الثلاثاء، 6 مايو 2014

خلك خبير

تعودت في مدونتي على إيصال فكرة معينة عن طريق قصة إفتراضية من نسيج خيالي. لكن هذه المرة سأسرد قصة واقعية عاصرتها قبل بضع سنوات. مع مراعاة عدم ذكر أسماء الأشخاص المعنيون أو المؤسسات أو الدولة التي حدثت فيها هذه القصة لأن أسماؤهم ليس لها أهمية أصلاً.

كلمة "خبير" تذكرني بالفنان القدير ماجد سلطان في مسرحية "على هامان يا فرعون"

  قرّرت إدارة مستشفى ضخم مترامي الأطراف في دولة عربية تعيين "خبير أجنبي" رئيساً لأحد أقسامها. وقع إختيارها على خبير عالمي عريق مشهور متقاعد من دولة غربية. هذا الخبير كان إسمه العالمي رنّان و أبحاثه العلمية تُحصى بالمئات. تعيينه في الوهلة الأولى كان إختياراً صائباً و مكسَباً كبيراً للمستتشفى. ذلك لأن سمعة المستشفى بديهياً سترتقي بوجود هذا الطبيب. و الطبيب نفسه كان فَرِحاً غارقاً في نشوته ، لأنه راتبه الشهري (حسب العقد) كان يعادل سعر ثلاث سيارات لكزس! كان مبلغاً لم يحلم به طوال مشواره المهني في بلده. 

كان شعر الخبير الأبيض له هيبة و وقار و حضور. لغته الأم كانت الإنجليزية بلكنة مُلفتة. خطاباته في الإجتماعات و المحاضرات كانت رنّانة مليئة بوعود لإعادة هيكلة القسم و تطويره. لكن في المقابل ، كان ينظر لزملائه الخبراء المحليين بنظرة دونية مستفزّة ملحوظة ، قلّلت من شعبيته تدريجياً بعد بضعة أيام من مباشرته العمل. 

المقلب الكبير ظهر بعد شهر واحد من تعيينه. كان تعمّده تفادي متابعة المرضى في العيادات الخارجية و الأجنحة ظاهراً. كان مجهوده الرئيسي مُنصَباً على الجانب الإداري من وظيفته فقط. و بعدما وضعته إدارة المستشفى المُحبَطَة على المحَك عنوةً ، ظَهرَ معدنه الأصلي. الحبيب كان لا يعرف كوعه من بوعه في تشخيص و علاج الحالات المرضية. مهاراته الطبية كانت توازي مهارات تلاميذه الأطباء حديثي التخرج!

هل كان هذا الخبير محتالاً نصّاباً؟ هل كان إختياره خاطئاً؟
بعد بحث و تمحيص الإدارة في الفضيحة ، ظهرَت الإجابات المطلوبة للعيان.
    
١. الخبير لم يكن نصاباً. بل كان خبيراً عالمياً حقاً.
و لكنه مارس مهنته في الغرب فقط.
الأمراض تختلف من دولة و أخرى. هو كان "خبيراً" في الأمراض المستشرية في بلده فقط. من المعروف علمياً أن الأمراض تختلف بطبيعتها و نوعيتها و تركيبتها الوراثية عن البلد العربي الذي عمل فيه. على سبيل المثال في مجال الأمراض المعدية ، الملاريا منتشرة جداً في أفريقيا. و في مجال الغدد الصماء ، داء السكري منتشر جداً في الشرق الأوسط (لا سيما في الكويت).  

٢. الخبير وقت التعيين كان متقاعداً.
بمعنى أنه لم يمارس مهنته منذ زمن طويل.
هذا بالإضافة إلى أنه خلال فترة تقاعده لم يواكب التطورات الحديثة في طرق التشخيص و العلاج في تخصصه. 

٣. الخبير كان خبيراً  في تخصصه الدقيق فقط.
في العصور القديمة كنا نسمع أن العبقري فلان كان خبيراً في الطب و الكيمياء و الفلسفة و الرياضيات. أما الآن نحن نعيش في عصر الإختصاصات المتشعبة الدقيقة. بمعنى أن الإنسان يفني كل عمره في دراسة جزء صغير من تخصص واحد ، أو ما يسمّى بالتخصص الدقيق (Subspecialty). 

في الطب يتخرج الطالب من كلية الطب بمعرفة سطحية عن كل المجالات الطبية. ثم يتخصص في الجراحة العامة مثلاً. ثم في التخصص الدقيق ، جراحة زراعة الأعضاء مثلاً.

في المراكز التخصصية الكُبرى ، الإختصاصي لا يمارس أي مهارة خارج إختصاصه الدقيق و لزمن طويل. لذلك نرى جراح القلب ليس ماهراً في جراحة الزائدة الدودية. و جراح المسالك البولية ليس ماهراً في جراحة العظام. و طبيب النساء و الولادة لا يجيد إستخدام السمّاعة. الصدمة تظهر واضحة عادةً إذا واجه الخبير حالة طبية خارج مجال خبرته.        

البسطاء من الناس يظنون بأن "المتعلّم" يفهم كل شيء. و هذا ما يسمّى "الجدل من منطلق الخبرة" (Argument from authority). على سبيل المثال إذا صرّح الفائز بجائزة نوبل في الفيزياء بأن عصير الليمون أفضل علاج لأمراض القلب ، الناس ستصدّقه و هذه مصيبة. لأن هذا الشخص عبقري في الفيزياء فقط. لكنه ليس طبيباً و لا يفهم في أبحاث أمراض القلب و لا يعرف عن عصير الليمون غير طعمه الحامض.

٤. الخبير كان بطلاً من ورق.
للأسف في الوسط الطبي إلى يومنا هذا ، البحث العلمي هو السبيل الأمثل و الوحيد للوصول إلى الشهرة العالمية. لذلك البعض من الأطباء فضّلوا البحث العلمي على خدمة المرضى. نراهم يقضون معظم وقتهم في المختبرات و المكتبة بدلاً من المستشفى و العيادات.  

ماذا كانت النتيجة؟ أبحاث علمية مثمرة و غزيرة ، في المقابل خبرة طبية ضحلة سببها قلة الإحتكاك بالمرضى. الخبير المتقاعد كان لديه المئات من الأوراق العلمية و الأبحاث الأصلية. لأنه قضى شبابه بين المختبر و المكتبة. 

ما هو موقعنا من هذه المعضلة؟ 
لا نستطيع صرف النظر هنا عن عقلية العالم الثالث التي تمجّد الخبراء الأجانب. لا سيما القادمون من الغرب.
أو ما يسمّى بعقدة العيون الزرقاء. باللهجة الخليجية "عنزة الفريج تحب التيس الغريب". لا أحد يدقق في شهاداتهم و طبيعة إختصاصهم و تقييم ما إذا كانت كفاءاتهم توفّي الإحتياجات و تملأ الفراغ  أم لا. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق