قبل بضع سنوات باشرت العمل في مستشفى راقٍ في قلب عاصمة بلاد الواقواق. إستدعاني فريق الطواريء في الساعة الأولى من اليوم الأول. ذلك لوصول مريض يصرخ من الألم بسبب ذبحة صدرية حادة. ركضت الى غرفة غرفة الطواريء (ER) و وصلت خلال دقائق. بعدما شخّصت العلّة و و قمت باللازم و حولت المريض الى العناية المركّزة ، إستقبلوني أطباء الطواريء بحفاوة مبالَغ فيها.
إستغرَبت و سألتُ أحدهم ...
تعال يا بو الشباب. أنا مجرد إستشاري. أديت وظيفتي كما يجب. لا أنا رئيسك و لا أنا صاحب المستشفى و لا لي سُلطة عليك. "القلب" إختصاصي و شغفي. من ضرورة عملي التواجد الفوري عند الحاجة. لأن الأزمات القلبية لا تحتمل التأجيل. فلمَ هذا الترحيب الحار؟
قال طبيب الطواريء "انت يا دكتور أول طبيب يستجيب لنا بهذه السرعة و يأتي فوراً. غيرك من يصرخ علينا و يجادلنا كلما استدعيناه و يقدم إستشاراته لنا عبر الهاتف. و يبتكر أي عذر كي لا يأتي لرؤية الحالة المعنية".
استغربت من كلامه. المعروف أن كل "حِرفة" لها شروط خاصة تليق بطبيعتها. لذلك تشترط كل حرفة "شخصية" معينة. الذي يختار تخصص "القلب" عليه ان يكون نشطاً متحمساً مستعداً لأي طاريء و في أي لحظة. دقائق قليلة ممكن فيها الفرق بين الصحة و الإعاقة. الفرق بين الحياة و الموت. فلماذا الذي يختار مهنة متعبة كالقلب ، يطالب بعد ذلك بالراحة؟
إسترجَعت شريط ذكرياتي ...
علمني أبي منذ طفولتي "يا ولدي ، اللي بالأولي لاعب ، بالتالي تاعب".
(الذي يتعب في البداية سيجد الراحة في النهاية).
عندما كنت أستعد لإختبارات الثانوية العامة كنت أردّد لنفسي
"متى أتخلص من الدراسة الثانوية لأدخل كلية الطب و أرتاح؟"
و مرت سبع سنوات عجاف. قضيتها بين الدراسة و المحاضرات و أجنحة المستشفيات و التحضير للإختبارات.
و قبل الإختبارات النهائية في كل سنة كنت أسأل نفسي ...
"متى تنتهي كلية الطب لأرتاح؟"
و بعد تخرجي إستمرّيت في الدراسة و التحضير لبورد الأمراض الباطنية. هذا غير مهنتي المتعبة و مناوباتي الليلية المضنية (الخفارات). و بعد البورد مريت بزمالة القلب ، و بعد ذلك الزمالة التخصصية لقسطرة القلب. البورد ٤ سنوات. و الزمالة ٣ سنوات. و الزمالة التخصصية سنة واحدة. ثمان سنوات دراسات عليا بعد سنوات الطب السبع. و في نهاية كل عام كنت أسأل نفسي السؤال ذاته: متى أخلّص و أرتاح؟
"الراحة"
الهدف الذي يسعى إليه كل إنسان مجتهد و في دراسة الطب.
مهنة الطب التي تشترط تفرغاً كاملاً ، يطارد فيها الطبيب شبح الراحة أمامه و كأنه سراب. يلهث وراءه الظمآن يحسبه ماء.
"حب الراحة" و البحث عنها أينما كانت يفسر ظواهر عديدة. منها عندما نرى الأول على دفعته في كلية الطب ينتهي به الأمر طبيب عائلة في مستوصف يتيم صغير محدود في منطقة نائية. أو الذي يتحول من الطب الإكلينيكي إلى إدارة المستشفيات لأنه سئِمَ الخفارات المتعبة.
لا ضرر في إختيارات الأطباء لتخصصاتهم. فهذا حقهم المشروع. كل شخص يرتب أولوياته حسب ظروفه الخاصة و طموحه. ليست المشكلة هنا. المشكلة الكبرى في من يختار تخصص صعب و متعب ، و يطالب بحياة مريحة هادئة هانئة.
مثلاً...
ساعات العمل في تخصص الأمراض الجلدية مريحة نسبياً. و الربح المادي فيها مجزي. بينما تخصص القلب متعب. لأن الأزمات القلبية لا تظهر إلا في الساعات المتأخرة من الليل. و الربح المادي ضئيل بالمقارنة. المصيبة في طبيب القلب الذي يرغب في العمل كطبيب الجلدية.
الراحة في الطب مسألة نسبية جداً. أياً كان التخصص الطبي ، فالتعب مستمر. لأن خدمة المريض تتطلب مجهود و بال طويل في الدوام الصباحي و الخفارات. و دراسة الطب تتطلب مجهود. و تحديث المعلومات الطبية يتطلب مجهود مستمر مدى الحياة. هذه هي "الحبكة" التي لم ينبهني عليها أحد في بداية المهنة.
الفكرة لها علاقة بالحياة عموماً و بالطب خصوصاً: الراحة مغرية و لا خلاف على ذلك. و لا أحد يرفض الراحة (محّد يعاف الراحة). و لكن لها عواقب يجب الإلتفات إليها.
١. الممارسة سر الإتقان (Practice makes perfect).
هل سمعتَ عن بطل العالم -في أي رياضة- يتمرّن ساعة واحدة كل شهر ليدافع عن لقبه؟
هل سمعتَ عن طبّاخ محترِف يدخل المطبخ مرة واحدة في السنة؟
هل سمعتَ عن شخص قرأ عن السباحة و أصبح خبيراً فيها دون أن يرمي نفسه في الماء؟
هل تستطيع إجادة لغة دون التحدّث بها و ممارستها قراءة و كتابة؟
كذلك في الطب. خبرة الطبيب "تنمو" قليلاً مع كل مريض يقابله في العيادة. في التخصصات التي تتطلب مهارة يدوية مثل الجراحة أو القسطرة أو المناظير ، يحاول الطبيب المحافظة على "أرقامه" (numbers). المقصود "بالأرقام" عدد العمليات التي يمارسها الطبيب في السنة. من في نظرك الطبيب الأفضل: الذي يجري ألف عملية في الشهر؟ أم الذي يجري عشر عمليات في السنة؟ تتضح هذه الخبرة في سرعة و كفاءة الأداء. عملية جراحية معينة يجريها جراح في عشرين دقيقة. بينما العملية نفسها يجريها جراح آخر في ساعتين.
وضع الأطباء يشابه الى حد بعيد وضع الطيّارين. الطيّار المدني يتم تقييمه بعدة معايير ، منها عدد ساعات الطيران. الكابتن الذي خبرته ثلاث آلاف ساعة طيران غير الكابتن الذي خبرته ٢٠٠ ساعة مثلاً.
البرامج التدريبية الطبية الحديثة (البورد و الزمالة) الفكرة منها تكثيف مادة التدريب في أقل فترة ممكنة لتخريج طبيب متمكن من عمله و مستعد لإتخاذ القرار بسرعة و ثقة خصوصاً في الحالات الحرجة. لذلك أنا أستغرب من الأطباء المتدربين الذين يطالبون دائماً بالراحة خلال فترة تدريبهم. مقارنين أنفسهم بزملائهم غير المنضمين لأي بورد و وظيفتهم "محلك سِر" بنفس المسمى و نفس الراتب.
البرامج التدريبية الطبية الحديثة (البورد و الزمالة) الفكرة منها تكثيف مادة التدريب في أقل فترة ممكنة لتخريج طبيب متمكن من عمله و مستعد لإتخاذ القرار بسرعة و ثقة خصوصاً في الحالات الحرجة. لذلك أنا أستغرب من الأطباء المتدربين الذين يطالبون دائماً بالراحة خلال فترة تدريبهم. مقارنين أنفسهم بزملائهم غير المنضمين لأي بورد و وظيفتهم "محلك سِر" بنفس المسمى و نفس الراتب.
٢. إعمل تنمو . إرتاح و إنسى.
الشرط في المهارات المكتسبة عند البشر الممارسة المستمرة و إلا كان مصيرها النسيان. أو كما يقال بالانجليزية "use it or lose it". المهارات تتطوّر مع الممارسة. و تضمحل تدريجياً مع غياب الممارسة. بمعنى آخر: الراحة تضرك إذا إعتمدتها نمطاً لحياتك. لا ضير في طلب إجازة دورية بين الحين و الآخر. أو تستمتع بعطلة نهاية الأسبوع. لكن عندما تقضي وقتك كله مرتاحاً متكئاً؟ فهذه مصيبة.
الترقية في الواق واق تعني بالضرورة "عملاً أقل" مع كل ترقية. بمعنى أن طبيب الواق واق يقل عمله و تقل مسئولياته تدريجياً مع كل ترقية. و بالتالي تضمحل خبرته و كفاءته يوماً بعد يوم. لذلك في بعض الأحيان الطبيب المتدرب في البورد يفهم في عمله أكثر من رئيسه! و هنا تأتي ظاهرة البروفيسور الإفرنجي المرتاح.
البروفيسور الإفرنجي المرتاح.
أعلنت وزارة الصحة الواقواقية عن تعيين بروفيسور "عالمي" من بلاد الفرنجة في تخصص معين بهدف الحد من إرسال المرضى للعلاج في الخارج في هذا التخصص.
يأتي البروفيسور و يباشر عمله. و لا يزال إرسال المرضى للعلاج في الخارج مستمراً على نفس الوتيرة و بنفس المعدل. لماذا؟ لأن هذا البروفيسور الإفرنجي هو في الواقع كان في الأصل وافداً من دولة نامية. وُلِدَ و ترعرع في الواقواق. و بعد الثانوية هاجر إلى الفرنجة و عاد الى الواقواق بعد ما يقارب العشرين سنة ؛ حاملاً معه الجنسية الافرنجية ؛ مع حزمة من الشهادات العالمية.
البروفيسور حقيقي. و شهاداته حقيقية. و شهرته حقاً عالمية بشهادة الجميع. لكنه رجع بلاد الواقواق لغايةٍ في نفسه. لأنه عارف "نظام العمل" و خباياه. هو لم يأتِ الواقواق بعد غيابٍ طويل للعمل. و إنما لأنه تعب في بلاد الفرنجة و "يبي يرتاح" كجزء من خطته التقاعدية في الواقواق.
لذلك هو يتفادى أي حالة صعبة في تخصصه و يحوّلها للعلاج في الخارج. بعد فترة زمنية وجيزة تضمحل خبرة هذا البروفيسور "العالمي" للأسباب المذكورة سابقاً. و كأنك يا بو زيد ما غزيت.
الواقواقي المرتاح-الزعلان
المواطنون الواقواقيون من حَمَلة البورد الإفرنجي يعترضون على إستقدام البروفيسور الإفرنجي العالمي و يعارضون ظاهرة العلاج في الخارج أيضاً و حجتهم أنهم "قدها و قدود". العلاج في الخارج يجرح كبرياءهم و يقلل من هيبة مؤهلاتهم الدراسية.
كلامهم صحيح. هم بالفعل قدها و قدود ؛ الكثير منهم أثبتوا أنفسهم في بلاد الفرنجة و بجدارة. لكن الأغلبية منهم بعدما رجعوا البلاد أخذوا مناصب عليا و "أعفوا" أنفسهم من متابعة مرضاهم و الخفارات الشاقة و رموها على عاتق الطبيب الوافد. بينما هم تفرغوا للبحث العلمي و قص الأشرطة في إفتتاح الفعاليات و المناسبات الرسمية و المقابلات التلفزيونية. لا عيب في نمط حياة كهذا. لكنه يُفقِدهم المهارات الطبية التي تغرّبوا أصلاً لإكتسابها. بالتالي ليس من حقهم الإعتراض.
بعض الواقواقيون عاشوا في الفرنجة سنين طويلة. لكنهم بعدما رجعوا بلادهم صارت لغتهم الإفرنجية ضعيفة ركيكة مثيرة للسخرية. ذلك لأنهم لم يمارسونها بعد تخرجهم من هناك.
من جهة أخرى ، الأطباء الوافدون في الواقواق يأتون بشكل رئيسي من دول فقيرة نامية ذات كثافة سكانية عالية و مستشفيات مزدحمة. لذلك الطبيب هناك يكتسب خبرة هائلة في مدة زمنية قياسية. لأنه يعالج كماً هائلاً من المرضى. بعضهم أتى للعمل في الواقواق أصلاً طلباً للراحة لأنه في بلاده عليه أن يعمل في وظيفتين أو حتى ثلاث وظائف لكسب قوت يومه (دوام مستشفى عام + دوام مستشفى خاص + دوام عيادة خاصة). بينما في الواقواق الوافد يعمل في وظيفة واحدة مريحة و مدخولها الشهري له مجزياً بعد صرف العملة.
لذلك إذا رغبت في "الراحة" فهذا من حقك. طالما أنك تتحمل العواقب. و بالعواقب أقصد إضمحلال الخبرة و الكفاءة. فأنت لا تستطيع الحفاظ على "لياقتك" دون تمرين و ممارسة. العمل في بيئة مريحة تشجع على الكسل هو بحد ذاته تحدٍ كبير أمام الطبيب النشيط المتحمّس ، كونه المسكين يحاول السباحة عكس التيار و يحمل السلّم بالعرض.
مهما كنتَ طبيباً عبقرياً أو ذكياً. حتى لو كنت فطحل زمانك. إذا لم تمارس مهنتك بكثافة و إستمرار ، ستفقد "عبقريتك" حتماً.
مهما كنتَ طبيباً عبقرياً أو ذكياً. حتى لو كنت فطحل زمانك. إذا لم تمارس مهنتك بكثافة و إستمرار ، ستفقد "عبقريتك" حتماً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق