الطبيعي. بينما الكهرباء المولّدة من مصادر أخرى تساهم فقط ب ١٥٪ الباقية من الإستهلاك الكهربائي. 

٤سيارات تسلا المتوفرة في السوق حالياً أسعارها غالية نار للمستهلكين من ذوي الدخل المحدود و المتوسط. حتى في الدول غير النفطية ، لا يعوض غلاء البنزين عن سعر السيارة المبالَغ فيه. فما بالك في دول الخليج العربية التي فيها سعر لتر البنزين أصلاً ليس باهظاً؟ في ظل التقنية الحالية ، تبقى وسائل المواصلات التي تعمل على الوقود العضوي هي المعيار الذهبي.

القصد
لا تصدق نجاح أي تقنية غربية تسمع عنها قبل إختبارها و وضعها على المحك. حتى إذا كانت تقنية حقاً ناجحة و ثورية. قبل أن تنبهر بها ، فكّر فيما إذا كانت تناسب ظروفنا و إحتياجاتنا و سير عملنا و إمكانياتنا المادية. التسلا ربما وجودها مفيد في الغرب. لكنها في الوقت الحالي لا تناسب إحتياجات السوق الخليجي. 


الأربعاء، 6 يونيو 2018

الدهاء المتخلف


من طبيعة البشر التنافس و التباهي لزيادة "رقم" معيّن لديهميعتمد هذا "الرقم" على المهنة و المكانة الإجتماعية و المنصبممكن هذا الرقم ان يكون ...

عدد الأبناء أو رصيد في البنك (المال و البنون زينة الحياة الدنيا - سورة الكهف).

الطيار يتباهى بعدد ساعات طيرانه
(شركات الخطوط الجوية تشترط عدداً معيناً من ساعات الطيران قبل توظيف الطيار المتقدم للعمل على متنها). 

المعلّم يتفاخر بعدد الدفعات التي درّسها. 

مهنة الطب لا تختلف كثيراً في هذا السياق. إذ يتباهى الطبيب المجتهد بأرقامه أيضاً. 

الأرقام هذه تتمثل في عدد سنوات الخبرة ، أو عدد الحالات التي شخّصَها و عالجها في تخصصه.

على سبيل المثال لا الحصر...
الجراح فلان أجرى ٥٠٠٠ عملية إستصال مرارة بالمنظار.

من شروط بورد التخدير في الدولة الفلانية أن يخدّر الطبيب المتدرب كحد أدنى ١٠٠٠ مريض.

فلان طبيب النساء و الولادة يجري العملية القيصرية من الألِف إلى الياء في أقل من ١٠ دقائق.

فلان طبيب القسطرة القلبية يشخص و يعالج الجلطة القلبية الحادة في أقل من ٣٠ دقيقة. 

حتى المريض تراه يحرص أن يتابع في العيادة مع طبيب متمرس خبير ضليع في تخصصه و الأسباب واضحة.  هذا المريض لن يقيّم براعة الطبيب إلا بمعرفة هذه الأرقام (عدد الحالات التي عالجها أو عدد سنوات الخبرة). لذلك يتنافس الأطباء فيما بينهم في رفع أرقامهم للتميّز و إكتساب الصيت. خصوصاً إذا كانوا قيد التدريب في برنامج البورد أو الزمالة. 

في بلاد الوقواق لاحظتُ ظاهرة غريبة أطلقتُ عليها "الدهاء المتخلف" والتي دفعتني لكتابة هذا المقال. الدهاء المتخلف عبارة متناقضة ، أو مايسمى بالإنجليزية أوكسيمورون (Oxymoron). العبارة المتناقضة لها مغزى مقصود. مثل النجاح الفاشل أو المتزوج العازب أو القزم العملاق.  

ممارسة مهنة الطب في بلاد الواقواق تختلف عن ممارستها في بلاد الفرنجة في الآتي...

١الرواتب موحّدة: راتب التخصص الصعب المتعب هو نفسه راتب التخصص السهل المريح.

٢الأمان الوظيفي: بمعنى أن الموظف لا يُطرَد من وظيفته مهما كان مهملاً. بالكويتي: محّد يتفنّش.

٣ضمان الوظيفة: الطبيب عندما يتخرج من الجامعة هناك وظيفة جاهزة تنتظره و التوظيف فوري.

بسبب هذه الفروقات بين الواقواق و الفرنجة، تطوّرَ الدهاء المتخلف لدى بعض الأطباء. فالطبيب الواقواقي النشيط الطموح بطبيعة الحال يرغب في زيادة أرقامه. و لكن في الوقت نفسه يرفض أن يعمل أكثر من زملائه! سلوك متناقض

الدكتور الواقواقي ينتشي و يفرح و يعتبر نفسه "داهية" أو "ذيب" إذا إستطاع أن يعمل أقل من غيره. تبريره في ذلك أنه يرفض أن يستغله أو يستغفله أو يضحك عليه أحد من الزملاء بتلبيسه شغل أكثر من اللازم. أو باللهجة المصرية الدارجة: مش عايز حَد يستكرده. حتى في التقسيم الشهري لجدول الخفارات (المناوبات الليلية/الأونكول/النبطشية) تراه روتينياً يقارن عدد خفاراته بعدد خفارات بقية الزملاء. تقوم الدنيا و لا تقعد إذا لاحظ أن خفاراته أكثر من خفارات غيره. لكنه في الوقت نفسه ، مغبون و مكتئب لأن أرقامه لا ترتفع كما يجب. محبَط لأن خبرته تبقى ضحلة و مهاراته تبقى محدودة.

مثال بسيط في تخصص الجراحة العامة: 
الجراح مكتئب لأن جدول عملياته يخلو من الحالات الجراحية. بينما الجراح نفسه بعد منتصف الليل ، إذا استقبل حالات جراحية طارئة تستدعي التدخل الجراحي السريع (إلتهاب في الزائدة الدودية ، إلتهاب في المرارة ...الخ) تراه يؤجل العملية ، أو يحوّل المريض إلى جراح آخَر. أو يحول المريض إلى مستشفى آخر حسب منطقة السكن. حتى في تقسيم المناوبات (الخفارات). يرفض الطبيب أن يغطي خفارات زملاءه إذا أخذ أحدهم إجازة طارئة. بالرغم من أن الخفارات الزيادة تعني بالضرورة شغل زيادة و بالتالي أرقام زيادة.

قِس على ذلك كل التخصصات الطبية الأخرى بلا إستثناء. عند "زحلقة" المريض و التخلص منه يعتبر الطبيب نفسه نابغة و فهلوي. يستحق التقدير و الإعجاب. كيف يا عبقري زمانك تزيد من أرقامك و أنت تعمل أقل من زملائك؟

الطبيب ذو الدهاء المتخلف من هذا النوع لم ينتبه لنقطة مهمة في هذا الموضوع: بهذا السلوك يكوّن لنفسه سمعة سيئة بين زملائه. ربما تمنعه هذه السمعة من الترقية في وظيفته الحالية ، أو من الحصول على وظيفة أفضل منها في مكان آخَر في المستقبل. 

الحل؟ 
إن كُنتَ ترغب في زيادة أرقامك ، إجتهد و اعمل بصمت. من غير شوشرة. بدون لف و دوران. بدون كروتة أو زحلقة. بدون مراقبة زملائك و مقارنة كمية عملك بكمية عملهم. بل بالعكس... إرفع أرقامك بالعمل أكثر من زملائك. بذلك ستبني لنفسك سمعة طيبة و ستثير إعجاب رئيسك المباشر. فكّر على المدى البعيد و خطِّط لمستقبلك المهني بدلاً من التركيز على حاضرك و مراقبة من حولك.

تنويه: يتناول هذا المقال ظاهرة موجودة لدى بعض الأطباء. البعض و ليس الكل. ظاهرة الدهاء المتخلف غير مرتبطة بزمان أو مكان و لا يقصَد بها أحد بشخصه. لذلك إستخدمت مصطلح "بلاد الواقواق" بدلاً من ذكر مكان حقيقي.  

الخميس، 22 سبتمبر 2016

الحب: دراسة تحليلية

القصة الأولى: مشعل و سعد.
بعدما أنجَبَتْ أم مشعل بكرها "مشعل" ، دخلت في فترة من العُقم مجهول السبب لسنين طويلة. إلى أن أنجبت ولدها الثاني  "سعد" الذي وُلِدَ بعد عشر سنوات من ولادتها الأولى. توفي زوجها "أبو مشعل" في حادث سيارة بعد ولادة سعد بأيام. و كرّسَت أم مشعل حياتها لتربية إبنيها.  

كَبُرَ سعد. و كونه كان في المهد وقت وفاة أبيه ، و بحكم فارق السن الكبير بينه و بين أخيه. كان مشعل يمثل "الأب" بالنسبة لسعد. حَرَصَتْ أم مشعل على تعزيز أواصر الأخوّة بين إبنيها. فمنذ مراهقة مشعل ، كلما خرج ليلعب كرة القدم مع أبناء الحي ،  كانت ترغمه أمه لأخذ سعد ليلعب معهم. و كلما أبدى مشعل إمتعاضه من أوامر والدته المفروضة عليه عنوة ، ردّدت عبارتها المعتادة "هذا أخوكعضيدك. ملحك إذا خِست". 

 "التمليح" طريقة معتمدة لحفظ بعض الأغذية من الفساد. "ملحك اذا خِست" مقولة خليجية كلاسيكية ترسّخ أهمية الأخوّة وقت الأزمات. مشعل لم يكن مقتنعاً أبداً بعبارة "الملح" هذه. لكنه إعتاد على سماعها منذ صغره. إلى أن صار يردّدها هو نفسه لاحقاً لأخاه الأصغر لا إرادياً. كانت هذه العبارة تثلج صدر سعد. حتى لو لم يكن مشعل يعنيها من قلبه. أخاه سعد في المقابل لم يكن من عشاق كرة القدم. لكنه كان يتطلع لكل مباراة مع أبناء الحي ، فقط ليظفر بقبول و إستحسان أخاه الأكبر

دارت السنوات. و بالرغم من تخرج مشعل من الجامعة المحلية بشهادة البكالوريوس. إلا أن سعد تفوّق أكاديمياً على أخاه الأكبر بمراحل. كان سعد ناهلاً  للعلم و بشراهة. حصد الشهادات و الجوائز التقديرية واحدة تلو الأخرى. من البكالوريوس حتى الماجستير. و منها إلى الدكتوراه. و منها الى دكتوراه أخرى في مجال آخر. كل شهادة و جائزة حاز عليها سعد كانت من جامعة غربية عريقة. و في كل مرة ، كان سعد يدعو أخاه الأكبر لحضور حفل التخرج. و هذا الأخير كان يعتذر

غير تفوّقه الدراسي ، كان سعد أيضاً أديباً موهوباً و عاشقاً لعزف الموسيقى الكلاسيكية. يده التي يكتب بها رواياته و أشعاره هي نفسها التي تعزف على مفاتيح البيانو أعذب المقطوعات الموسيقية. كان سعد يدعو أخاه الوحيد إلى حفلات الأوركسترا التي كان يشارك بها. و كان مشعل دائماً يعتذر عن الحضور.  

مع كل "إعتذارفي كل مناسبة ، يشغل مشعل أسطوانة "الأعذار" المشروخة التي سَئِمَ سعد من سماعها. حتى أنه أطلق عليها "أسطوانة أعذار مشعل": 
"ما عندي وقت"
"ما عندي فلوس"
"أنا أساساً ما أحب السفر"
"عندي فوبيا من الطيارات
"لا تزعل يا خوي سعد. فأنا أحبك. إنتَ في النهاية أخي عضيدي و ملحي إذا خِست

بعد سنوات طويلة من الغربة ، رجع سعد إلى أرض الوطن و إستقر فيها عند بلوغه الأربعين. تفاجأ بأن بعض أبناء و بنات أخاه مشعل قد تزوجوا و أنجبوا. و عمّهم الوحيد سعد كان آخر من يعلم. لم يكن سعد مستعداً معنوياً لقطيعة مشعل المستمرة له. إذ كان يتعمّد إلتماس العذر لأخاه الوحيد كلما خيّب آماله

في هذه المرة كان تبرير مشعل ...
"ما عزمناك ياخوي يا سعد على أفراح العيال لأن إحنا أصلاً في كل مرة ما نسوي عرس. بس حفلة صغيرة. لا تزعل ياخوي يا سعد. أنا أحبك. إنتَ في النهاية أخوي و عضيدي و ملحي إذا خِست". 

 كان مشعل قد كبر في السن و بنى لنفسه "حَمولة". 
أصبح "جَدّاً" له شعبية و قاعدة جماهيرية عريضة بين أفراد عائلته الذي أصبح عميداً لها. مخضرماً بين الأحفاد و الأسباط بلقب "بابا حجّي". و بيته أضحى معروفاً "ببيت الوالد". 

و على الرغم من كبر سن مشعل. إلا أنه بلياقته و صحته. لا يزال يلعب كرة القدم مع أحفاده و أسباطه نهاية كل أسبوع في "حوش" البيت. بعض أبناء مشعل كانوا يدرسون في أمريكا. و بعضهم الآخر في أوروبا. و كان "بابا مشعل" يسافر لزيارتهم مرتين كل سنة. مرة أوروبا. و مرة أمريكا. (أين إذاً فوبيا الطائرات التي كان يتذرّع بها لأخيه قبل بضع سنوات؟).  

 أصدَر سعد روايته الأولى بعد جهد مضنٍ في كتابتها. مبيعات الطبعة الأولى كانت بالآلاف. نَفَذَتْ من المكتبات منذ الأسبوع الأول من إصدارها. في معرض الكتاب كان طابور المعجبين طويلاً على إمتداد البصر. كلهم منتظرون نسخة من توقيع المؤلف النابغة. لكن كل ذلك لم يكن مهماً لسعد. كل ما كان يتمناه هو قبول و إستحسان شخص واحد فقط: مشعل

ذهب سعد إلى منزل أخاه الأكبر في يوم جمعة ، و أهداه نسخة من روايته. موقّعة و مغلّفة برسم الخدمة. فتح مشعل غلاف الرواية و تصفّح الأوراق الأولى منها ثم أغلقها. إلتفتَ لأخيه قائلاً بإبتسامة مليئة بالإستهزاء "ما شاء الله عليك. كلام مزيون من حلج بزّون". (البزّون: "القِط" باللهجة العراقية). 

تعليق مستفز كهذا كان القشة التي قصمت ظهر البعير. الصفعة التي أيقظت سعد من "وَهْم الأخوّة" الذي عاشه لأربعين سنة. إستشاطَ سعد غضباً. لكنه ترك بيت أخاه بسكوت مكهرَب قبل أن يتفوه بكلمة جارحة قد يندم عليها لاحقاً

القصة الثانية: حسن و نعيمة.
بلغ "حسن" سن الزواج. لم يكن من ذوي الغراميات. كان يفضل زواج العوائل أو "دخول البيوت من أبوابها" على حد تعبيرهطلب من أمه البحث عن إمرأة ترضى به زوجاً. إختارت له أمه "نعيمة". أكثر بنات الحي جمالاً و أفضلهن في الأخلاق و التربية و الأصل. تزوّجها زواجاً تقليدياً. رآها للمرة الأولى قبل زواجهما بشهر واحد. وافق عليها بالإيماء و الإبتسامة فقط. دون إبداء رأيه الصريح فيها.

لأنه لم يكن غنياً ، أراد توفير العيش الكريم لزوجته بالعمل في وظيفتين. واحدة صباحاً و الأخرى عصراً. ليرجع بيته آخر الليل منهكاً يبحث فقط عن الوسادة ليحتضنها و يذهب في سبات عميق. هو بطبعه كتوم. قليل الكلام. زِد على ذلك أسرار العمل التي كان لا يبوح عنها لأحد. كان لا ينفّس عن ما يجول بداخله ، لا لزوجته ولا لغيرها. حياته كانت محصورة بين البيت و العمل. لا دواوين. لا رحلات. و لا حياة إجتماعية خارج إطار العائلة

في المقابل كانت عاطفة نعيمة جياشة. تتضايق كثيراً من سكوت زوجها الدائم لها. ظناً منها أنه غير سعيد في زواجه منها. لأنها حتى بعد عشرين سنة من زواجهما ، لم تسمع منه كلمة "أحبك" أبداً. حتى بعد أن أنجبت له البنين و البنات. كانت تقول لعيالها "أبوكم ما يحبني. أكيد تزوجني وهو مغصوب". 

ظنّت نعيمة أن غيابه الطويل عن المنزل كان ربما بسبب زوجة ثانية أو عشيقة. لكنها أبقت صمتها و لم تفصح عن ما يجول في خاطرها خوفاً على بيتها من خراب مُحتمَلْ. لم تعِ نعيمة كم هي مُتعبة وظيفة زوجها. لأنه لم يفسر لها عن طبيعة وظيفته أصلاً. كل الذي كانت تعرفه انه لا  يُقَصِّر معها و مع ابنائها مادياً. حتى البيت ، إشتراه لها و سجّله بإسمها دون ان تطلب منه ذلك

 تأزّمت نعيمة صحياً و حدثت لها حالة "إلتهاب في القلب" بعد ولادتها الأخيرة. إلتهاب فيروسي حاد تَرَكَ عضلة قلبها واهنة ضعيفة. نعيمة أصبحت غير قادرة على أداء واجباتها كزوجة و ربّة بيت. ترَك حسن وظيفته و تفرغ لها ليعطيها الدواء بنفسه على مدار الساعة. كان يراجع العيادة معها عند كل موعد. و يأخذها إلى غرفة الطواريء فوراً كلما تأزّمت صحتها

بعد بضعة شهور بدأت صحة نعيمة في الإنحدار المتوقّع بعد صراع خاسر مع فشل القلب المزمن. لكن زوجها كان معها طول الخط. بين المستشفيات المحلية و العلاج في الخارج. لم يتركها خلال أشد ساعات عنائها

عندما دقّت الساعة و أخذ الله أمانتها ، دَخَلَ حسن في إكتئاب مزمن. لم يترك المنزل لشهور. علّق صور المرحومة على كل حوائط المنزل. ظل يشاهد فيلم حفل زفافهما كل ليلة قبل النوم. رفض الزواج مرّة أخرى بالرغم من طلب أبنائه المستمر بتزويجه لقلقهم من عزلته. ظل يزور قبرها كل جمعة لسنوات حتى وافته المنيّة.          


في قصة سعد و مشعل ...
"أنا أحبك. إنتَ أخي. عضيدي. ملحي إذا خِست" جملة ردّدها الأخ الكبير لأخاه الصغير مليون مرة على مر السنين. فقط لأنه ورثها من أمّه. ما هي إلا لعقٌ على اللسان ليس إلا ، و قائلها لا يعنيها بالضرورة.

مشاعر مشعل تجاه أخاه سعد هي كما هي ، لم تتغير أبداًشريط الأحداث منذ الطفولة وضّح أن علاقة الحب المزعومة بين الأخوين كانت في الواقع من طرف واحدسعد كان مستاءاً من نفسه لأنه لم يستوعب هذه الحقيقة المُرّة  إلا بعد أربعين سنة
قد يدافع المدافعون أن هناك فرق بين "الأخ" و "الإبن" كخطوة أولى لتبرير أو تفسير تفضيل  مشعل لأبنائه على أخاه. لأن علاقة المرء بأبنائه ودّية. بينما علاقته بأخيه ندّية. حتى إن كان هذا الكلام صحيحاً...
فلماذا ازدواجية المعايير؟
و لماذا الكذب في التبرير؟ 
و لماذا كان مشعل يردد عبارة أمه كالببغاء دون تفكير؟

أبسط مثال قوله لأخيه عن موضوع الفوبيا من السفر و الطائرات. و هو لاحقاً عبَرَ البحار و القارات لزيارة أبنائه كل سنة.

إذا كان أخاه عزيزاً عليه. لِمَ لم يدعوه لحفلات زفاف أبنائه و بناته؟

هل كان مشعل يحسد أخاه لغاية في نفسه؟ 
هل كان مشعل يكره أخاه دون سبب؟ و ألف "هل" و "هل".

الله أعلم بما في النفوس. أياً كان المبرر. "حب" مشعل المزعوم لأخاه الأصغر سعد كان قول من غير فعل. كلام مأكول خيره. أسطوانة مشروخة تُعاد بين الحين و الآخَر وقت الحاجة

و في قصة حسن و نعيمة... 
كان حب حسن لزوجته "فعلاً" من غير قوللم تدرك نعيمة أن زوجها كان شرقياً حتى النخاع. لا تسمح الأعراف للرجل الشرقي ان يقول "أحبك" لإمرأته مهما بلغ حبه لها. كان حبه فعلاً دون قول.

في رأيي المتواضع ، الحب مثل الدراسة العلمية أو بناء المنزل

في العلم 
تأتي فكرة للباحث لدراسة ظاهرة معينة
يدوّن الباحث فكرته على الورق و يطرحها على زملائه و أساتذته
فإذا وافقوا عليها ، تبدأ الدراسة الفعلية بتنفيذ خطوات البحث كما هو مكتوب على الورق

كذلك في بناء المنزل
يرسم المهندس المعماري كل مخططاته على الورق.
يعرضها على صاحب المنزل
فإذا وافق عليها ، بُنِيَ البيت كما في المُخطَّط

المحبة لها نفس المبدأ
على المُحِب الإفصاح شفهياً عن حبّه. كما قال مشعل لأخيه في القصة الأولى. يلي ذلك تطبيق عملي ملموس لهذه المحبة. كما فعل حسن لنعيمة في القصة الثانية


"أحبك" دون فعل هو على الأقل نفاق. و التطبيق العملي للحب بسكوت ، دون تعبير لفظي هو على الأرجح جلافة.