السبت، 8 يونيو 2013

متلازمة البورد الكندي

ظهرت في الأوساط الطبية في دول الخليج العربية في السنوات القليلة الماضية "حالة مرضية" معروفة بمتلازمة البورد الكندي (The Canadian Board Syndrome). ظهرت في البداية لأسباب فكاهية بحتة للسخرية من "بعض" الأطباء الخليجيين (وليس الكل) الذين أتموا دراساتهم العليا في كندا و رجعوا إلى أوطانهم ليرشوا الملح على جروح الخدمات الصحية بدلاً من تضميدها. ذلك لأن عزتهم أخذتهم بالإثم و صدّقوا عقدة الخواجة و حسبوا أنفسهم آلهة على غيرهم من الأطباء. أول من وضع شرح "متلازمة البورد الكندي" على الورق بالتفصيل في إطار كوميدي كان د. جراح الطبيّخ.

متلازمة البورد الكندي ربما تتلخص بالعلامات / الأعراض التالية:
- غرور و تكبّر ليس له مثيل. مع نظرة دونية للزملاء الذين لم يحالفهم الحظ في الذهاب الى كندا.

- تشدّق باللغة الانجليزية و باللكنة الأمريكية خصوصاً.

- أي محادثة تبدأ بعبارة "عندما كنت في كندا".

- عدم الالتزام بساعات العمل في المستشفى كما يجب ، مع التفرغ الكامل للقطاع الخاص.

- الحرص على عدم ارتداء المعطف الأبيض (البالطو الأيض) ، ذلك لأن "الاستشاري" يرتدي بدلة رسمية دون معطف.

- شغل أكبر عدد ممكن من المناصب في نفس الوقت.
مثلاً: رئيس وحدة + رئيس بورد + عضو الهيئة التدريسية بالجامعة. مع "صف" قائمة الشهادات الدراسية و الألقاب تحت اسم الطبيب في الختم (البورد الأمريكي و الكندي. الزمالة الأمريكية و الكندية في التخصصات العامة و الدقيقة و دقيقة-الدقيقة). ذلك لأن كل منصب لديه البدلات المالية الخاصة به. 

- إقناع الغير بأن المهارات الطبية التي اكتسبوها في الخارج (جراحة/مناظير/سونار/قسطرة ..الخ) ليست صعبة ، و إنما مستحيلة. لا يتعلم هذه المهارات غير العباقرة مثلهم فقط. 

- نصيحة للأطباء الصغار بإكمال دراستهم في كندا. حتى لو كان قائل النصيحة هو رئيس البورد المحلّي في تخصصه. 

- كره التدريس بكل أنواعه و على كل المستويات. بالرغم من ذلك يكافح للحصول على منصب أكاديمي في الجامعة و يطالب ببدل التدريس من وزارة الصحة!


من واقع خبرتي المتواضعة خلال السنوات العشر الماضية ، متلازمة البورد الكندي ، أو "كاناديان بورد سيندروم" ، تسمية خاطئة (misnomer).

لا علاقة لهذه التسمية بأمريكا الشمالية أو الغرب بشكل عام و ذلك للأسباب التالية:
١. كثير من الأطباء الذين "يعانون" من هذه الحالة ، لديهم أعراض الحالة وعلاماتها أساساً حتى قبل سفرهم إلى كندا.

بل و منهم من لم يعبر المحيط الأطلسي في حياته. أعراض المتلازمة لديهم كانت واضحة منذ أيام دراستهم في كليّة الطب.  

٢. "المتلازمة" بحد ذاتها ما هي إلا انعكاس لعقدة نقص بشكل عام و عقدة الأجنبي (عقدة الخواجة) بشكل خاص.
متأصلة في شخصية الطبيب. هناك أطباء عرب تدرّبوا في الغرب و تخلّدت أسماؤهم و إنجازاتهم تاريخياً و على مستوى عالمي و هم على أرض الواقع في قمة التواضع و دماثة الخلق.  

٣. أعراض متلازمة البورد الكندي ما هي إلا صفات شرقية قديمة لا علاقة لها بالغرب. فالعرب بالذات معروفين أكثر من غيرهم بحبّهم الأزلي للتفاخر بالأنساب و الأصل و المال و القوة و النفوذ و المناصب. حب التفاخر "بالمؤهلات الدراسية" لا يختلف في هذا السياق. مثلما يقول المثل "اللي عمره ما تبخّر ، تبخّر و إحترق". 

٤. نظرية دوننغ-كروغر (Dunning–Kruger effect): تنص هذه النظرية على أن الأفراد ذوي المهارات المتوسطة عادةً ما يبالغون في تقدير أنفسهم و مهاراتهم. كل فرد يظن نفسه أذكى و أفضل و أمهر مما هو عليه في الواقع. 

الذي يتخرج من دول الغرب يعتبر نفسه أبرز من غيره. ناسياً اننا في عصر الانترنت ، حيث الواحد منا يتسطيع تأكيد أي معلومة يسمعها خلال ثوانٍ من غوغل. 

٥. النسبة و التناسب.
مما لا شك فيه أن النجاح و التفوق مسألة نسبية. الخدعة في الموضوع أن القليل يعي هذه المسألة. فالشخص الذي يبلغ طوله ١٥٠ سنتيمتر و يعيش في قرية أقزام ، يرى نفسه "عملاقاً" بينهم و لكنه في الواقع ليس كذلك. نفس المبدأ في أسرة كل أبناؤها فاشلون في الدراسة ، ما عدا واحداً فقط منهم استطاع أن يدخل الجامعة ، ليرى نفسه "إلهاً" بين إخوته. 

نظام الخدمة الصحية في الكويت سيء ومتعثر لأسباب كثيرة. لذلك الطبيب المتدرب في كندا يرى نفسه وكأن على رأسه "ريشة" مقارنة بهؤلاء المتدربين محلياً. حتى لو كان هذا المتدرب من كندا من أغبى مخلوقات الله. 

٦. حان وقت قطف الثمار.
دراسة الطب طويلة و مضنية ، كلها كفاح و سهر (للدراسة أو لعلاج المرضى على حد سواء) و ربحها المادي على المدى البعيد غير مجزي مقارنة بمجالات أخرى مثل "الفن" و البورصة و تجارة العقارات و غيرها. 
دراسة الطب سبع سنوات. تليها سنة الامتياز. بعد ذلك ست إلى سبع سنوات في كندا. المجموع بالمتوسط ١٥ سنة دراسة. هذا اذا لم يتعطل الطبيب و لم يرسب أو يتأخر خلال هذا المشوار. لذلك عند رجوعه من كندا يحرص على حصد أكبر كمية من الأموال في أقصر فترة و أقل مجهود. 
   
الخلاصة.
١. مثلما يقال في البحث العلمي: التصادف لا يعني السببية (Correlation is not causation).
فالطبيب المغرور المتعالي المتخرج من كندا ، نفسه المريضة ليس لها علاقة بالغرب

٢. القاعدة العامة تشير الى أن العلاقة بين العلم و الغرور علاقة عكسية.
بمعنى أن الغرور يضمحل كلما زاد العلم ، و التكبر يقل كلما زادت الخبرة.  
قال تشارلز داروين "الجهل يزيد الثقة بالنفس". 
و قال شيكسبير "الغبي يرى نفسه حكيماً. بينما الحكيم يرى نفسه غبياً". 

في الختام أتذكر الذي قاله لي أحد زملائي الاستشاريين الكنديين بخصوص هذه المتلازمة: نحن ندربهم. نحن لا نربّيهم! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق