مع تطور الطب الحديث ، ازدادت شعبية "الطب البديل" ، الذي أصبح يوازي في شعبيته الطب الحديث ، و لكنه لا يوازي الأخير في مصداقيته. و مع تطور وسائل التواصل عن طريق الانترنت على مستوى العالم عبر مواقع عديدة مثل الفيس بوك و تويتر و غيرها ، انتهز ضعاف النفوس الفرصة و سوّقوا ما يُسمى بالطب البديل الذي يعتمد على "الغذاء و الطبيعة" في العلاج بدلاً من "الكيماويات و السموم" التي "ابتلانا" بها الطب الحديث.
الغرض من هذا المقال المتواضع وضع النقاط على الحروف بما يخص أوجه الفرق والتشابه بين "الطبّين" الحديث و البديل ، مستعيناً في ذلك الحقائق العلمية الموثقة في كتب الطب، كوني طبيباً ذو خبرة متواضعة تزيد قليلاً على العشر سنوات. قد يحاربني الكثير من أنصار الطب البديل و يصفونني بالحاسد أو المتكبر. و لكنني غرضي من هذا المقال تنوير الناس الذين يلحقون السراب و يظنون انه ماء. الغرض من هذا المقال تعليمهم بأن ليس كل ما يلمع ذهباً.
"الحزاية" ضد "الدراسة"
الحزاية باللهجة العربية الخليجية القديمة هي القصة الكلاسيكية الشيّقة التي تُروى للأطفال قبل النوم عادةً على لسان الوالدين أو عميد الأسرة ، و تتناقلها الأجيال. عندما تستمع الى قصص المرضى الذين "شفاهم" الطب البديل ، ترى طريقة السرد تشبه الحزاية الى حد كبير ، وعادةً ما تبدأ القصة بهذه الجملة "بعد تشخيص مرضي ، عجزَ عن علاجي الأطباء المحليين ، و عندما سافرتُ الى أوروبا و أمريكا قالوا لي الخبراء هناك بأن مرضي نادر و لم يروا مثله من قبل".
المشكلة في "الحزاية" انها تنتقل "شفوياً" بين الناس ، و كل شخص يسمعها يضيف إليها بهاراته الخاصة ، و بعد ان تتناقلها عدة ألسنة عبر الزمن ، تجد الحزاية التي تصل اليك تختلف كثيراً عن الحزاية الأصلية! الحزاية باللغة الانجليزية تسمى "anecdotal evidence".
أما في الطب الحديث ، فهناك موضة حديثة العهد اسمها "الطب المبني على الدليل" (Evidence Based Medicine) مفادها ان كل دواء أو تدخل جراحي أو ظاهرة علمية جديدة تعتبر لاغية مالم يتم فحصها بدقة بالدراسات العلمية الموثّقة و الصارمة و المُعتَمَدة دولياً. الأمر الذي قد يزعج بعض أساتذة الطب من الأجيال السابقة.
فإذا قال "البروفيسور" فلان: من خبرتي ... ، نقاطعه نحن قبل إتمام جملته و نرد عليه "لا تروي لنا خبرتك، فهي لا تهمنا بقدر أهمية الدليل العلمي ، قل لنا ما هو دليلك العلمي".
"الرواية" ضد "الدراسة"
مما لا شك فيه أن الطب الغربي الحديث قد تأسسَ على يد العلماء المسلمين الأوائل مثل ابن سينا و الرازي و جابر بن حيان و غيرهم من العمالقة الذين يشهد لهم التاريخ. ولكن يجب علينا هنا الايقان أيضاً بأن هؤلاء العظماء وضعوا الأسس ، و الغرب بنى علومه و طوّرها على هذه الأسس.
لذلك من الغباء أن نترك الطب الحديث في عصرنا الحالي و نستشهد بروايات لإبن سينا مرت عليها قرون عدة! و لا يغيظني أكثر من دعاية تلفزيونية لعسل طبيعي أو أعشاب و يعلق عليها المذيع بهذه الجملة "حسب الفوائد المذكورة في كتاب ابن سينا". هل تصدق حقائق علمية اجتهد فيها شخص قبل عدة قرون؟
بينما في دراسات الطب الحديث ، كل دراسة حديثة تُنْشَر نتائجها في الصحف العلمية ، يضعها النقّاد تحت المجهر (peer review) و يحللونها بالأرقام لمعرفة درجة دقتها و ميزاتها و عيوبها و أمانة الطبيب الذي نقلها ومصداقية المستشفى التي جرت فيه هذه الدراسة. و الطبيب الباحث يعلم علم اليقين بأن نظريته قابلة للنقض ، ذلك لأن العلوم بطبيعتها تتطور و تتحور و تتغير بشكل لا نهائي. فالحقيقة العلمية الصحيحة اليوم ربما تصبح خاطئة غداً.
"التعصب" ضد "الدراسة"
العلماء وَرثَة الأنبياء - حديث شريف
من طبيعة الناس مقاومة التغيير ، خصوصاً اذا كان هذا التغيير يضر مصالحهم الشخصية. و من يتمعن في قراءة القرآن الكريم يعلم بأن الأنبياء و الرسل و أولياء الله الصالحين كانوا محارَبين و مضطَهدين في كل زمان و مكان. و ربما العلماء ورَثوا من الأنبياء هذه المعاناة ، لأن الناس تقاوم أي نظرية علمية حديثة قد تضر مصالحهم أو تعاكس معتقداتهم و تعصّبهم.
الطب البديل و جائزة نوبل
جائزة نوبل تُمنَح في عدة مجالات منها مجال الطب. أي طبيب يخترع علاجاً ثورياً أو يكتشف العلة من مرض معيّن وبهذا الاختراع/الاكتشاف يغير وجه البشرية ، يستحق جائزة نوبل في الطب. و بالرغم من ذلك ، أي اكتشاف أو اختراع طبي ثوري عالمي يتم البحث و التمحيص فيه و لايُمنَح الطبيب الجائزة إلا بعد سنوات طويلة.
قصة باري مارشال و روبن وارن
كان د. مارشال طبيباً في أستراليا ، اقترح سنة ١٩٨٢ بأن قرحة المعدة سببها بكتيريا. طبعاً لاقت نظريته الكثير من المعارضين ، ذلك لأن الاعتقاد آنذاك بأن القرحة المعدية سببها الضغوط النفسية. بعد الكثير من البحوث و الدراسات ، أثبت "مارشال" و زميله "وارن" بأن القرحة سببها بكتيريا اسمها "هليكوباكتر پايلوراي" و علاج القرحة يتم بالقضاء على هذه البكتيريا بالمضادات الحيوية. هذا الاكتشاف العظيم جعلهم يفوزون بجائزة نوبل سنة ٢٠٠٥ ، بعد ٢٣ سنة من طرح نظريتهم !
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: اذا كان الطب البديل بهذه القوة والفعالية التي تفوق الطب الحديث ، لماذا لم يفز أطباء الطب البديل بجوائز نوبل في الطب؟ و إذا كانت الأدوية الثورية من الممكن ان تنتجها الشركات الدوائية و تربح من ورائها أمولاً طائلة ، فلماذا لم يتم تسويق بول البعير مثلاً (أعزّكم الله)؟ بول البعير المعروف بين التاس بفوائده لعلاج الأمراض!
الطب البديل ضد الأطباء الحمير.
ربما أحد الأسباب الرئيسية للجوء العامة من الناس الى الطب البديل هو سلوك الطبيب الحمار. (مقالة سابقة شرحت الاستشاري الحمار في المدونة). و بالطبيب الحمار أعني هذا المغرور المتكبر الذي يحقّر المرضى و يعاملهم على انهم "مجرد حالات" ، لا يستمع الى شكواهم بالكامل ، و يعمد الى "كَرْوَتَة" العمل و التخلص من المريض بأي طريقة ممكنة. عندها يصبح المريض فريسة سهلة "لأساتذة" الطب البديل بلسانهم المعسول و كلامهم المنمّق الجذّاب.
أحد المصائب النابعة من سلوك الأطباء الحمير ان الطبيب لا يشرح بالتفصيل كيفية تناول الدواء بالطريقة الصحيحة ، فإذا لم يظهر المفعول المطلوب للدواء ، لجأ المريض الى الطب البديل و "استشار" أصحابه في الديوانية ، ذلك لأن المريض اليائس يتعلق بأي أمل ، حتى لو كان أملاً كاذباً.
للإحصائيات وجهان.
الطب الحديث لديه ميزة (و هذه "الميزة" تعتَبَر "عيباً" عند البعض): وهي "الصراحة المفرطة". فالأطباء عندما يتحدثون مع المرضى عن علاج أو عملية جراحية ، فهناك مضاعفات و أعراض جانبية و نسبة نجاح و نسبة فشل و نسبة خطورة. الطب الحديث لا يوجَد فيه "سحر".
وهنا يأتي دور الاحصائيات. ففي الطب الحديث تشير الدراسات ان الدواء الفلاني فعّال بنسبة ٨٠٪ و الأعراض الجانبية تظهر في ١٠٪ من المرضى. و العملية الجراحية الفلانية خطر الوفاة فيها ٥٪ و مضاعفاتها بعد العملية ١٠٪.
بمعنى آخر ، الطب الحديث يُظهِر لنا الوجه الآخر من الاحصائيات ، الوجه الذي لا يظهره الطب البديل.
هل كان تشخيصك الأولي صحيحاً؟
قبل أن تصرّح بأن الطب البديل عالج أمراضك أو أنقذ حياتك ، اسأل نفسك ما إذا كان تشخيصك الأساسي صحيحاً أم لا ، فربما كانَ طبيبك يعالج مرضاً غير الذي تشكو منه. لذلك في الطب الحديث، من الحق الشرعي للمريض أن يطلب رأياً آخر لطبيب آخر (second opinion) إذا لم يكن مقتنعاً بتشخيص طبيبه الأول.
هل كان مرضك بطبيعته محدود الفترة؟
حقيقة علمية: في طب الأطفال أمراض تظهر في الطفولة و تزول تدريجياً عندما يكبر الطفل، مثل بعض أنواع الربو و الصرع. فإذا سمعت أحدهم يقول بأن الطب البديل "عالج ابنه" ، إسأل نفسك: هل كان المرض سيزول من نفسه تلقائياً دون الحاجة إلى علاج؟
نفس الوضع ينطبق على بعض الأمراض المعدية الفيروسية (مثل الانفلونزا) التي بطبيعتها تستمر لفترة محدودة وتزول تلقائياً دون علاج.
هل سمعتَ عن ظاهرة تأثير الدواء المزيّف (Placebo Effect)؟
في الدراسات العلمية لأي دواء جديد ، يضع الباحثون موضوع مهم في الحسبان ألا وهو التأثير النفسي للدواء على المرضى بدون التأثير الفعلي. الدواء المزيف يسمّى "بلاسيبو" (Placebo) وهو يشبه الدواء الأصلي بالشكل واللون والطعم ، ولكنه مجرد مستحضر فارغ ذو نكهة. يتناوله المريض و "يظن" بأنه قد تحسن وفي الواقع لم تتغيّر حالته.
فمالذي يضمن لنا بأن الطب البديل ليس إلا بلاسيبو ؟
الطب البديل ضد الاختيار الطبيعي
الطب البديل له أسماء عديدة ، منها الطب العربي و الطب الشعبي.
من أشهر تصريحات أنصار الطب البديل تنص على أن "الطب الشعبي أفضل والدليل أن أجدادنا كانوا بصحة أفضل من صحة الجيل الحالي" و أن "الطب الحديث تسبّب في انتشار الأمراض في الجيل الحالي".
هذا الكلام هراء و السبب بسيط وواضح. إسأل أي شخص مسن عاصَرَ دول الخليج العربية خلال حقبة ما قبل النفط ، كان الشخص في تلك الأيام ينجب عشرة أولاد مثلاً ، و يموت منهم خمسة في سن الطفولة ، والذي يموت منهم يُدفَن في الحال و الناس تصلي وتترحّم عليه ، دون التحقيق في أسباب الوفاة و عدم وجود "طب شرعي" في تلك الحقبة. والأولاد الخمسة الباقون من ذريته لديهم المناعة و البنية الجسدية و الجينات الوراثية التي تجعلها تتحمّل الظروف الجوية القاسية في شبه الجزيرة العربية.
هذا ما يُسمّى في علم الأحياء بظاهرة "الاختيار الطبيعي" (Natural selection) فالكائن الحي الذي يعيش و يتكاثر هو من يملك الصفات المناسبة للعيش في بيئته ، أما الكائن الضعيف فيموت و ينقرض دون أن يتكاثر. وهنا أتى دور الطب الحديث ، فالتقدم الطبي أطال أعمار الناس والتكنولوجيا الحديثة حولت الأمراض المميتة الى أمراض بسيطة مزمنة يمكن علاجها بسهولة.
على سبيل المثال لا الحصر:
- قبل اكتشاف هرمون الانسولين ، كان تشخيص مرض السكر بمثابة حكم بالإعدام.
- و قبل اكتشاف المضاد الحيوي ، كان أي التهاب بكتيري يليه الموت الحتمي أو الإعاقة الدائمة.
- و قبل تطور جراحة العظام ، كان أي كسر في العظام يجعل الشخص معاقاً مدى الحياة.
- و قبل تطور طب القلب ، العديد من أمراض القلب كانت مميتة لا محالة. و الجدير بالذكر بأن هناك أمراضاً وراثية في القلب تسبب الموت الفجأة (sudden cardiac death) ، التطور في تشخيص و علاج هذه الأمراض أطال أعمار الناس و قلل من حدوث الموت الفجأة.
وهنا تظهر المعضلة ، فمع تطور الطب الحديث ، مريض السكر يعيش و يتكاثر ، ومريض القلب يعيش و يتكاثر ، و أي انسان ضعيف كان يموت و ينقرض في السابق ، الآن يستطيع أن يعيش حياته الطبيعية و يتكاثر. هذا معناه أن الطب الحديث أطال أعمار الناس و رفع جودة الحياة. ففي الماضي السحيق ، بغض النظر عن انواع الطب البديل ، كان البقاء للأقوى (أو الأنسب) و لا حياة لضعيف البنية.
من أين تأتي أدوية الطب الحديث؟ المنطقة الرمادية بين الطب البديل و الحديث
أنصار الطب البديل يسوّقون لمنتجاتهم على انها "طبيعية" ١٠٠٪. الحقيقة التي لا يعرفها الكثير من الناس هي أن الكثير من أدوية الطب الحديث مشتقة من الطبيعة (من منتجات حيوانية و نباتية). و ربما أشهر هذه الأدوية هو الأسبرين، المستخرج من خشب شجر الصفصاف (Willow bark).
الأدوية و المنتجات التالية ، للمثال لا للحصر ، تُستَخدَم في الطب الحديث و قد أثبتت فعاليتها:
- الديجوكسين: من أقدم الأدوية لعلاج أمراض القلب ، مستخلص من نبتة الفوكس-غلوف (Foxglove).
- البنسلين: أول مضاد حيوي لعلاج الأمراض البكتيرية ، مستخلص من فطر البنيسيليوم.
- السيكلوسبورين: الدواء الذي أحدث ثورة في علم زراعة الأعضاء ، مستخلص من الطحالب البحرية.
- الإبتيفيباتايد: أحد الأدوية المهمة المستخدمة في جلطة القلب و الذبحة الصدرية، و مستخلص من سم الأفاعي!!
- صمامات القلب الخنزيرية و البقرية: صمامات قلب الخنزير تشبه في شكلها و تكوينها صمامات قلب الانسان ، لذلك يتم زراعتها في قلب الانسان في حال تلف صمامات القلب. أما الصمام البقري فيتم "تصميمه و تصنيعه" من الغشاء الخارجي لقلب البقرة و يُزرَع بعد ذلك في قلب الانسان. من الناحية الشرعية هناك فتوى تجيز زراعة صمامات الحيوانات في البشر لأنها مسألة انقاذ أرواح بشر.
- الانسولين الحيواني: لسنين طويلة كان مرضى السكر يتعالجون بهرمون الانسولين المستخرج من الخنازير لأنه مشابه في تركيبه الجزيئي لهرمون الانسولين الآدمي الى حد كبير ، ولكنه كان يسبب "حساسية" لدى بعض المرضى. أما الآن ، فالانسولين الحديث هو انسولين آدمي مصنّع و مطوّر جينياً في المختبرات ، مفعوله مماثل ١٠٠٪ لمفعول الانسولين الآدمي.
وفي الطب البديل ، من الجهة الأخرى ، بعض المنتجات "الطبيعية" تضاف اليها منتجات "صناعية" لإيهام المرضى المساكين بأن الدواء الطبيعي فعّال. و ربما أشهر مثال على ذلك العسل "المطعّم" بالكورتيزون ، فالمريض الذي يشكو من أمراض علاجها الكورتيزون (الربو أو الروماتيزم مثلاً) تراه "يتحسّن" بعد تناوله هذا النوع من العسل. هذا ليس طباً بديلاً ، و انما هو للأسف "نصبٌ بديل".
الإنسانية ضد الرأسمالية
الأطباء ليسوا ملائكة ، فإذا كان هناك عاملاً مشتركاً بين الطب الحديث و البديل ، فهو بلا شك المصلحة المالية من وراء بيع الأدوية. بعض شركات الأدوية العالمية تتدخل لتحريف و تحوير الدراسات العلمية تحت الطاولة كي يتسنى لها بيع أكبر كمية ممكنة من منتجاتها الدوائية.
فعلى سبيل المثال ، اذا أشارت دراسة معيّنة الى ان الدواء الفلاني يجب تناوله لمدة سنة واحدة فقط لعلاج المرض الفلاني ، شركات الأدوية تضغط على الأطباء لاستخدام هذا الدواء لمدة أطول من سنة و لأسباب واضحة. و تصل العقلية التجارية لبعض الشركات الدوائية إلى مرحلة تمويل الدراسة العلمية كلها من الألف الى الياء ، وبذلك تكون الشركة قادرة على تحوير نتائج هذه الدراسات لصالحها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق