رجع الكويت مغبوناً حزيناً. مفتقداً رائحة و سحر أمريكا. عندما دخل البيت رمى "الدشداشة" جانباً و أصبح لا يرتدي إلا القميص و البنطلون. صار لا يعرّف عن نفسه إلا بإسمه الحرَكي "جو" (Joe).
إذا تحدث باللغة العربية ، بين كل عبارة و عبارة تقفز كلمة إنجليزية. بينما إذا تحدث باللغة الانجليزية ، لوى لسانه باللكنة الأمريكية متعمداً. فمادة التشريح "أناتومي" ينطقها "أنارومي". و لكن إذا إنتبهت إلى لسانه الإفرنجي الملتوي بتمعّن ، ستلاحظ كثرة الأخطاء النحوية فيه. يعني وايد بدليّات.
كل أجهزته الكهربائية و الالكترونية تعمل بكهرباء أمريكا ١١٠ ڤولت. و القابس الكهربائي (البلاك) فيها ذو رأسين بمواصفات أمريكية. إذا تحدث عن المسافات و الأوزان ، تكلم بالبوصة و الميل و الرطل بدلاً من المتر و السنتيمتر و الكيلوغرام. و في وصف درجات الحرارة ، تكلم بالفهرنهايت بدلاً من المئوية.
![]() |
القابس الكهربائي ذو الرأسين المناسب لمواصفات كهرباء أمريكا |
إذا تسوّق لتموين البيت اليومي، لا يشتري غير المواد الغذائية المستوردة من أمريكا. والتي هي بالطبع أغلى بكثير من المواد الاستهلاكية المحليّة. أما إذا أراد شراء سلعة ما ، طلبها من موقع أمازون بمواصفات أمريكية لتصل إلى صندوق بريده في أمريكا. لأنه لا يشتري شيئاً من الأسواق المحلية.
سيارته الأمريكية مستوردة من أمريكا بمواصفات أمريكية. لا يشتريها من الوكالة المحلية بمواصفات خليجية. لا يشتري إلا السيارات الأمريكية بالرغم من تفوق السيارات الأوروبية و اليابانية في المتانة و الفخامة و الأداء. حتى في توفير الوقود.
في الرياضة يتابع مباريات البيسبول و دوري كرة السلة الأمريكية. في السياسة يتابع انتخابات الكونغرس و مناظرات الرئاسة الأمريكية. في الإقتصاد لا يتابع غير البورصة الأمريكية "وول ستريت" (wall street). في السينما و التلفزيون لا يتابع غير أفلام و مسلسلات هوليوود.
كلما رأى ظاهرة مزعجة في الشارع. كلما تضايق من البيروقراطية في الدوائر الحكومية. و في كل صيف كلما ارتفعت درجة حرارة الجو إلى الأربعينات. ردّد الأسطوانة المشروخة: "في أمريكا هذا الشي ما يصير".
ينصح القاصي و الداني للدراسة في أمريكا. أبناءه رضعوا عشق أمريكا من أباهم و كلهم سافروا للدراسة هناك. و كلما رأى شيئاً ذكّره في أمريكا ، شهق و قال لأهله "إدفنوني في أمريكا عندما أموت".
نصل إلى هنا و نقول "نقطة نظام"... إشفيك يا بوالشباب؟ إيشعلامك؟
إسمك "جويعد" و ليس "جو". أنت كويتي الجنسية. أمك و أبوك كويتيون و كانوا من "أهل جبلة" أصلاً. ولِدتَ و ترعرعتَ في شرق. درستَ من أولى روضة و حتى الثانوية العامة في مدارس المرقاب. كُنتَ من مشجعي نادي القادسية. تلعب كرة قدم مع ربعك. حمّود و عبُّود و علاوي في الفريج كل يوم العصر بعد المدارس. فطورك المفضل شوربة "آش" و غداؤك المفضل مجبوس دجاج و تتعشى روبة كاملة الدسم من كي دي دي.
سفرك إلى أمريكا كان للدراسة فقط في السبعينات. عشتَ فيها خمس سنوات للحصول على البكالوريوس. رجعتَ أرض الوطن قبل بناء أبراج الكويت بقليل. نحن في سنة ٢٠١٦ و أنت حتى الآن عايش دور "الأمريكي"؟ إصحَ من حلمك. فهو مجرد حلم.
حياتك كانت هانئة في أمريكا لأن راتبك من السفارة الكويتية كان يصلك بالبريد كل شهر خالياً من الضرائب. لم تعش نمط حياة المواطن الأمريكي على حقيقته. حصلتَ على بعثتك الدراسية بدرجاتك في الثانوية العامة فقط. لم تكافح للحصول عليها. لم تغسل السيارات. لم تعمل جرسوناً في المطاعم لتوفير قوت يومك و تصرف على دراستك كما يفعل الأمريكان. الله يعز ديرتنا بس.
تشتكي من حرارة الجو في الكويت لأنك عشتَ في الولايات الامريكية الشمالية الشرقية ذات الجو المعتدل. لم تجرِّب الولايات الجنوبية - فلوريدا و تكساس- فيها من الحرارة و الرطوبة و البعوض و العَرَق و العفونة الشيء الكثير!
تحليل
إدمان أمريكا الذي يعيشه جويعد أتفهمه جيداً. كوني أنا أيضاً مدمن سابق لأمريكا. الإدمان له علاقة بفن التسويق. فالتاجر الناجح يبيع كل بضاعته. بينما التاجر الموهوب هو من يملك "زبالة" و يقنعك أنها "ذَهَب". و اذا كانت البضاعة ذَهَباً فهناك دائماً من يشتريها مهما كان ثمنها غالياً.
لذلك يبقى كل من سافر إلى أمريكا مسحوراً متيّماً بها. يتمنى الرجوع إليها متى سنحت له الفرصة. يضعها في باله وجهةً للهجرة كلما ضاقت به الدنيا في بلده. و هذا أمر طبيعي. ينبهر المسافر لأمريكا في الوهلة الأولى بالتقنية المتطورة و أخلاق عامة الناس هناك.
وصل هذا الإدمان عند البعض إلى درجات متطرفة. فمثلاً أستاذ جامعة بدرجة "بروفيسور" في بلده. بكل هيبته و مكانته و وقاره. مستعد لترك حياته الكريمة و يهاجر أمريكا ليمسح الأرضيات في المطاعم و المقاهي في سبيل الحصول على الجنسية الأمريكية. يرى حفنة من المهاجرين الذين نجحوا في أمريكا و هو يريد تكرار نفس السحر. مثله في ذلك مثل الذي يشتري تذكرة اليانصيب آملاً كل الأمل في الفوز بالملايين وقت السحب على الجوائز مثلما حدث للبعض من الفائزين.
مدمن أمريكا يجهل (أو يتجاهل) الوجه الآخر منها:
الضرائب نار. الوقود نار.
أجرة الأيدي العاملة نار(خدَم-سباكة-نجارة-حدادة..الخ).
فواتير على كل صغيرة و كبيرة نار.
حتى إذا هرب الأمريكي من الضرائب للعمل خارج أمريكا ، فقانون الضريبة الخارجية "فاتكا" (FATCA) لن يعتقه. وهو قانون جديد يفرض على الأمريكان المغتربين الإفصاح عن أرباحهم خارج أمريكا. الأمر الذي دفع الكثير من الأمريكان مزدوجي الجنسية خارج البلاد التنازل عن جنسيتهم الأمريكية كي لا يدفعوا هذه الضرائب.
حلم الجيش الأمريكي
الخدمة العسكرية الإلزامية أُلغِيَت بعد حرب فيتنام. لكن الجيش الأمريكي يعرض فرص وظيفية مغرية و بعثات دراسية كثيرة. خصوصاً للفقراء و من لم يحالفهم الحظ في الدراسة. لذلك المواطن الأمريكي يلتحق بالجيش راغباً في الإمتيازات الكثيرة الممنوحة له. لكن في المقابل ، هذه خدمة عسكرية. بمعنى أنه من الممكن إستدعاؤه في أي لحظة لمهمة عسكرية في أي بقعة على وجه الأرض. و إذا سافر فمن الوارد جداً أن يموت هناك أو ماهو أسوأ: يرجع بلاده بإعاقة أو إصابة جسيمة. الأمريكان يعرفون ذلك جيداً. يعرفون أن كل شيء في هذه الدنيا يأتي بثمن.
حتى إذا هرب الأمريكي من الضرائب للعمل خارج أمريكا ، فقانون الضريبة الخارجية "فاتكا" (FATCA) لن يعتقه. وهو قانون جديد يفرض على الأمريكان المغتربين الإفصاح عن أرباحهم خارج أمريكا. الأمر الذي دفع الكثير من الأمريكان مزدوجي الجنسية خارج البلاد التنازل عن جنسيتهم الأمريكية كي لا يدفعوا هذه الضرائب.
حلم الجيش الأمريكي
الخدمة العسكرية الإلزامية أُلغِيَت بعد حرب فيتنام. لكن الجيش الأمريكي يعرض فرص وظيفية مغرية و بعثات دراسية كثيرة. خصوصاً للفقراء و من لم يحالفهم الحظ في الدراسة. لذلك المواطن الأمريكي يلتحق بالجيش راغباً في الإمتيازات الكثيرة الممنوحة له. لكن في المقابل ، هذه خدمة عسكرية. بمعنى أنه من الممكن إستدعاؤه في أي لحظة لمهمة عسكرية في أي بقعة على وجه الأرض. و إذا سافر فمن الوارد جداً أن يموت هناك أو ماهو أسوأ: يرجع بلاده بإعاقة أو إصابة جسيمة. الأمريكان يعرفون ذلك جيداً. يعرفون أن كل شيء في هذه الدنيا يأتي بثمن.
يريد الطبيب وظيفة في أمريكا؟
يدفع أموالاً طائلة على إختبارات الرخصة و إستمارات البورد و الزمالة. بعض الاختبارات لا بد من تقديمها على أرض أمريكا. و هذا معناه تذاكر سفر و إقامة في فنادق. بعد كل ذلك ، الوظيفة غير مضمونة لثلاث أسباب: المنافسة الشديدة و شح الوظائف و أولوية التوظيف لأبناء البلد. كل تكاليف الرسوم و الإختبارات هذه "خفية". تستنزف الجيب بهدوء. تدريجياً. حبّة حبّة.
في الكويت قابلت أطباء مخضرمين في الطب. بارعين في تخصصاتهم. هاجروا أمريكا و قبلوا بوظائف في أمريكا أقل من مؤهلاتهم بكثير ، مثلاً "فني أشعة" أو "تمريض" أملاً في الجنسية. ما هذا الإدمان؟
آلية التأمينات الاجتماعية هناك ليست شاملة و موحّدة و كريمة كما هي في الكويت. بمعنى لا يوجد سن موحّد للتقاعد. عادي جداً في أمريكا أن نرى عامل نظافة في السبعينات من عمره يسحب وراءه أكياس القمامة السوداء ببطء و ضَعف من المحل ليلقيها خارجاً. أليس الأحرى برجل من عمره التقاعد و الراحة؟
آلية المصروفات في أمريكا لا يعيها المواطن الكويتي لأنها غير مألوفة لديه.
في الكويت مثلاً:
التطعيم مجاني. الكشف الصحي قبل المدرسة مجاني.
دخول المستشفيات الحكومية مجاني للمواطنين و برسوم رمزية للمقيمين.
المدارس مجانية. و البعثات الدراسية مجانية.
هناك علاوة في الراتب على كل مولود...الخ.
الكويتي حتى عندما يموت ، يُدفَن مجاناً في الصليبيخات.
بينما المواطن الأمريكي يدفع كل هذه المصروفات من جيبه. حتى تكاليف الجنازة و التابوت! الولايات المتحدة فيها أسوأ نظام رعاية صحية بين الدول الصناعية مقارنة في دول أخرى مثل بريطانيا و فرنسا و كندا.
أينما تجد المال تجد القرار.
ركز في هذه العبارة جيداً لأنها تصلح لكل زمان و مكان. المال هو صانع القرار.
اذا كنت تتضايق من مظاهر التخلف في الكويت.
فأعلم أن معهد "ديسكڤري" في أمريكا مؤسسة رأسمالها ملايين الدولارات ، يعلم تلاميذه أن عمر كوكب الأرض ستة آلاف عام. و أن الإنسان عاصَر الديناصورات و تفاهات أخرى مماثلة. لأن المموّلين لهذا المعهد أثرياء من التيار المسيحي المحافظ المتشدّد.
تظن ان بعض الساسة عندنا أجلاف لا يتقنون مهارات الخطابة؟
هل شاهدت خطابات دونالد ترمب أو جورج بوش الإبن عندما كان رئيساً.
و سؤال المليون لك يا أخي جويعد.
إذا أنت "ميّت" على أمريكا لهذه الدرجة. فلماذا رجعت؟ لِمَ لم تبق هناك؟
تنويه:
"جويعد" شخصية إفتراضية من نسيج خيالي. أي تشابه بينها و بين أي "جويعد" حقيقي هو بمحض الصدفة البحتة.