الاثنين، 21 يناير 2019

مهزلة جامع الطوابع

عشق "حسن" منذ صغره تجميع الطوابع البريدية

شغفه كان بلا حدودإذ وصل إلى درجة طلبه للعمل في مكتب بريد الحي الذي كان يعيش فيه ، بعد تخرجه من المدرسةتراكمَت ألبومات الطوابع البريدية في مكتبة حسن على مر السنين. إلى أن قرّر ذات يوم أن يسأل جيرانه من أبناء الحي إن كان أحدهم يشاركه هذا الشغف. وجد عدداً لا بأس به من أترابه لهم نفس الهواية. فأصبحوا يتجمعون نهاية كل أسبوع في بيت أحدهم لعرض إصدارات الطوابع الجديدة و القديمة و مناقشة أصولها و تاريخ إصدارها و غيرها من التفاصيل التي تهمهم. 

مع مرور الوقت إنتشرت سمعة هذا التجمع الأسبوعي غير الرسمي ، و رغم رفض "حسن" ، تحوّل هذا التجمع إلى نادي محلي رسمي لهواة جمع الطوابع. يستقطب الهواة من كل أنحاء البلاد. ذاع صيت نادي جمع الطوابع خلال شهور و إنتشر كالنار في الحطب الهشيم. عبر الانترنت تواصلت أندية جمع الطوابع الى  الدول المجاورة. ثم الأقاليم. ثم القارات. و أصبح أصحاب "حسن" المؤسّسون للمنظمة الدولية لجمع و تصنيف الطوابع. 

تم فرض رسوم للإِنْضِمام لهذه المنظمة. و المنضمون إليها بالملايين من مختلَف دول العالم. لذلك تم تكوين مجلس إدارة و أمين خزينة من أصحاب "حسن". و بالطبع نصّب أصحاب "حسن" أنفسهم أعضاء دائمون لهذا المجلس. بعد ذلك حدث خلاف بينهم على كيفية تقسيم أرباح المنظمة (من رسوم المشتركين فيها) و التي أصبحت ثروة طائلة تتراكم كل شهر في الخزينة التي لم تسلَم هي الأخرى من إختلاسات أمينها. حاميها حراميها. 

إستفحل الخلاف بين المؤسّسين. الذي تحوّل إلى مشادة كلامية ، ثم تبادل شتائم ، ثم إشتباك بالأيدي. فَتّنَ أحد الأعضاء المؤسسين للمنظمة على أصحابه. طَفَت الفضائح على السطح. إذ كان أعضاء المنظمة (أصحاب "حسن" سابقاً) يدلّعون أنفسهم بأموال المشتركين. مبانٍ شاهقة لمنظمتهم. مكاتب مؤثثة بأفخر الأثاث. قسم للسكرتارية فيه أجمل السكرتيرات. سيارات فاخرة مع سائقيها. تم القبض عليهم و أحيلوا إلى النيابة.

 إنتشرت صور المتهمين في الجرائد و برامج التواصل الاجتماعي. إعترض المشتركون في المنظمة على هذه التجاوزات المالية. طالبوا بمحاسبة المختلسين. و حَل مجلس الإدارة. و تدخل القضاء. و في خضم هذه الفوضى العارمة و الهيصة و الزمبليطة. كان حسن يشاهد أخبارهم من تلفزيون بيته هادئاً متأسفاً. كل ما تمناه من الأساس جمع الطوابع و الاستمتاع بها فقط. 

هذه قصة خيالية رمزية انعكاساتها على أرض الواقع واضحة. هناك ناس يؤسسون جمعيات و منظمات و رابطات و هيئات لكل نشاط. الغرض الأساسي منها نبيل. لكن مع الوقت يتغلغل الفساد في قلوب ضعاف النفوس. فننسى مع الوقت السبب الأساسي الذي من أجله تأسست هذه الأنشطة. 

النابغة الذي لم يقدره أحد

عالِم/أستاذ/نابغة/موهوب عربي يرجع بلده بعد غربة طويلة في الفرنجة. لا يجد التقدير المتوقّع. يحزّم أمتعته و يهاجر الى الفرنجة ليحصل على التقدير الذي يستحقه. و هذا دليل على تخلفنا لعدم تقديرنا لهذه المواهب الشابة و محاربتنا للدماء الجديدة.

هذه القصة... 
قرأناها و عرفنا فحواها مليون مرة. حفظناها عن ظهر قلب. ولكن ...
هناك وجه آخَر مجهول لهذه القصة الشيكسبيرية قليل من يتحدث عنه. 

ألخّصه في هذا السيناريو :
المبتعث عند رجوعه لأرض الوطن يتحدث عن حياته في بلاد الفرنجة و كأنه نازل من الفردوس الأعلى. المدينة الفاضلة. حيث الخير كثير و الناس محترَمة و الحقوق محفوظة و الفساد منقرض و الكل متعايش  مع الكل بحب و سعادة و وئام. يباشر هذا المبتعث مهنته في بلاده. بغض النظر عن شهادته و طبيعة تخصصه. يطالب بتطبيق القوانين الإفرنجية بحذافيرها في بلاده. لأن قوانين بلاده -على حد قوله- غبية متخلفة.  

  يعامل زملاءه -ممن لم يحالفهم حظ الإبتعاث- بتعالي و دونية. لسان حاله يقول "صحيح أنني أفوقكم علماً و خبرة ، و لكني سأنزّل من مقامي فقط لأسايركم و أجاملكم". ثم يثور ، في موجة من الغضب العارم ، إذا لم تتم إزاحة رئيس القسم الحالي فوراً و تعيينه رئيساً جديداً للمكان. كونه خريجاً جديداً و أفكاره الإبداعية ستُحدِث ثورة في سوق العمل. و لا كأن بلده دولة مؤسسات ذات سيادة. و لا كأن هناك قوانين و شروط و "سلّم" في الدرجات و الترقيات و العلاوات يجب ان يرتقيه حاله من حال غيره.

  و في كل خصومة أو عِراك ، يعيد و يزيد في الأسطوانة المشروخة ذاتها: انا تركت الفرنجة بلاد الحضارة و العز و النعيم لأعمل في هذا البلد المتخلف الذي لا يقدّر أبناءه. إذا كانت وظيفته فنّية. طبيب او مهندس مثلاً. يضع قوانينه المفصّلة على راحته و هواه. يفرض بروتوكولاته الخاصة به على بقية الزملاء عنوةً. كأنه و قد أصبح دولة كاملة تجسّدت في إنسان واحد. هذا غير قمعه و تنمّره لكل من يسخر منه أو يتهكّم عليه. 

  في نهاية المطاف، عندما يثور أحد ليوقفه عنده حدّه، حزم أمتعته، و رجع مهاجراً  إلى الفرنجة. بينما زملاءه "يكسرون قُلّة" وراءه من الفرحة. أما إذا بقي هذا المبتعث في منصبه، يظل متربعاً عليه عقوداً طويلة. لا تنحّي و لا تقاعد و لا إستقالة. و يحارب الدماء الجديدة مثلما كان هو يُحارَب وقت توظيفه. أما إذا كان تخصّصه نادراً ، يتمنّن في عمله. و لا يدرّب أحداً على أسرار صنعته التي تعلمها في الفرنجة. 

ليس سراً أن بعض الكفاءات حقاً محارَبة. لا سيما الدماء الجديدة منها. لكن إذا سمعتم عن مظلومية أحدهم ، ربما -فقط ربما-  هناك جانب آخَر  من القصة لا يعرفه الجميع. 

و سلامتكم.