![]() |
الفنان الراحل كاظم القلاف. من مسرحية بيت بوصالح |
أنا أكره الرياضيات منذ صغري وهذا ليس سراً. أكره الرياضيات لضعف قدراتي التحليلية. فأنا لا أستطيع حل المسائل الرياضية ذهنياً بدون الآلة الحاسبة. و لا أفهمها "وهي طايرة" كغيري من الزملاء الموهوبين في أي مسألة رياضية. لكنني أدركت متأخراً جداً (بعد سن الثلاثين) بأن الرياضيات ليست مهمة فحسب ، و إنما هي لغة الكون البحتة بلا منازع. و ما أجملها من لغة. فلا يختلف اثنان على أن المربع له أربعة أضلاع و مجموع زوايا المثلث ١٨٠ درجة و ١+١=٢ من الآن و حتى نهاية الكون.
الجميل في عالم الرياضيات أيضاً بأن الأرقام منطقية يتقبلها العقل. و الأهم من ذلك أنها لا تكذب أبداً. و لكن للأسف ، الناس التي تضع هذه الأرقام تكذب. تحليل بسيط للأرقام يكشف شخصية الذي يستعرضها. والحق يقال: البعض لا يتعمد الكذب ، و إنما يخلق قليلاً من "الدراما" لتجييش العواطف أو لفت الأنظار أو إثارة الإعجاب.
العبارات التالية سمعتها من أفراد على أرض الواقع و دوّنتها.
- أنا أعمل ١٢ ساعة في المستشفى يومياً.
- أنا أمارس الطب منذ ٤٠ سنة.
- نسبة الطلبة النجاحين في هذه الدفعة ٩٠٪. معناها هذه الجهة التعليمية لا تخرّج إلا النوابغ.
- فلان طلع الأول على كل مدارس البلاد بالرغم من "سمعة" تدني مستوى التدريس في مدرسته. هذا معناه بالضرورة أن هذه السمعة افتراء و ليس لها صحة.
- سعر هذه البضاعة خمسة دنانير. ولكنك إذا اشتريت منها حبتين ؛ ستدفع تسعة دنانير (ستوفّر على نفسك دينار واحد).
- إذا سافرتَ على متن خطوطنا الجوية ١٠ رحلات ، التذكرة رقم ١١ ستكون لك مجاناً.
- الشركات العالمية تظلم القوى العاملة في فروعها في الدول الآسيوية. لأن الموظف الهندي في فرع الشركة في الهند يتقاضى دولار واحد في الساعة ، بينما الموظف الأمريكي في أمريكا بنفس المؤهلات يتقاضى ٦ دولارات في الساعة.
لنحلل الأرقام المذكورة أعلاه. ربما نتعلم شيئاً من سلوك الإنسان لم نلاحظه من قبل.
- أنا أعمل ١٢ ساعة في المستشفى يومياً.
هذه العبارة التي بلا شك تثير إعجاب أي طالب طب و تجعله إما منبهراً أو مرعوباً من ما سيواجهه في مستقبله المهني بعد تخرجه من الكلية. لكنني بعدما تخرجت أنا من كلية الطب حلّلت ساعات عمل زميلي الكاروف "أبو ١٢ ساعة في اليوم":
أولها ، يبدأ العمل الرسمي ٧:٣٠ صباحاً و ينتهي ٥:٠٠ مساءاً (٩ ساعات ونصف ، وليس ١٢ ساعة كما زعم).
٧:٣٠ - ٨:٣٠ صباحاً: الساعة الأولى من العمل يقضيها صاحبنا في الإجتماع الصباحي اليومي.
٨:٣٠ -٩:٣٠ صباحاً: الساعة التي تلي الإجتماع يقضيها في الكافيتيريا ليفطر مع زملائه.
٩:٣٠ صباحاً-١٢:٣٠ ظهراً: يمر على المرضى (المرور الصباحي) لمدة ثلاث ساعات ، يقف خلالها مكتوف اليدين فقط ليعطي الأوامر للأطباء الأصغر منه سناً. منهم من يفحص المرضى. و منهم من يملأ الاستمارات و وصفات الأدوية. ومنهم من يكتب ملاحظاته اليومية في الملفات.
١٢:٣٠ ظهراً - ١:٣٠ ظهراً: يحضر صاحبنا محاضرة الظهر (خلالها وجبة غداء)
١:٣٠ ظهراً- ٢:٠٠ ظهراً: صلاة الظهر (متأخرة بسبب العمل "المتعب" طول النهار)
٢:٠٠ ظهراً -٣:٠٠ ظهراً: يبقى في مكتبه لأخذ "غفوة" أو لتخليص بعض الأمور الإدارية العالقة.
٣:٠٠ ظهراً - ٤:٠٠ عصراً: وقت صلاة العصر. الوضوء يستغرق نصف ساعة و الصلاة تستغرق نصف ساعة أخرى!
٤:٠٠ عصراً - ٥:٠٠ عصراً: ساعة اختيارية يستطيع فيها صاحبنا ان يرجع الى بيته أو يقضيها في "سوالف خاثرة" مع بقية الزملاء.
كم ساعة فعلية قضاها صاحبنا في العمل؟ أترك لك الحسبة والإجابة.
- أنا أمارس الطب منذ ٤٠ سنة.
في بداية الجدال ، عندما قالها لي هذا الاستشاري الديناصور في تخصص الطب الباطني بالفم المليان "أربعين سنة" صعقني الرقم. ولكن بعد مناقشة قصيرة استغرقت أقل من عشر دقائق ، اتضحت لي الصورة. هذا الاستشاري العربي الوافد أتى ليعمل في الكويت منذ عشر سنوات. قبلها كان مشواره المهني كالتالي:
٥ سنوات خبرة بعد تخرجه من كلية الطب في مستشفى قديم متهالك بمنطقة نائية في بلده.
٥ سنوات طبيب عام في مستوصف قطاع عام صغير في أحدى المناطق الريفية في بلده.
١٠ سنوات طبيب عام في عيادة خاصة في قرية سعودية صغيرة في منتصف الصحراء.
١٠ سنوات طبيب إداري في مستوصف قطاع عام في الكويت (إداري معناها إداري ، لا يمارس مهنة الطب).
بعد ١٠٠ واسطة و مكالمة هاتفية استطاع الحصول على وظيفة شاغرة في التخصص الباطني. درس خلالها في المنزل (دون الالتحاق ببرنامج تدريبي عملي) و قدّم اختبارات الزمالة البريطانية (MRCP) و نجح فيها بعد المحاولة الخامسة. (يعني رسب ٤ مرات) في فترة دامت ٥ سنوات. في السنوات الخمس التي تلتها ، ترقّى الى مسمى استشاري بالتزكية بسبب النقص الشديد في الاستشاريين آنذاك.
بالمختصر:
٥ سنوات متدرب + ٥ سنوات طبيب مستوصف أرياف +١٠ سنوات مستوصف + ١٠ سنوات إدارة + ١٠ سنوات استشاري باطني بالتزكية بعد النجاح في اختبار منزلي. قارن هذا الطبيب بطبيب أمريكي أمضى ٤٠ سنة من حياته في العمل في مستشفيات هارفارد و ستانفورد. الرقم "٤٠ سنة" بحد ذاته مدهش ، و لكن تحليل الرقم ليس كذلك.
- نسبة الطلبة النجاحين في هذه الدفعة ٩٠٪. المعنى: هذه الجهة التعليمية لا تخرّج إلا النوابغ.
هنا العبث بالنسب المئوية خطير جداً. ذلك لأن الأغلبية الساحقة من عامة الناس تعتمد عليها في اتخاذ القرارات و خصوصاً المصيرية منها. لتفسير الخطورة هنا...
إذا كانت الدفعة الدراسية تتكون عشرة طلاب ، و نجح منهم تسعة ، فنسبة النجاح ٩٠٪.
و إذا كانت الدفعة الدراسية تتكون من ألف طالب ، و نجح منهم ٩٠٠ ، فنسبة النجاح أيضاً ٩٠٪.
في السيناريو الأول
عدد الراسبين: طالب واحد.
بينما في السيناريو الثاني عدد الراسبين مائة طالب.
و في الحالتين النسبة المئوية واحدة.
هذا غير الظروف التي لا تُذكر عادةً مع النسبة المئوية.
في السيناريو الأول: لماذا رسب هذا الطالب الوحيد بالذات؟
ربما كان متفوقاً ولكن أستاذه كان يكرهه شخصياً (و الشخصانية متعرف عليها عند العرب).
و ربما لم يحضر الاختبار لأسباب مرضية ، و ألف احتمال و احتمال آخر.
بينما في السيناريو الثاني: رسوب المائة طالب ربما يكون أكثر دقة في معرفة درجة الصعوبة الفعلية للإختبار.
فكلما زادت الأعداد كلما كانت النسب المئوية أكثر دقة.
- فلان طلع الأول على كل مدارس البلاد بالرغم من "سمعة" تدني مستوى التدريس في مدرسته. هذا معناه بالضرورة أن هذه السمعة افتراء و ليس لها صحة.
حكمة شائعة: مستوى الطالب دائماً يعكس مستوى المعلم.
الواقع: بالرغم من أهمية المعلم ، الطالب "النابغة" متفوق مهما كانت ظروفه صعبة ، حتى إذا كان أستاذه متخلفاً. والطالب الكسول البارد يبقى فاشلاً حتى لو تتلمذَ على يد أفضل المعلمين. الطالب المتوسط مستواه بشكل عام يعكس مستوى أستاذه. طبعاً لكل قاعدة شواذ. و الظروف تختلف من حالة لأخرى ، خصوصاً إذا الطالب النابغة أصبح معلماً فيما بعد !
القصد: مدرسة فاشلة يتخرج منها الأول على الدفعة لا يعكس بالضرورة جودة التعليم ، فربما يكون هذا الطالب نابغة لا يحتاج لمعلم كي ينجح.
- سعر هذه البضاعة خمسة دنانير. ولكنك إذا اشتريت منها حبتين ؛ ستدفع تسعة دنانير. ستوفّر على نفسك دينار واحد.
هذه الخدعة سهل الكشف عنها ، ولكنها للأسف تنطلي على الكثير. لنراجع الرياضيات مرة أخرى:
إذا رغبتَ بشراء بضاعة سعرها ٥ دنانير ، و لست بحاجة لشراء أكثر من حبة واحدة من هذه البضاعة، معناها أن البضاعة ستكلفك ٥ دنانير. إذا أغراك العرض (حبة بخمسة دنانير و حبتين بتسع دنانير) ، معناها ستدفع ٤ دنانير إضافية على حبة أخرى لستَ بحاجة لها من الأساس.
بصياغة أخرى:
شرائك حبة واحدة سيوفر عليك ٤ دنانير.
بينما شرائك حبتين سيوفر عليك دينار واحد ، بالإضافة الى حبة أخرى لستَ بحاجة لها من الأساس.
- إذا سافرتَ على متن خطوطنا الجوية ١٠ رحلات ، التذكرة رقم ١١ نمنحها لك مجاناً.
قيلَ في اللغة الانجليزية "الشيطان يختبيء بين التفاصيل" (The devil is in the details). حكمة كهذه تضرب صميم الإعلانات التجارية. عرض تجاري كهذا مغري جداً بالذات لكثيري السفر و الترحال.
و لكن نظرة واحدة للشروط و الأحكام المطبوعة بخط صغير جداً تحت الهامش يوضّح الصورة.
فالتذكرة "المجانية" المزعومة ما هي إلا لإتجاه واحد فقط (غير مرجعة) و لا تشمل الضرائب و الرسوم.
و ينتهي الحال بالعميل بتوفير ١٠٪ من قيمة التذكرة فقط!
- الشركات العالمية تظلم القوى العاملة في فروعها في الدول الآسيوية. لأن الموظف الهندي في فرع الشركة في الهند يتقاضى دولار واحد في الساعة ، بينما الموظف الأمريكي في أمريكا بنفس المؤهلات يتقاضى ستة دولارات في الساعة.
في الولايات المتحدة الحياة أغلى بكثير من الحياة في الهند.
لذلك الموظف الأمريكي الذي يتقاضى ستة دولارات في الساعة لا يوفر منها شيئا بعد استقطاعات الضرائب و الرسوم و المصروفات النثرية هنا و هناك. ناهيك عن غلاء الطعام و السكن و العقار و خلافه.
بينما في الهند ، الموظف الذي يتقاضى دولارا واحدا في الساعة يعيش ملكا. يستطيع أن يعيش حياة كريمة بهذا المبلغ و يوفر منه ايضا.
فمن هو المظلوم حقا؟ الأمريكي أم الهندي؟
لذلك العمالة الآسيوية دائما أرخص من العمالة المحلية في دول الخليج العربية و لنفس السبب.
فالموظف الكويتي لا يقبل العمل بخمسين أو مائة دينار شهريا.
بينما العامل الآسيوي يرضى بهذا المرتب وهو يضحك.
الخلاصة
- الأرقام بحد ذاتها لا تكذب. و إنما من يضع هذه الأرقام يكذب.
- إبحث في حقيقة الأرقام و لا تنبهر بالعروض قبل التدقيق بين السطور.
- ليس الذكي من يعرف كل الإجابات الصحيحة ، إنما الذكي من يسأل الأسئلة الصحيحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق