"في أوروبا والدول المتقدمة..." عبارة كوميدية قيلت في الفيلم العربي "الإرهاب والكباب" نستخدمها في بداية حديثنا عندما ننتقد أي ظاهرة سلبية تزعجنا في العالم الثالث بشكل عام أو في الكويت بشكل خاص. طبعاً هناك تعديلات بسيطة على هذه العبارة حسب من يرددها و حسب الظروف المحيطة. فالطبيب المتخرج من كندا يقول "لما كنت في كندا" والمهندس خريج أمريكا يقول "إحنا لما كنا بأمريكا" و هلم جرا.
ولكن قبل أن نقارن أنفسنا بالغرب ونتمنى الهجرة الى الغرب والعيش هناك "للأبد" ، لنضع نمط الحياة الغربي تحت المجهر ونقارنه بنمط حياتنا عن قرب. لنرى بعد قليل من التحليل والفرضيات و الأسئلة ما إذا كنا (و أنا أولهم) مستعدون لتبني نمط الحياة الغربي.
أولاً وقبل كل شيء: الغربيون ليسوا ملائكة أو شياطين.
الغربيون بشر مثلنا. الفرق بيننا و بينهم أنهم بالمحاولة و الخطأ طوّروا أنفسهم ببطء شديد ، فأوروبا تخبطت في فترة ظلام فكري دامس لأكثر من ألف عام (العصور الوسطى). بعد الثورة الصناعية ، انطحنت دول الغرب في حربين عالميتين تخللتهما ثورات سياسية و فكرية كالشيوعية و النازية والفاشية وغيرها أثرت توابعها على العالم بأسره.
أدرك الغرب بعد قرون طويلة من التجارب المؤلمة بأنهم دون أخلاقيات ثابتة كالصدق و الأمانة و التفاني واحترام حقوق الغير والتواضع والقيادة بالقدوة ، لن تصمد حضارتهم طويلاً أمام تحديات العصر و عقباته المتجددة. بمعنى آخر ، الغرب وصل لمستواه الأخلاقي بصعوبة خرافية.
أخلاقيات الغرب تنعكس على نتائجهم ، فالمنتوجات الغربية مرغوبة (من الإبرة إلى الطائرة النفاثة) و الشهادات العلمية من جامعات الغرب مقدسة ، والسياحة في بلدانهم كأنها زيارة لجنّة الفردوس. وإذا مرض أحد أحبابنا فالعلاج في مستشفيات الغرب يأتي كأول إختيار في قائمة الرغبات. لكن روعة هذه الأخلاقيات لها ثمن لسنا مستعدون لدفعه بعد.
سهولة التجنيس في الغرب
يتضايق "البعض" من إخواننا العرب المقيمون في الكويت لعدة أجيال لعدم حصولهم على الجنسية الكويتية ، بينما الحصول على الجنسية الأمريكية أو الكندية في المقابل أسهل بكثير. الذي لا يعرفه الكثير (و يتجاهله الكثير) من الناس أن الكويت دولة "ريعية" ، بمعنى أن الدولة توزع أرباح مبيعات النفط الوفيرة على الشعب دون ضرائب ، مع ضمان مجانية التعليم و الرعاية الصحية.
بينما في الغرب تصل ضريبة دخل الأفراد في بعض الدول الى خمسين بالمائة ! بمعنى أن المواطن "يصرف على الدولة" نصف مرتبه، والضرائب لا تعتق أو تستثني أحداً (المساواة في الظلم عدالة). بينما في الكويت ، الدولة تصرف على المواطن. لنركز هنا على نقطة مهمة و هي أن الضرائب تختلف عن استقطاع التأمينات الاجتماعية. فالتأمينات الاجتماعية مصيرها سترجع للفرد بعد التقاعد ، أما الضريبة فتذهب في اتجاه واحد دون رجعة.
لنكن صادقين ولو للحظة و نسأل أنفسنا سؤالين:
١. دولة الكويت في حقبة ما قبل النفط لم يرغب فيها غير أهلها ، فمالذي جعل الوافدون يتهافتون على العيش فيها بعد النفط؟
٢. إذا كانت الدول الغربية تصرف على مواطنيها مثلما تصرف الكويت على مواطنيها ، هل سيكون التجنيس في الغرب سهلاً؟
في العمل : عندما تكون المنافسة مستحيلة.
عند الغرب ، يعتمد معيار التوظيف على الكفاءة ، و الكفاءة فقط.
بمعنى آخر ، لا يعتمد التوظيف على الجنسية أو المحسوبية أو الدين أو المذهب أو الأصل أو القبيلة أو لون البشرة. و هذه "المشكلة" يعاني منها الغربيون أنفسهم في بلدانهم. فالموظف الآسيوي في دول الغرب مغترب بعيد عن أهله و أحبابه ، لذلك فهو لا يمانع العمل ٢٠ ساعة في اليوم دون راحة أو إجازات. و ليس ذلك فحسب ، هو أيضاً مستعد أن يتقاضى أدنى أجرة دون مساومة ، ذلك لأن لسان حاله يقول "مهما كان وضعي سيئاً هنا، وضعي في بلدي أسوأ". بينما المواطن الغربي في بلده لديه بيئته الاجتماعية الخاصة به و يريد أن يستمتع بحياته خارج نطاق العمل. لذلك لا يستطيع الغربي أن ينافس الوافد في عدد ساعات العمل.
تخيل الآن لو كان معيار التوظيف في الكويت (في القطاعين العام والخاص) يعتمد على الكفاءة فقط. معناها أن نسبة بطالة المواطنين في البلد ستصل الى ٩٠ بالمائة. ذلك لأن المواطن الكويتي الاجتماعي لا يستطيع منافسة الوافد (المغترب الوحداني) في ساعات العمل و جودة الانتاج. و الوافد مستعد أن يستلم ربع أو نصف راتب الموظف الكويتي بضعف ساعات العمل !
قانون الأجرة الأدنى الموحد (Minimum Wage).
كل من عاش في الغرب يعرف هذا القانون الذي ينص على أن الموظف أياً كانت وظيفته ، يجب أن لا يقل راتبه عن مبلغ معين في الساعة. عندما كنت طالبا للطب في ايرلندا في فترة التسعينات (قبل إصدار عملة اليورو) كانت الأجرة الأدنى آنذاك خمسة جنيهات ايرلندية في الساعة.
بمعنى: ٨ ساعات عمل في اليوم = ٤٠ جنيه ايرلندي في اليوم.
بمعنى: ٥ أيام عمل في الأسبوع = ٢٠٠ جنيه ايرلندي.
بمعنى: ٨٠٠ جنيه ايرلندي شهرياً. أي أن أقل مرتب لا يقل عن ٨٠٠ جنيه ايرلندي شهرياً (تقريباً ٤٠٠ دينار كويتي).
سؤال: ماذا لو تم فرض قانون الأجرة الأدنى في الكويت؟ و كانت الأجرة الأدنى تعادل خمسة دنانير في الساعة؟ هل يستطيع المواطن الكويتي استقدام خادمة ويدفع لها ٨٠٠ دينار شهرياً؟ هذا على اعتبار أن الخادمة تعمل ٨ ساعات يومياً فقط و خمسة أيام في الأسبوع. الخدم في الكويت يعملون لساعات طويلة و في بعض الأحيان بدون راحة أسبوعية. فكم يا ترى سيكون راتبهم؟
الخدمة الصحية
الولايات المتحدة بالرغم من ريادتها في الغرب على عدة مستويات ، إلا أنها تقدم أسوأ خدمة صحية مقارنة في نظيراتها في الغرب. ذلك لأنها تعتمد على التأمين الصحي وكلاً من القطاع الخاص و الدولة لا يغطيان هؤلاء الذين لايملكون تأميناً صحياً. بينما دول غربية أخرى توفر رعاية صحية شاملة و ممتازة لكل من يسكن على أرضها من مواطنين و مقيمين. لكن في المقابل الشعب "غارق" في الضرائب لتغطية تكاليف الرعاية الصحية للجميع.
أسعار المحروقات
في الغرب ، حتى في الدول الغربية النفطية ، أسعار المحروقات باهظة جداً (بنزين/كيروسين/غاز طبيعي). لذلك كلما كان استهلاك الوقود أقل كلما كان أفضل لميزانية المستهلك. بمعنى: قيادة الدراجة النارية أرخص من السيارة. و ربما استخدام وسائل النقل العام (باص/مترو الأنفاق/قطار) أرخص بكثير من السيارة و الدراجة.
في الغرب ، لا أحد فوق القانون.
عبارة "لا أحد فوق القانون" ربما تكون جميلة المسمع و راقية و مثالية. ربما نكتبها بحروف من ذهب و نضعها في إطار و نعلقها على الحائط. لكن هذه العبارة ليست محدودة في أروقة المحاكم لتشمل القوانين الجنائية و المدنية فحسب ، بل تشمل جوانب أخرى ربما لا تستسيغها عقليات العالم الثالث ، منها الآتي:
تضارب المصالح (Conflict of Interest)
السيناريو الأول: إبن عميد كلية الفيزياء يتخصص في علم الفيزياء و يدرس في نفس الكلية التي يترأسها والده. لا ينجح في كل الاختبارات فحسب ، بل و يتفوق أيضاً. و نحن العرب نقول "سبحان الله ، صحيح ابن الوز عوّام!!"
السيناريو الثاني: لاعب الكاراتيه يفوز بالمركز الأول في بطولة الإقليم للكاراتيه ، علماً بأن أخاه الأكبر كان رئيساً للجنة التحكيم في البطولة نفسها.
السيناريو الثالث: إبنة عمدة المدينة فازت بلقب ملكة جمال المدينة.
السيناريوهات الثلاثة سابقة الذكر لو حدثت في الغرب لأثارت الكثير من الجدل و التساؤلات ، و ربما سحبت الناس المعنيين إلى الاستجواب العلني و التحقيق بسبب شبهة تضارب المصالح.
فإبن عميد الكلية حتى لو كان فعلاً "آينشتاين زمانه" في الفيزياء ، وجوده في كلية أبيه يثير إحتمالية حصوله مسبقاً على أسئلة الإختبارات.
و لاعب الكاراتيه حتى لو كان "بروس لي" زمانه ، وجود أخاه في لجنة التحكيم يثير إحتمالية العبث في النتائج النهائية.
و إبنة عمدة المدينة حتى لو كانت أجمل بنت في المدينة بكل المعايير ، منصب والدها يثير إحتمالية تورطه في ترغيب أو ترهيب أو رشوة لجنة التحكيم.
القيادة بالقدوة (Leadership by Example).
هذا المبدأ مرفوض عند العالم الثالث بشكل جذري غير قابل للمساومة. في الغرب لا يجرؤ الأب المدخن إرغام إبنه البالغ على قطع التدخين و لأسباب واضحة. نفس المبدأ في كل جوانب الحياة. في الغرب ربما يرفض الموظف المنصب القيادي لأنه يعلم بأن القيادة تكليف لا تشريف. بينما في العالم الثالث تتهافت الناس على المناصب القيادية لأن القائد فوق القانون.
المعايير الموحدة (Standardization)
مثال: أي طبيب يرغب بالعمل في الولايات المتحدة عليه أن يقدم اختبار الرخصة الطبية (USMLE) وهذا الاختبار مفروض على الجميع بلا استثناء بغض النظر عن الجنسية أو الجامعة. سواء كان الطبيب متخرج من جامعة هارفارد أو من جامعة جزر الواق واق فالجميع عليهم النجاح في هذا الاختبار.
إختبارات "تجديد" الشهادة (Recertification)
العلم في تحديث مستمر. و الإكتشافات و الاختراعات العلمية ظاهرة شبه يومية في شتى المجالات. بلا شك أن الحقائق العلمية الراسخة اليوم ربما تصبح باطلة ملغية في المستقبل.
لذلك في الولايات المتحدة على سبيل المثال ، الطبيب الذي ينجح في إختباراته في تخصص معين و يحصل بعدها على "شهادة التخصص" في هذا المجال ، شهادته سارية المفعول لفترة عشر سنوات فقط. عليه أن يعيد تقديم نفس الاختبار مرة كل عشر سنوات إذا كان راغباً في تجديد رخصته الطبية. معنى ذلك بأن عليه إبقاء نفسه قارئاً ملماً بآخر التطورات الطبية في تخصصه.
إختبارات تجديدالرخصة فرض على جميع الأطباء بلا مراعاة أو إستثناء. بمعنى أنك من الطبيعي جداً لو صادفت ثلاثة أطباء يدرسون معاً (دراسة جماعية) لاختبارات شهادة التخصص ، أولهم "شاب يافع" سيقدم الاختبارات للمرة الأولى ، و ثانيهم "رجل ناضج" سيقدم اختبار تجديد الشهادة للمرة الثانية (بمعنى: اختباره الأول كان منذ عشر سنوات) ، و ثالثهم "شيخ هرِم" سيقدم اختبار تجديد الرخصة للمرة الرابعة (بمعنى: اختباره الأول كان منذ ثلاثين عاماً).
بينما في عالمنا العربي ، الطبيب "المخضرم الأحفورة" أنهى اختباراته في حقبة الحملة الفرنسية على مصر. لم يقدم أي اختبارات في تخصصه بعد ذلك. ولا أحد يجرؤ على مصارحته بأن بمعلوماته الطبية لاغية وتحتاج الى تحديث في عصرنا هذا.
الخلاصة: السيناريو الافتراضي النهائي
تخيل الآن و بعد الطرح السابق لو عاش المواطن الكويتي الحياة الغربية بتفاصيلها في بلده الكويت.
- الكويتي و الوافد لهما نفس الفرص الوظيفية و نفس الراتب في القطاعين الحكومي و الخاص.
- الخادمة/السائق/الطباخ..الخ يجب أن لا تقل مرتباتهم عن خمسة دنانير في الساعة.
- ضريبة الدخل ربما تستقطع نصف معاش الموظف الكويتي.
- بسبب غلاء أسعار المحروقات ، الكويتي يقتصد في مصروفات مواصلاته. و يركب الباص بدل السيارة إذا أمكن.
- المواطن و المقيم سواسية تحت القانون والتعليم والرعاية الصحية. لا للإستثناءات على كل المستويات.
- الطبيب الكويتي يعيد تقديم اختبارات تجديد رخصته للعمل في الكويت مرة كل عشر سنوات.
- الوافد المتقدم لطلب الجنسية الكويتية يحصل عليها بعد ثلاث سنوات إذا كان مستوفياً للشروط.
كم مواطن كويتي يرضى بنمط حياة كهذا؟ هذا هو سؤال المليون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق