في دولة الكويت ، كل ضاحية سكنية فيها "جمعية تعاونية".
الجمعية عبارة عن سوق مركزي كبير لديه فروع صغيرة متفرقة في أحياء الضاحية. الغرض الأساسي من هذا السوق و فروعه بيع التموين و المواد الاستهلاكية للناس بأسعار مخفضة. كل الجمعيات التعاونية تجتمع تحت مظلة "إتحاد الجمعيات" الغرض النظري منه حماية المستهلك بتوفير السلع بأسعار مدعومة.
الجمعية التعاونية (في الضاحية التي ولدت و ترعرعت فيها) ما هي إلا مأساة. ذلك لأن الذي يتسوّق في المجمعات الخاصة مقارنة بالتسوق في جمعيتنا التعاونية يدرك الفرق بين "متعة التسوق" و "الصراع من أجل البقاء"…
- لا توجد مواقف منظمة و مظللة للسيارات بالرغم من وفرتها.
- السلع متراكمة و مرمية هنا و هناك بشكل فوضوي.
- الطوابير عند الكاشير طولها على امتداد البصر.
- الناس تتذابح ، خصوصاً في فترة العروض التسويقية و التنزيلات.
- الناس تتسوّق و تخزن ، كأن البلد في حالة حرب والعياذ بالله.
في بداية حقبة الثمانينات (فترة طفولتي) ، أتذكر مبنى جمعيتنا صغيراً متواضعاً.
كان "مدحت" الكاشير يعمل هناك يومياً منذ الصباح الباكر بلا انقطاع أو إجازة.
و العم "بومشاري"(صديق الوالد) يجلس متكئاً في مكتبه خلف الحاجز الزجاجي في الإدارة ، يمسح على كرشته (رمز النعمة) بين الحين و الآخر. كان مكتبه "ديوانية" غير رسمية للعلاقات الإجتماعية.
رئيس مجلس الإدارة آنذاك كان العم "بو هادي" (عضو مجلس الأمة الحالي).
كنت أصبح و أمسي على العم "فرغلي" أحد الفراشين ، يمسح الأرضيات و يحمل أكياس التسوق إلى سيارات الزبائن. العم فرغلي فلاح مسكين من الصعيد المصري فارق أسرته و أحبابه طلباً للقمة العيش في الكويت. يعمل براتب زهيد يكاد لا يوفر منه شيئاً.
دارت السنوات...
و مقر جمعيتنا التعاونية العتيدة ينتقل بين فترة و أخرى من مبنى فخم إلى مبنى أكبر وأفخم.
مواقف السيارات في اتساع مستمر.
أرباح الجمعية في ازدياد مستمر.
إدارة الجمعية بين الفترة و الأخرى تعلن بالخط العريض عن حصولها على إعتراف المنظمة العالمية الفلانية.
و فوزها بشهادة "الجودة" من المنظمة العلانية.
و بالرغم من كل هذه "الإنجازات"...
إلا أننا في سنة ٢٠١٣ و الجمعية على أرض الواقع لا تزال خدماتها للعميل زبالة.
- مواقف السيارات بالرغم من توسعها إلا ان العثور على موقف لا يزال مهمة مستحيلة.
- و السلع لا تزال متراكمة بشكل فوضوي عشوائي.
- و الطوابير عند الكاشير لا تزال طويلة.
- و الناس لا تزال تتذابح وقت العروض و التنزيلات.
كنت أتساءل: المبنى فاخر و الإمكانيات المادية وفيرة و الحال العام لم يتحسن ، فأين المشكلة؟
المشكلة كانت أمامي طوال الوقت و لم أنتبه إليها.
ففي الثلاثين سنة الماضية ، بالرغم من تطور مباني الجمعية و ملحقاتها ، إلا أن ...
مدحت الكاشير لا يزال في مكانه محاسباً . يرفض استخدام الحاسوب و الباركود.
و إذا سألناه عن رفضه لمواكبة التكنولوجيا ، أشار بسبابته على رأسه قائلاً "مش محتاجين كمبيوتر ، هنا كمبيوتر" (اسم الله عليك).
و العم بومشاري لا يزال متكئاً في مكتبه الفاخر جداً ، يمسح على كرشته خلف الحاجز الزجاجي.
أما العم بوهادي عضو مجلس الأمة الحالي ، رشّح نفسه لمجلس إدارة الجمعية قبل ثلاثين سنة كخطوة أولى في طريقه إلى قاعة عبدالله السالم (مجلس الأمة). تطوير و تحسين خدمات الجمعية من آخر أولوياته.
و العم فرغلي لا يزال يمسح الأرضيات و يحمل أكياس التسوق الى سيارات الزبائن مقابل مائة فلس أو ربع دينار بقشيش بالكثير.
هل اتضحت الصورة الآن؟
- المباني فخمة و فيها إبداع معماري يدهش الناظرين.
- و التكنولوجيا الحديثة موجودة حتى قبل تطبيقها في دول الغرب.
- و السيولة ليست متوفرة فحسب. و إنما تكفي لعشرة أجيال في المستقبل.
- والحالة العامة بالرغم من ذلك ، زفت!
ذلك لأن مدحت و فرغلي و بومشاري و بوهادي لا يزالون في أماكنهم: يا جبل ما يهزك ريح !
- كم من مؤسسات الدولة فيها "مدحت + فرغلي + بومشاري + بوهادي" ولكن تحت أسماء و أشكال و ألقاب أخرى؟
- كم جامعي بعثته الدولة لإكمال دراسته في الغرب و رجع ليصبح "بوهادي"؟
و كم طبيب بعثته الدولة لإكمال دراسته في الغرب و رجع ليجد "مدحت"و "بومشاري" في انتظاره لتطفيشه؟
والسؤال الأهم: متى سنستوعب بأن تطوير العقول (الثروة الحقيقية) أهم من تطوير المباني؟
تنويه: مدحت و فرغلي و بومشاري و بوهادي أسماء مستعارة
و أي تشابه بينها و بين أسماء واقعية هو من محض الصدفة البحتة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق