الخميس، 22 سبتمبر 2016

الحب: دراسة تحليلية

القصة الأولى: مشعل و سعد.
بعدما أنجَبَتْ أم مشعل بكرها "مشعل" ، دخلت في فترة من العُقم مجهول السبب لسنين طويلة. إلى أن أنجبت ولدها الثاني  "سعد" الذي وُلِدَ بعد عشر سنوات من ولادتها الأولى. توفي زوجها "أبو مشعل" في حادث سيارة بعد ولادة سعد بأيام. و كرّسَت أم مشعل حياتها لتربية إبنيها.  

كَبُرَ سعد. و كونه كان في المهد وقت وفاة أبيه ، و بحكم فارق السن الكبير بينه و بين أخيه. كان مشعل يمثل "الأب" بالنسبة لسعد. حَرَصَتْ أم مشعل على تعزيز أواصر الأخوّة بين إبنيها. فمنذ مراهقة مشعل ، كلما خرج ليلعب كرة القدم مع أبناء الحي ،  كانت ترغمه أمه لأخذ سعد ليلعب معهم. و كلما أبدى مشعل إمتعاضه من أوامر والدته المفروضة عليه عنوة ، ردّدت عبارتها المعتادة "هذا أخوكعضيدك. ملحك إذا خِست". 

 "التمليح" طريقة معتمدة لحفظ بعض الأغذية من الفساد. "ملحك اذا خِست" مقولة خليجية كلاسيكية ترسّخ أهمية الأخوّة وقت الأزمات. مشعل لم يكن مقتنعاً أبداً بعبارة "الملح" هذه. لكنه إعتاد على سماعها منذ صغره. إلى أن صار يردّدها هو نفسه لاحقاً لأخاه الأصغر لا إرادياً. كانت هذه العبارة تثلج صدر سعد. حتى لو لم يكن مشعل يعنيها من قلبه. أخاه سعد في المقابل لم يكن من عشاق كرة القدم. لكنه كان يتطلع لكل مباراة مع أبناء الحي ، فقط ليظفر بقبول و إستحسان أخاه الأكبر

دارت السنوات. و بالرغم من تخرج مشعل من الجامعة المحلية بشهادة البكالوريوس. إلا أن سعد تفوّق أكاديمياً على أخاه الأكبر بمراحل. كان سعد ناهلاً  للعلم و بشراهة. حصد الشهادات و الجوائز التقديرية واحدة تلو الأخرى. من البكالوريوس حتى الماجستير. و منها إلى الدكتوراه. و منها الى دكتوراه أخرى في مجال آخر. كل شهادة و جائزة حاز عليها سعد كانت من جامعة غربية عريقة. و في كل مرة ، كان سعد يدعو أخاه الأكبر لحضور حفل التخرج. و هذا الأخير كان يعتذر

غير تفوّقه الدراسي ، كان سعد أيضاً أديباً موهوباً و عاشقاً لعزف الموسيقى الكلاسيكية. يده التي يكتب بها رواياته و أشعاره هي نفسها التي تعزف على مفاتيح البيانو أعذب المقطوعات الموسيقية. كان سعد يدعو أخاه الوحيد إلى حفلات الأوركسترا التي كان يشارك بها. و كان مشعل دائماً يعتذر عن الحضور.  

مع كل "إعتذارفي كل مناسبة ، يشغل مشعل أسطوانة "الأعذار" المشروخة التي سَئِمَ سعد من سماعها. حتى أنه أطلق عليها "أسطوانة أعذار مشعل": 
"ما عندي وقت"
"ما عندي فلوس"
"أنا أساساً ما أحب السفر"
"عندي فوبيا من الطيارات
"لا تزعل يا خوي سعد. فأنا أحبك. إنتَ في النهاية أخي عضيدي و ملحي إذا خِست

بعد سنوات طويلة من الغربة ، رجع سعد إلى أرض الوطن و إستقر فيها عند بلوغه الأربعين. تفاجأ بأن بعض أبناء و بنات أخاه مشعل قد تزوجوا و أنجبوا. و عمّهم الوحيد سعد كان آخر من يعلم. لم يكن سعد مستعداً معنوياً لقطيعة مشعل المستمرة له. إذ كان يتعمّد إلتماس العذر لأخاه الوحيد كلما خيّب آماله

في هذه المرة كان تبرير مشعل ...
"ما عزمناك ياخوي يا سعد على أفراح العيال لأن إحنا أصلاً في كل مرة ما نسوي عرس. بس حفلة صغيرة. لا تزعل ياخوي يا سعد. أنا أحبك. إنتَ في النهاية أخوي و عضيدي و ملحي إذا خِست". 

 كان مشعل قد كبر في السن و بنى لنفسه "حَمولة". 
أصبح "جَدّاً" له شعبية و قاعدة جماهيرية عريضة بين أفراد عائلته الذي أصبح عميداً لها. مخضرماً بين الأحفاد و الأسباط بلقب "بابا حجّي". و بيته أضحى معروفاً "ببيت الوالد". 

و على الرغم من كبر سن مشعل. إلا أنه بلياقته و صحته. لا يزال يلعب كرة القدم مع أحفاده و أسباطه نهاية كل أسبوع في "حوش" البيت. بعض أبناء مشعل كانوا يدرسون في أمريكا. و بعضهم الآخر في أوروبا. و كان "بابا مشعل" يسافر لزيارتهم مرتين كل سنة. مرة أوروبا. و مرة أمريكا. (أين إذاً فوبيا الطائرات التي كان يتذرّع بها لأخيه قبل بضع سنوات؟).  

 أصدَر سعد روايته الأولى بعد جهد مضنٍ في كتابتها. مبيعات الطبعة الأولى كانت بالآلاف. نَفَذَتْ من المكتبات منذ الأسبوع الأول من إصدارها. في معرض الكتاب كان طابور المعجبين طويلاً على إمتداد البصر. كلهم منتظرون نسخة من توقيع المؤلف النابغة. لكن كل ذلك لم يكن مهماً لسعد. كل ما كان يتمناه هو قبول و إستحسان شخص واحد فقط: مشعل

ذهب سعد إلى منزل أخاه الأكبر في يوم جمعة ، و أهداه نسخة من روايته. موقّعة و مغلّفة برسم الخدمة. فتح مشعل غلاف الرواية و تصفّح الأوراق الأولى منها ثم أغلقها. إلتفتَ لأخيه قائلاً بإبتسامة مليئة بالإستهزاء "ما شاء الله عليك. كلام مزيون من حلج بزّون". (البزّون: "القِط" باللهجة العراقية). 

تعليق مستفز كهذا كان القشة التي قصمت ظهر البعير. الصفعة التي أيقظت سعد من "وَهْم الأخوّة" الذي عاشه لأربعين سنة. إستشاطَ سعد غضباً. لكنه ترك بيت أخاه بسكوت مكهرَب قبل أن يتفوه بكلمة جارحة قد يندم عليها لاحقاً

القصة الثانية: حسن و نعيمة.
بلغ "حسن" سن الزواج. لم يكن من ذوي الغراميات. كان يفضل زواج العوائل أو "دخول البيوت من أبوابها" على حد تعبيرهطلب من أمه البحث عن إمرأة ترضى به زوجاً. إختارت له أمه "نعيمة". أكثر بنات الحي جمالاً و أفضلهن في الأخلاق و التربية و الأصل. تزوّجها زواجاً تقليدياً. رآها للمرة الأولى قبل زواجهما بشهر واحد. وافق عليها بالإيماء و الإبتسامة فقط. دون إبداء رأيه الصريح فيها.

لأنه لم يكن غنياً ، أراد توفير العيش الكريم لزوجته بالعمل في وظيفتين. واحدة صباحاً و الأخرى عصراً. ليرجع بيته آخر الليل منهكاً يبحث فقط عن الوسادة ليحتضنها و يذهب في سبات عميق. هو بطبعه كتوم. قليل الكلام. زِد على ذلك أسرار العمل التي كان لا يبوح عنها لأحد. كان لا ينفّس عن ما يجول بداخله ، لا لزوجته ولا لغيرها. حياته كانت محصورة بين البيت و العمل. لا دواوين. لا رحلات. و لا حياة إجتماعية خارج إطار العائلة

في المقابل كانت عاطفة نعيمة جياشة. تتضايق كثيراً من سكوت زوجها الدائم لها. ظناً منها أنه غير سعيد في زواجه منها. لأنها حتى بعد عشرين سنة من زواجهما ، لم تسمع منه كلمة "أحبك" أبداً. حتى بعد أن أنجبت له البنين و البنات. كانت تقول لعيالها "أبوكم ما يحبني. أكيد تزوجني وهو مغصوب". 

ظنّت نعيمة أن غيابه الطويل عن المنزل كان ربما بسبب زوجة ثانية أو عشيقة. لكنها أبقت صمتها و لم تفصح عن ما يجول في خاطرها خوفاً على بيتها من خراب مُحتمَلْ. لم تعِ نعيمة كم هي مُتعبة وظيفة زوجها. لأنه لم يفسر لها عن طبيعة وظيفته أصلاً. كل الذي كانت تعرفه انه لا  يُقَصِّر معها و مع ابنائها مادياً. حتى البيت ، إشتراه لها و سجّله بإسمها دون ان تطلب منه ذلك

 تأزّمت نعيمة صحياً و حدثت لها حالة "إلتهاب في القلب" بعد ولادتها الأخيرة. إلتهاب فيروسي حاد تَرَكَ عضلة قلبها واهنة ضعيفة. نعيمة أصبحت غير قادرة على أداء واجباتها كزوجة و ربّة بيت. ترَك حسن وظيفته و تفرغ لها ليعطيها الدواء بنفسه على مدار الساعة. كان يراجع العيادة معها عند كل موعد. و يأخذها إلى غرفة الطواريء فوراً كلما تأزّمت صحتها

بعد بضعة شهور بدأت صحة نعيمة في الإنحدار المتوقّع بعد صراع خاسر مع فشل القلب المزمن. لكن زوجها كان معها طول الخط. بين المستشفيات المحلية و العلاج في الخارج. لم يتركها خلال أشد ساعات عنائها

عندما دقّت الساعة و أخذ الله أمانتها ، دَخَلَ حسن في إكتئاب مزمن. لم يترك المنزل لشهور. علّق صور المرحومة على كل حوائط المنزل. ظل يشاهد فيلم حفل زفافهما كل ليلة قبل النوم. رفض الزواج مرّة أخرى بالرغم من طلب أبنائه المستمر بتزويجه لقلقهم من عزلته. ظل يزور قبرها كل جمعة لسنوات حتى وافته المنيّة.          


في قصة سعد و مشعل ...
"أنا أحبك. إنتَ أخي. عضيدي. ملحي إذا خِست" جملة ردّدها الأخ الكبير لأخاه الصغير مليون مرة على مر السنين. فقط لأنه ورثها من أمّه. ما هي إلا لعقٌ على اللسان ليس إلا ، و قائلها لا يعنيها بالضرورة.

مشاعر مشعل تجاه أخاه سعد هي كما هي ، لم تتغير أبداًشريط الأحداث منذ الطفولة وضّح أن علاقة الحب المزعومة بين الأخوين كانت في الواقع من طرف واحدسعد كان مستاءاً من نفسه لأنه لم يستوعب هذه الحقيقة المُرّة  إلا بعد أربعين سنة
قد يدافع المدافعون أن هناك فرق بين "الأخ" و "الإبن" كخطوة أولى لتبرير أو تفسير تفضيل  مشعل لأبنائه على أخاه. لأن علاقة المرء بأبنائه ودّية. بينما علاقته بأخيه ندّية. حتى إن كان هذا الكلام صحيحاً...
فلماذا ازدواجية المعايير؟
و لماذا الكذب في التبرير؟ 
و لماذا كان مشعل يردد عبارة أمه كالببغاء دون تفكير؟

أبسط مثال قوله لأخيه عن موضوع الفوبيا من السفر و الطائرات. و هو لاحقاً عبَرَ البحار و القارات لزيارة أبنائه كل سنة.

إذا كان أخاه عزيزاً عليه. لِمَ لم يدعوه لحفلات زفاف أبنائه و بناته؟

هل كان مشعل يحسد أخاه لغاية في نفسه؟ 
هل كان مشعل يكره أخاه دون سبب؟ و ألف "هل" و "هل".

الله أعلم بما في النفوس. أياً كان المبرر. "حب" مشعل المزعوم لأخاه الأصغر سعد كان قول من غير فعل. كلام مأكول خيره. أسطوانة مشروخة تُعاد بين الحين و الآخَر وقت الحاجة

و في قصة حسن و نعيمة... 
كان حب حسن لزوجته "فعلاً" من غير قوللم تدرك نعيمة أن زوجها كان شرقياً حتى النخاع. لا تسمح الأعراف للرجل الشرقي ان يقول "أحبك" لإمرأته مهما بلغ حبه لها. كان حبه فعلاً دون قول.

في رأيي المتواضع ، الحب مثل الدراسة العلمية أو بناء المنزل

في العلم 
تأتي فكرة للباحث لدراسة ظاهرة معينة
يدوّن الباحث فكرته على الورق و يطرحها على زملائه و أساتذته
فإذا وافقوا عليها ، تبدأ الدراسة الفعلية بتنفيذ خطوات البحث كما هو مكتوب على الورق

كذلك في بناء المنزل
يرسم المهندس المعماري كل مخططاته على الورق.
يعرضها على صاحب المنزل
فإذا وافق عليها ، بُنِيَ البيت كما في المُخطَّط

المحبة لها نفس المبدأ
على المُحِب الإفصاح شفهياً عن حبّه. كما قال مشعل لأخيه في القصة الأولى. يلي ذلك تطبيق عملي ملموس لهذه المحبة. كما فعل حسن لنعيمة في القصة الثانية


"أحبك" دون فعل هو على الأقل نفاق. و التطبيق العملي للحب بسكوت ، دون تعبير لفظي هو على الأرجح جلافة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق