الخميس، 22 سبتمبر 2016

الحب: دراسة تحليلية

القصة الأولى: مشعل و سعد.
بعدما أنجَبَتْ أم مشعل بكرها "مشعل" ، دخلت في فترة من العُقم مجهول السبب لسنين طويلة. إلى أن أنجبت ولدها الثاني  "سعد" الذي وُلِدَ بعد عشر سنوات من ولادتها الأولى. توفي زوجها "أبو مشعل" في حادث سيارة بعد ولادة سعد بأيام. و كرّسَت أم مشعل حياتها لتربية إبنيها.  

كَبُرَ سعد. و كونه كان في المهد وقت وفاة أبيه ، و بحكم فارق السن الكبير بينه و بين أخيه. كان مشعل يمثل "الأب" بالنسبة لسعد. حَرَصَتْ أم مشعل على تعزيز أواصر الأخوّة بين إبنيها. فمنذ مراهقة مشعل ، كلما خرج ليلعب كرة القدم مع أبناء الحي ،  كانت ترغمه أمه لأخذ سعد ليلعب معهم. و كلما أبدى مشعل إمتعاضه من أوامر والدته المفروضة عليه عنوة ، ردّدت عبارتها المعتادة "هذا أخوكعضيدك. ملحك إذا خِست". 

 "التمليح" طريقة معتمدة لحفظ بعض الأغذية من الفساد. "ملحك اذا خِست" مقولة خليجية كلاسيكية ترسّخ أهمية الأخوّة وقت الأزمات. مشعل لم يكن مقتنعاً أبداً بعبارة "الملح" هذه. لكنه إعتاد على سماعها منذ صغره. إلى أن صار يردّدها هو نفسه لاحقاً لأخاه الأصغر لا إرادياً. كانت هذه العبارة تثلج صدر سعد. حتى لو لم يكن مشعل يعنيها من قلبه. أخاه سعد في المقابل لم يكن من عشاق كرة القدم. لكنه كان يتطلع لكل مباراة مع أبناء الحي ، فقط ليظفر بقبول و إستحسان أخاه الأكبر

دارت السنوات. و بالرغم من تخرج مشعل من الجامعة المحلية بشهادة البكالوريوس. إلا أن سعد تفوّق أكاديمياً على أخاه الأكبر بمراحل. كان سعد ناهلاً  للعلم و بشراهة. حصد الشهادات و الجوائز التقديرية واحدة تلو الأخرى. من البكالوريوس حتى الماجستير. و منها إلى الدكتوراه. و منها الى دكتوراه أخرى في مجال آخر. كل شهادة و جائزة حاز عليها سعد كانت من جامعة غربية عريقة. و في كل مرة ، كان سعد يدعو أخاه الأكبر لحضور حفل التخرج. و هذا الأخير كان يعتذر

غير تفوّقه الدراسي ، كان سعد أيضاً أديباً موهوباً و عاشقاً لعزف الموسيقى الكلاسيكية. يده التي يكتب بها رواياته و أشعاره هي نفسها التي تعزف على مفاتيح البيانو أعذب المقطوعات الموسيقية. كان سعد يدعو أخاه الوحيد إلى حفلات الأوركسترا التي كان يشارك بها. و كان مشعل دائماً يعتذر عن الحضور.  

مع كل "إعتذارفي كل مناسبة ، يشغل مشعل أسطوانة "الأعذار" المشروخة التي سَئِمَ سعد من سماعها. حتى أنه أطلق عليها "أسطوانة أعذار مشعل": 
"ما عندي وقت"
"ما عندي فلوس"
"أنا أساساً ما أحب السفر"
"عندي فوبيا من الطيارات
"لا تزعل يا خوي سعد. فأنا أحبك. إنتَ في النهاية أخي عضيدي و ملحي إذا خِست

بعد سنوات طويلة من الغربة ، رجع سعد إلى أرض الوطن و إستقر فيها عند بلوغه الأربعين. تفاجأ بأن بعض أبناء و بنات أخاه مشعل قد تزوجوا و أنجبوا. و عمّهم الوحيد سعد كان آخر من يعلم. لم يكن سعد مستعداً معنوياً لقطيعة مشعل المستمرة له. إذ كان يتعمّد إلتماس العذر لأخاه الوحيد كلما خيّب آماله

في هذه المرة كان تبرير مشعل ...
"ما عزمناك ياخوي يا سعد على أفراح العيال لأن إحنا أصلاً في كل مرة ما نسوي عرس. بس حفلة صغيرة. لا تزعل ياخوي يا سعد. أنا أحبك. إنتَ في النهاية أخوي و عضيدي و ملحي إذا خِست". 

 كان مشعل قد كبر في السن و بنى لنفسه "حَمولة". 
أصبح "جَدّاً" له شعبية و قاعدة جماهيرية عريضة بين أفراد عائلته الذي أصبح عميداً لها. مخضرماً بين الأحفاد و الأسباط بلقب "بابا حجّي". و بيته أضحى معروفاً "ببيت الوالد". 

و على الرغم من كبر سن مشعل. إلا أنه بلياقته و صحته. لا يزال يلعب كرة القدم مع أحفاده و أسباطه نهاية كل أسبوع في "حوش" البيت. بعض أبناء مشعل كانوا يدرسون في أمريكا. و بعضهم الآخر في أوروبا. و كان "بابا مشعل" يسافر لزيارتهم مرتين كل سنة. مرة أوروبا. و مرة أمريكا. (أين إذاً فوبيا الطائرات التي كان يتذرّع بها لأخيه قبل بضع سنوات؟).  

 أصدَر سعد روايته الأولى بعد جهد مضنٍ في كتابتها. مبيعات الطبعة الأولى كانت بالآلاف. نَفَذَتْ من المكتبات منذ الأسبوع الأول من إصدارها. في معرض الكتاب كان طابور المعجبين طويلاً على إمتداد البصر. كلهم منتظرون نسخة من توقيع المؤلف النابغة. لكن كل ذلك لم يكن مهماً لسعد. كل ما كان يتمناه هو قبول و إستحسان شخص واحد فقط: مشعل

ذهب سعد إلى منزل أخاه الأكبر في يوم جمعة ، و أهداه نسخة من روايته. موقّعة و مغلّفة برسم الخدمة. فتح مشعل غلاف الرواية و تصفّح الأوراق الأولى منها ثم أغلقها. إلتفتَ لأخيه قائلاً بإبتسامة مليئة بالإستهزاء "ما شاء الله عليك. كلام مزيون من حلج بزّون". (البزّون: "القِط" باللهجة العراقية). 

تعليق مستفز كهذا كان القشة التي قصمت ظهر البعير. الصفعة التي أيقظت سعد من "وَهْم الأخوّة" الذي عاشه لأربعين سنة. إستشاطَ سعد غضباً. لكنه ترك بيت أخاه بسكوت مكهرَب قبل أن يتفوه بكلمة جارحة قد يندم عليها لاحقاً

القصة الثانية: حسن و نعيمة.
بلغ "حسن" سن الزواج. لم يكن من ذوي الغراميات. كان يفضل زواج العوائل أو "دخول البيوت من أبوابها" على حد تعبيرهطلب من أمه البحث عن إمرأة ترضى به زوجاً. إختارت له أمه "نعيمة". أكثر بنات الحي جمالاً و أفضلهن في الأخلاق و التربية و الأصل. تزوّجها زواجاً تقليدياً. رآها للمرة الأولى قبل زواجهما بشهر واحد. وافق عليها بالإيماء و الإبتسامة فقط. دون إبداء رأيه الصريح فيها.

لأنه لم يكن غنياً ، أراد توفير العيش الكريم لزوجته بالعمل في وظيفتين. واحدة صباحاً و الأخرى عصراً. ليرجع بيته آخر الليل منهكاً يبحث فقط عن الوسادة ليحتضنها و يذهب في سبات عميق. هو بطبعه كتوم. قليل الكلام. زِد على ذلك أسرار العمل التي كان لا يبوح عنها لأحد. كان لا ينفّس عن ما يجول بداخله ، لا لزوجته ولا لغيرها. حياته كانت محصورة بين البيت و العمل. لا دواوين. لا رحلات. و لا حياة إجتماعية خارج إطار العائلة

في المقابل كانت عاطفة نعيمة جياشة. تتضايق كثيراً من سكوت زوجها الدائم لها. ظناً منها أنه غير سعيد في زواجه منها. لأنها حتى بعد عشرين سنة من زواجهما ، لم تسمع منه كلمة "أحبك" أبداً. حتى بعد أن أنجبت له البنين و البنات. كانت تقول لعيالها "أبوكم ما يحبني. أكيد تزوجني وهو مغصوب". 

ظنّت نعيمة أن غيابه الطويل عن المنزل كان ربما بسبب زوجة ثانية أو عشيقة. لكنها أبقت صمتها و لم تفصح عن ما يجول في خاطرها خوفاً على بيتها من خراب مُحتمَلْ. لم تعِ نعيمة كم هي مُتعبة وظيفة زوجها. لأنه لم يفسر لها عن طبيعة وظيفته أصلاً. كل الذي كانت تعرفه انه لا  يُقَصِّر معها و مع ابنائها مادياً. حتى البيت ، إشتراه لها و سجّله بإسمها دون ان تطلب منه ذلك

 تأزّمت نعيمة صحياً و حدثت لها حالة "إلتهاب في القلب" بعد ولادتها الأخيرة. إلتهاب فيروسي حاد تَرَكَ عضلة قلبها واهنة ضعيفة. نعيمة أصبحت غير قادرة على أداء واجباتها كزوجة و ربّة بيت. ترَك حسن وظيفته و تفرغ لها ليعطيها الدواء بنفسه على مدار الساعة. كان يراجع العيادة معها عند كل موعد. و يأخذها إلى غرفة الطواريء فوراً كلما تأزّمت صحتها

بعد بضعة شهور بدأت صحة نعيمة في الإنحدار المتوقّع بعد صراع خاسر مع فشل القلب المزمن. لكن زوجها كان معها طول الخط. بين المستشفيات المحلية و العلاج في الخارج. لم يتركها خلال أشد ساعات عنائها

عندما دقّت الساعة و أخذ الله أمانتها ، دَخَلَ حسن في إكتئاب مزمن. لم يترك المنزل لشهور. علّق صور المرحومة على كل حوائط المنزل. ظل يشاهد فيلم حفل زفافهما كل ليلة قبل النوم. رفض الزواج مرّة أخرى بالرغم من طلب أبنائه المستمر بتزويجه لقلقهم من عزلته. ظل يزور قبرها كل جمعة لسنوات حتى وافته المنيّة.          


في قصة سعد و مشعل ...
"أنا أحبك. إنتَ أخي. عضيدي. ملحي إذا خِست" جملة ردّدها الأخ الكبير لأخاه الصغير مليون مرة على مر السنين. فقط لأنه ورثها من أمّه. ما هي إلا لعقٌ على اللسان ليس إلا ، و قائلها لا يعنيها بالضرورة.

مشاعر مشعل تجاه أخاه سعد هي كما هي ، لم تتغير أبداًشريط الأحداث منذ الطفولة وضّح أن علاقة الحب المزعومة بين الأخوين كانت في الواقع من طرف واحدسعد كان مستاءاً من نفسه لأنه لم يستوعب هذه الحقيقة المُرّة  إلا بعد أربعين سنة
قد يدافع المدافعون أن هناك فرق بين "الأخ" و "الإبن" كخطوة أولى لتبرير أو تفسير تفضيل  مشعل لأبنائه على أخاه. لأن علاقة المرء بأبنائه ودّية. بينما علاقته بأخيه ندّية. حتى إن كان هذا الكلام صحيحاً...
فلماذا ازدواجية المعايير؟
و لماذا الكذب في التبرير؟ 
و لماذا كان مشعل يردد عبارة أمه كالببغاء دون تفكير؟

أبسط مثال قوله لأخيه عن موضوع الفوبيا من السفر و الطائرات. و هو لاحقاً عبَرَ البحار و القارات لزيارة أبنائه كل سنة.

إذا كان أخاه عزيزاً عليه. لِمَ لم يدعوه لحفلات زفاف أبنائه و بناته؟

هل كان مشعل يحسد أخاه لغاية في نفسه؟ 
هل كان مشعل يكره أخاه دون سبب؟ و ألف "هل" و "هل".

الله أعلم بما في النفوس. أياً كان المبرر. "حب" مشعل المزعوم لأخاه الأصغر سعد كان قول من غير فعل. كلام مأكول خيره. أسطوانة مشروخة تُعاد بين الحين و الآخَر وقت الحاجة

و في قصة حسن و نعيمة... 
كان حب حسن لزوجته "فعلاً" من غير قوللم تدرك نعيمة أن زوجها كان شرقياً حتى النخاع. لا تسمح الأعراف للرجل الشرقي ان يقول "أحبك" لإمرأته مهما بلغ حبه لها. كان حبه فعلاً دون قول.

في رأيي المتواضع ، الحب مثل الدراسة العلمية أو بناء المنزل

في العلم 
تأتي فكرة للباحث لدراسة ظاهرة معينة
يدوّن الباحث فكرته على الورق و يطرحها على زملائه و أساتذته
فإذا وافقوا عليها ، تبدأ الدراسة الفعلية بتنفيذ خطوات البحث كما هو مكتوب على الورق

كذلك في بناء المنزل
يرسم المهندس المعماري كل مخططاته على الورق.
يعرضها على صاحب المنزل
فإذا وافق عليها ، بُنِيَ البيت كما في المُخطَّط

المحبة لها نفس المبدأ
على المُحِب الإفصاح شفهياً عن حبّه. كما قال مشعل لأخيه في القصة الأولى. يلي ذلك تطبيق عملي ملموس لهذه المحبة. كما فعل حسن لنعيمة في القصة الثانية


"أحبك" دون فعل هو على الأقل نفاق. و التطبيق العملي للحب بسكوت ، دون تعبير لفظي هو على الأرجح جلافة.

الثلاثاء، 16 أغسطس 2016

مستشفى الخطوط الحمراء

مركز "القلب الزايغ" 
أكبر مركز متخصص لجراحات القلب التخصصية في بلاد الواقواق. تعدّى عدد الأطباء العاملين فيه المائة طبيب

الأطباء. الدكاترة. من كثرتهم ، لا تكفيهم غرفة إستراحة الأطباء. لذلك تراهم يتسكعون في "لوبي" المركز و في ممرات الأجنحة. يجلسون و يتبادلون الحديث في غرفة الخفارة و الكافتيريافي أغلب أيام الأسبوع ، إذا كان في العناية المركزة في يومٍ ما ، فَرَضاً ، أربع مرضى. سيكون هناك في المقابل خمس أطباء في نفس غرفة العناية! بمعنى أن عدد الأطباء في المركز أكثر من عدد المرضى.

إعلان حالة الطواريء
نظرياً. على الورق. طاقة العمل كحد أدنى في المركز عشرين طبيباً. أقل من عشرين طبيب و المركز سيقع على وجهه و الخدمات الصحية فيه ستنهار. بالرغم من ذلك ، و بعد إستقالة خمسة أطباء دفعة واحدة. أعلن المركز حالة من الطواريء و أزمة حادة في الكوادر. ساد الذعر و إنتشر الهلع بين الزملاء خوفاً من هذا "النقص الحاد" في الأيدي العاملة. و بدأ البعض في الإتصال بوكالات التعيين و مكاتب التوظيف لإستقدام أطباء جدد لسد هذا "النقص الكبير".

كنت أنا آخر من تعيّن في المركز قبل بضع سنوات. أي أنني كنت الطبيب رقم ١٠١. حاولت فهم حالة الخوف الجماعي هذه. كوني الطبيب الجديد. و إستيعاب الذعر الذي انتشر بين الزملاء. إلى أن جالستُ أحد الأطباء القدامى المخضرمين ، وكان من أوائل من عملَ في المركزسألته محتاراً: كان عددنا ١٠١ طبيب. و الآن نزل عددنا إلى ٩٦ بعد إستقالة الأطباء الخمسة. لا تزال أعدادنا كبيرة ، أحياناً تفوق أعداد المرضى. لِمَ إذاً هذا الرّعب؟

فقال لي ...
"يا صاحبي ، الخطوط الحمراء في مركزنا كثيرة. إلى درجة تسميته بمستشفى الخطوط الحمراء  عند بعض الزملاء من المستشفيات الأخرى من باب السخرية". 

بعد ثوانٍ من الصمت المخلوط بالدهشة من ناحيتي ، و الإبتسامة الصفراء الساخرة من ناحية صاحبي ، أكمل حديثه...

لنبدأ بالتعريف. ما المقصود بالخط الأحمر؟
الخط الأحمر هو الحدود "العُرفية" التي لا يمكن تعدّيها. "التابو" (taboo) الذي لا يمكن مساءلته. الحصانة التي تستثني صاحبها من روتين التفتيشعند إنقطاع أحد الأطباء عن العمل لأي سبب (إجازة ، إستقالة ، تقاعد ، وفاة)، يتم "توزيع" مهام الطبيب الغائب على بقية الزملاء. لكن توزيع المهام مستحيل لوجود هذه الخطوط الحمراء الكثيرة.

١. الإستشاري خط أحمر
الإستشاري في دول العالم المتقدمة عمله كثير و مسئولياته جسيمة لأنه يشرف مباشرة على من هُم تحته في الهرم الوظيفي. الإشراف مهمة متعبة لأن أي خطأ طبي سيحمل مسئوليته الاستشاري. لذلك في الدول الأخرى يتفادى البعض هذا المنصب و هذا المسمى لثقل المسئولية المرتبطة به.

بينما في مركزنا العتيد ، الإستشاري عمله قليل. و مسئولياته أقل. المشكلة أن الإستشاري عندنا ذاته مصونة لا تُمَس. لا يجرؤ أحد على إضافة مهام إضافية على عاتق الإستشاري. لذلك يتهافت الأطباء الصغار الطموحين على الترقية المبكرة بهدف الراحة و التسيّب عن العمل دون محاسبة. إحترام الرتبة الأعلى عندنا في المركز  يشابه إلى حد كبير ما نراه في الخدمة العسكرية. الإستشاري يتربع على قمة الهرم الوظيفي. و لا أحد يجرؤ على محاسبة أعلى رتبة في هذا الهرم.

٢. "القديم" خط أحمر
في "خُف علينا يا روبن هود" ذُكِرَ الرجسترار الاستشاري. الطبيب المتواجد في نفس المهنة بنفس المنصب و نفس المسمى الوظيفي. رقّى نفسه بنفسه بالأقدمية و أعفى نفسه بنفسه من المهام الصعبة/المتعبة المفروضة عليه. حجته في ذلك "أنا غير باقي الدكاترة. أنا قديم". الطبيب القديم وظيفته ثابتة و راكدة لسنين طويلة. لكنه كوّن لنفسه خلال السنوات الطويلة علاقات جيدة مع الإستشاريين و رؤساء الأقسام فأصبح محسوباً عليهم. يعامَل مثلهم. لا نجرؤ على زيادة مهام الطبيب القديم.

٣. الإناث خط أحمر
الكفاح في مهنة الطب لا يفرّق بين الذكر و و الأنثى. بعض التخصصات الطبية مريحة نسبياً و العمل فيها بالفترة الصباحية فقط ممكن. بينما هناك تخصصات أخرى متعبة تشترط تواجد الطبيب في المستشفى في أي وقت على مدار الساعة. مثل طب الطواريء و الجراحة و قسطرة القلب و غيرها من التخصصات الحرجة. لا يوجد في المركز ما يقهرني و يفقع مرارتي أكثر من "طبيبة" تتخصص في تخصص متعب مثل القلب و تشترط فيه الراحة

"الدكتورة" في مركز القلب الزايغ ترفض المناوبات الليلية. حجّتها "إحنا بنات ناس و أهلنا ما يخلونا ننام برة بيوتنا". فلماذا إذاً يا سعادة "الكونتيسة" إخترتِ تخصصاً صعباً متعباً كجراحة القلب؟ بسلوكك هذا أنتِ تتعبين نفسك و تتعبين زملاءك في العمل أيضاًهذا غير أن الطبيبة أذوناتها كثيرة و إجازاتها المرضية كثيرة. و تطلب "تخفيف عمل" لأسباب كثيرة. فهل نستطيع أن نطلب من الإناث أداء مهام إضافية لتغطية العجز الموجود؟ طبعاً لا.

٤. البلطجي خط أحمر
"البلطجي" هو من ينال مراده بالوقاحة و قلّة الأدب. بطول اللسان. و طول اليد أحياناً إذا إستدعى الأمر. البلطجي لا يحترم سلسلة القيادة أو القانون. مستعد لإيصال شكواه إلى أعلى سلطة مباشرة. متخطياً بذلك رئيسه المباشر. ضارباً بعَرض الحائط التسلسل القيادي. يقطع أي شوط و يسخّر أي "واسطة" في سبيل تحقيق أهدافه مهما كانت العواقب

مبنى "القلب الزايغ" العتيد له إطلالة على بحر الواقواق كما تعلم. عندما باشر العمل أحد البلطجية ، و منذ اليوم الأول ، قام بجولة إستكشافية لغرف العيادات. إختار العيادة ذات الإطلالة الأجمل على البحر و حَجَزَها لنفسه فوراً و بوضع اليد. بالرغم من أنها كانت محجوزة مسبقاً لأحد لغيره. دَخَلَها و رمى أثاث الزميل السابق و وضع أثاثه. بكل وقاحة غيّرَ كيلول الباب بمفاتيح جديدة. و الجميع بقيَ صامتاً مذهولاً. خوفاً من البلطجة المعتادة لصاحبهم.

البلطجي لا يساعد. و لا يتطوّع لخدمة أحد. و لا يداوم المناوبات الليلية. تخيل ما سيحدث لو كلفناه بمهام أكثر من تلك المفروضة عليه؟ البلطجي عليه أقل كمية من المهام و أعتقد الأسباب إلى هنا واضحة.

٥. المواطن خط أحمر
 سياسة التعيين في الواقواق معروفة. المواطن وظيفته محفوظة آمنة. فصله من العمل خط أحمر. الأمان الوظيفي مهم جداً لأبناء البلد. لذلك مهما كان الموظف الواقواقي مهملاً أو مقصّراً ، طرده من الوظيفة أمر مستحيل غير قابل للمناقشة. بعض المدراء إبتكروا حلولاً أخرى ذكية للتخلص من الواقواقيين الكسالى في إداراتهم. 

منها للمثال ، الترقية السريعة و النقل: الواقواقي الكسول يترقى بسرعة ليُنقَل إلى إدارة أخرى و بالتالي يتم التخلص منه (دفعة مَردي و الهواء شرقي). أو التجميد: حيث يظل الواقواقي في نفس مسماه الوظيفي دون ترقيات إلى أن يمل من وظيفته و يطالب بنقله إلى إدارة أخرى. أياً كانت الحيلة أو التكنيك ، فالمواطن لا يُطرَد من عمله مهما كان سيئاً.

٦. فص الملح خط أحمر
يقال عن الشخص الذي يتوارى عن الأنظار فجأة أنه "فص ملح و ذاب". و هو يشابه مقاتل النينجا في هذا الجانب. الطبيب فص الملح له الصفات العامة التالية:
- يداوم متأخر ربع ساعة و يرجع بيته مبكر نصف ساعة.
- ليتسنى له الإختفاء السريع ، فلسفته في العمل الكَروَتة.
- بين فترة و أخرى يترك رأس عمله في العيادة أو الجناح و يختفي عن الأنظار دون إنذار مسبق و عذره دائماً متوفر و جاهز: كنت أصلي. كنت في الحمّام. كان عندي مشوار في الحوادث. كنت عند رئيس القسم. 

مصداقيته ضعيفة. لأنه في أغلب الأحيان يكون متواجداً في الكافيتيريا لشرب القهوة ، أو في إستراحة الأطباء لقراءة الجريدة. دكتور "فص الملح" بالكاد يؤدي الواجبات المفروضة عليه. فما بالك إذا طُلِبَ من أداء واجبات إضافية؟

٧. بروسيجرمان خط أحمر
الطب يتكون من عدة تخصصات. و كل تخصص يحوي عدة مهارات. 

على سبيل المثال: طبيب النساء و الولادة. في العيادة يتابع الحوامل و يعالج حالات العقم و يصِف حبوب منع الحمل و تنظيم الدورة و غيرها من الأمراض النسائية. و يستخدم السونار لفحص محتويات الرحم و الحمل ، و يؤدي مجموعة من الجراحات النسائية من عمليات قيصرية أو تنظيفات للبطانة أو إستئصال للرحم أو ربط قنوات الإباضة ...الخ. 

بروسيجرمان (procedure man) هو الطبيب المختص في مهارة واحدة. مهارة واحدة فقط لا غير. و لا يرضى بممارسة أي مهارة أخرى. مثلاً طبيب قلب لا يعرف غير القسطرة. أو جرّاح لا يعرف غير عمليات البطن المفتوح. بروسيجرمان وجوده مفيد في المراكز التخصصية المزدحمة. لأنه يتقن العملية الوحيدة التي يعرفها. مشكلته أنه غير مستعد لتغطية أي خدمات أخرى مثل العيادة الخارجية أو المرور في الأجنحة. لذلك في حال نقص الكوادر ، بروسيجرمان ليس له فائدة للمكان. 

٨. "القفل" خط أحمر
"القفل" هو الذي يرفض و بشدّة أن يتعلّم أو يكتسب مهارات جديدة. تعلّم الطب في الجامعة و أكمل تخصّصه و إنتهى تعليمه عند هذه النقطة. بينما الطب الحديث في تطوّر مستمر و تحديث دائم. إلا أن "الدكتور القفل" راضٍ بالمعلومات  المعتقة المحفوظة في عقله. حتى لو كان قد تخرّج من الجامعة قبل ٣٠ عاماً. الدكتور القفل مخلوق على الروتين (creature of habit) و لن يغيّر روتينه. لذلك هو غير مستعد لتغطية أي نقص في القسم.

٩. الملك السابق خط أحمر
بعض الأطباء كانت لهم مناصب رفيعة في بلدانهم. دكتور فلان كان أستاذاً في الجامعة. و دكتور علّان كان نجماً ساطعاً في عيادته الخاصة المزدحمة  بالمرضى ، حيث كان المريض لا يجد لنفسه موعداً فيها لعدة شهور. أطباء كهؤلاء كانوا "ملوكاً" في بلدانهم. 

لكن دوام الحال من المحال. حَكَمَت على بعضهم الظروف الإقتصادية الصعبة و الحاجة لترك بلدانهم و النزوح إلى الواقواق للعمل في مركز القلب الزايغ. المشكلة الأساسية في هؤلاء الأطباء أنهم يظنون أنفسهم أنهم "الكل بالكل" في المستشفى. عايشين دورهم الذي كانوا يعيشونه في بلدانهم.

المضحك في الموضوع ، و المثير للشفقة أيضاً ، أنهم عندما يعرّفون عن أنفسهم، ينسبون أنفسهم إلى الجامعات أو المستشفيات التي كانوا يعملون فيها في بلدانهم قبل نزوحهم إلى بلاد الواقواق. بمعنى أن لا أحد منهم يقول "معاك الدكتور فلان من مركز القلب الزايغ". 

لا يعلمون أنهم بلا نفوذ خارج حدود دولهم. في الواقواق هم سواسية مع بقية الطاقم الطبي في المركز. لا أحد أفضل من أحد. لكنهم بالرغم من ذلك يعيشون الدور ، و يقول أحدهم "أنا ... ستاف الجامعة في بلدي ... أشتغل في عيادة؟ و الله عيب". و نحن في المقابل نتغاضى عن سلوكهم النرجسي من باب "إرحموا عزيز قومٍ ذَل".

لاحظ يا صديقي ...
الخطوط الحمراء هي "أنماط" و ليست أفراد. 
من الممكن أن يكون للفرد الواحد أكثر من نمط. مثلاً ...
دكتورة بلطجية. 
أو دكتور قديم قفل. 
أو إستشاري بروسيجرمان.

الأطباء الخمسة الذين إستقالوا و بسببهم وقعت أزمة "نقص الكوادر" كانوا الطبقة الكادحة للمركز. المحرك الرئيسي الذي يدير المكان كله وراء الكواليس. كانوا يعملون بصمت. بطيبة. بتعاون مُطلَق. كانوا مستعدين لتغطية النقص في المركز (فترة الصيف مثلاً) دون جدال أو مناقشة. ماهرون في تخصصاتهم. و على إستعداد تام و إنفتاح لإكتساب مهارات جديدة. ليست لديهم "مكاتب" لأنهم لم يطالبوا بها. لأنهم من كثرة نشاطهم و مهماتهم كانوا لا يحتاجون إلى مكاتب أصلاً.

الأخلاقيات المهنية العظيمة لهؤلاء الخمسة جعلتهم في نظر من حولهم حيطة مايلة. طوفة هبيطة. تم إستغلالهم من الإنتهازيين حولهم. و بعدما إستوعبوا هذه المؤامرة المؤلمة ثاروا و لكن بصمت. حافظوا على إبتسامتهم. إستمروا في سلوكهم المهني الإحترافي كما هو. 

بصمت  و "من غير شوشرة" وقّعوا عقوداً برواتب مغرية مجزية في مستشفيات جديدة واعدة في دول مجاورة. بعد ذلك قدّموا إستقالاتهم. حزموا أمتعتهم. و رحلوا بهدوء. كانت الخسارة في الواقع خسارة المركز لا خسارتهم. و لا عزاء لبقية لأطباء في مركز القلب الزايغ.

مركزنا الآن يحوي ٩٦ طبيب. نعم. الرقم صحيح. و لكن كم منهم استشاري؟ و كم منهم أنثى؟ و كم منهم بلطجي؟ و كم منهم قديم؟ و كم منهم قفل؟ و كم منهم مواطن؟ لم يبقَ منهم إلا الخمسة الذين قدموا إستقالاتهم!

هل فهمتَ يا صديقي لماذا أعلنّا حالة الطواريء؟ 

تنويه: مركز القلب الزايغ و بلاد الواقواق و أحداث هذه القصة كلها من نسيج خيالي. و أي تشابه بينها و بين الواقع هو بمحض الصدفة البحتة.

الاثنين، 8 أغسطس 2016

خف علينا يا بو إعتراف

 في مبادرة سياسية محنكة لإسكات (أو على الأقل تهدئة) الجماهير الغاضبة ، أعلن وزير الصحة في بلاد الواقواق عن تطبيق نظام "الإعتراف" في إحدى المستشفيات الواقواقية الكبرى. حيث وقّع إتفاقيات "أكاديمية" مع إحدى كليّات الطب الإفرنجية العريقة لتطبيق أنظمتها "المتطورة". مع تبادل الخبرات مع الواقواق ، كل ذلك مقابل مبالغ مالية بأرقام فلكية

قد يبدو للبعض (و أنا كنت أولهم حتى عهد قريب) أن إعتراف جهات إفرنجية بمستشفيات الواقواق فكرة نبيلة جميلة و إيجابية. و ليست خطوة ، و إنما قفزة كبيرة إلى الأمام في سبيل تطوير العناية الصحية المتعثرة. لكن الأمور كعادتها ليست كما تبدو. فإذا سألتَ المدافعون عن "الإعتراف" عن سبب حماسهم الزائد له ، سيسردون لك مليون سبب و سببلكن هذه الأسباب المليون على تنوعها الظاهري ، إلا أنها بالباطن تصب في نهايتين رئيسيتين.

النهاية الاولى: خطة بديلة ، أو ما يسمى بالإفرنجي "بلان بي" (plan B).
النهاية الثانية: توحيد و تطوير مستوى الجودة.



النهاية الاولى: خطة بديلة ، أو ما يسمى بالإفرنجي "بلان بي" (plan B).
على المستوى السياسي في بلاد الواقواق ، الإزدواج في الجنسية ممنوع. بمعنى أن المواطن الحامل للجنسية الواقواقية لا يحق له حمل جنسية أخرى غير الواقواقية

و لكن السؤال هنا...
ما الداعي لحمل جنسية بديلة من الأساس؟ لماذا هناك من يحمل جنسيتين أو ما يُطلَق عليهم لقب "مزدوجين"؟  

السبب واضح. الجنسية البديلة في نظر المزدوجين "صمّام أمان". بلاد الواقواق غنية و مستوى المعيشة فيها راقٍ. و لكنها -كغيرها من الأمم- مرّت بمحن و أزمات على مر الزمن هدّدَت وجودها و هويتها. و في كل أزمة عصفت بالواقواق في السابق ، يرمي هؤلاء المزدوجون جوازاتهم الواقواقية في القمامة ليهربوا من البلاد بجوازاتهم البديلة التي خبؤوها لهذا اليوم الأسود. 

بينما على المستوى الأكاديمي ، المواطن الواقواقي الذي تدرّبَ في بلاد الفرنجة و حصل على مؤهلات علمية إفرنجية ، يرى شهاداته كصمام أمان و ضمان للزمن. حاله من حال مزدوج الجنسية. بمعنى أنه يعمل في مستشفيات بلاده في الواقواق طوال عمره. لكنه إذا رغب بالهجرة في أي وقت. أي وقتٍ كان. سيستطيع السفر و الحصول على وظيفة في الفرنجة بمؤهلاته الدراسية الإفرنجية. أكبر شاهد على إدعائي ، هو أن "رخصة ممارسة الطب" في بلاد الفرنجة كي تظل سارية المفعول ، على الطبيب دفع رسوم دورية أو تقديم إختبارات تجديد الرخصة بين فترة و أخرى. بعض الواقواقيون أصحاب الشهادات الإفرنجية ملتزمون بهذا التجديد الدوري لرخصهم الإفرنجية.

لماذا يجددون رخصهم الإفرنجية إذا كانت نيتهم حقاً البقاء في الواقواق إلى الأبد؟ الإزدواج في الجنسية ممنوع. لكن المؤهل الدراسي الإفرنجي مسموح به.

لذلك إذا سألتَ المطالبين "الصريحين" بالإعتراف الإفرنجي بمستشفيات الواقواق عن سبب مطالبهم ، قالوا لك "لأن الإعتراف الإفرنجي أمان". ظناً منهم أن الإعتراف الإفرنجي سيضمن لهم وظيفة في الفرنجة مستقبلاً إذا حلّ مكروه في الواقواق لا سمح الله. 

في ظل الظروف الحالية ، دول الفرنجة عموماً تعطي الاولوية لمواطنيها في التوظيف. هذا غير التقييم الدائم للميزانية فيها. لذلك اذا كنتَ تظن ان الاعتراف الإفرنجي بشهادتك المحلية الواقواقية سيضمن لك وظيفة مستقبلية في الفرنجة ، فكّر مرة أخرى. لأن المنافسة ضارية  بين الإفرنجيين أنفسهم. فما بالك بالغريب؟

نعطيك شهادة. بس خلك بعيد
مناورة ذكية قامت بها بعض الجامعات الإفرنجية لكسب المال بسهولة. و هي "تصميم" برامج و دورات تدريبية إفرنجية غير رسمية. القبول فيها متاح للواقواقيين. سهل و مضمون. و شروط الالتحاق سهلة و بسيطةبشرط ان المتدرب لا يطالب بالجنسية الإفرنجية و لا يحصل على وظيفة دائمة في بلد التدريب (الفرنجة). و يوقّع تعهداً رسمياً بذلك منذ البداية في هذا الخصوص

سياستهم واضحة و صريحة: تدرّب عندنا يا واقواقي. و لكن إرجع بلدك بعدما تتخرج. الأمر ليس بالسوء الذي نظنه. لأن "شهادة خبرة" كهذه لها ميزة واحدة. المدربون الإفرنجيون هناك يقدمون تدريباً ممتازاً متكاملاً للمتدرب الواقواقي لأنه لن يهدّد مناصبهم. كونه سيترك البلاد فور إتمام تدريبهبعكس وضع التدريب المحلي الواقواقي. حيث المدرب (خصوصاً المدرب الأجنبي) يعلم بأن تدريب أبناء البلد لا يَصُب في مصلحته على المدى البعيد لأنه تهديد لمنصبه

النهاية الثانية: توحيد و تطوير مستوى الجودة.
كما ذكرت في "خُف علينا يا بو سيستم". الخدمات الطبية في بلاد الفرنجة متطورة و راقية في بعض نواحيها لعدة عوامل: منها المحاسبة الصارمة ، المالية منها و القانونية. و منها البحث العلمي و التدريب ، و الذي هو مهم  جداً لإستقطاب أموال المستثمرين من عدة جهات

البنية التحتية للجودة عند الفرنجة مُهَنْدَسة و مُفَصّلة حسب ظروفهم المالية و القانونية. لذلك إذا طبّقنا في الواقواق البنية التحتية الإفرنجية على المستشفيات ، فمصيرها حتماً الفشل الذريع. لأنها غير مفصّلة لظروف الواقواق.

صحيح أن "التمويل" في الواقواق ليس مشكلة. فميزانية وزارة الصحة الواقواقية بحد ذاتها تُعَد بالمليارات. لكن نظام "المحاسبة المالية" الواقواقية من أساسه يختلف إختلافاً جذرياً عن نظام الفرنجة. بالمحاسبة المالية أعني آلية صرف الرواتب و الأجور ، و الحوافز ، و سياسة التوظيف.
  
طبيعة الأجور 
في الفرنجة الرواتب تعتمد على طبيعة التخصص. فالمجالات الصعبة المتعبة المليئة بالتحديات أجورها عالية. بينما المجالات المريحة (ذات الدوام الصباحي فقط) أجورها إعتيادية. لذلك في الفرنجة المنافسة ضارية في التخصصات الحرجة مثل أمراض القلب و العناية المركزة و الجراحة مثلاً. لأن أعلى الرواتب في التخصصات الحرجة.

بينما في بلاد الواقواق الرواتب في القطاع العام موحدة. و الفرق بين راتب طبيب القلب و طبيب الجلدية ضئيل. و في القطاع الخاص ، طبيب الجلدية و جراح التجميل يجنون أضعاف ما يجنيه طبيب القلب أو جراح القلب. 

طبيعة الحوافز
الجراح الإفرنجي "يقبض" نسبة مخصّصة من تكاليف كل عملية جراحية يقوم بها. لذلك كلما إتصل به المستشفى لإجراء عملية جراحية في مجاله ، ذهب إلى المستشفى مسرعاً مبتسماً. لأن كل عملية جراحية وراءها مبلغ جيد من المال. أو ما يسمّى "أجر مقابل خدمة" (fee for service). و الجراحون يتنافسون على الحالات المرضية. أيهم يجري عمليات أكثر.

بينما في الواقواق الرواتب ثابتة. الجراح يستلم راتبه كما هو. سواء كان نشيطاً أو نائماً. ذكياً أم حماراً (مكرّم القاريء). لذلك إذا نوديَ الجراح لأداء عملية جراحية عاجلة في منتصف الليل ، تأفّف و تضايق و ذهب إلى المستشفى عابساً متجهماً. و لو كان بوسعه التخلص من الحالة أو تأجيلها إلى صباح اليوم التالي لفعل ذلك. هذا هو السلوك العامطبعاً في كل بقاع الأرض نرى الشغوف الذي يعمل حتى لو بالمجانو الكسول الذي يفضّل النوم حتى لو كانت عمولته مجزية

مثال آخر على "الأجر مقابل الخدمة". عندما يتم تنويم المريض في المستشفى لعلّة معينة ، يستلم الطبيب المناوب عمولة. و مقابل تدريب طلبة الطب و الأطباء المقيمين ، يستلم الطبيب أيضاً عمولة أخرى. لذلك يتنافس الأطباء بين بعضهم على تنويم المرضى تحت رعايتهم. و يتنافسون أيضاً على تقديم تدريب أفضل للطلبة الذين تحت إشرافهم.

بينما في بلاد الواقواق. الطبيب المسئول لا يسلتم أي عمولة على أي "مهمات" إضافية تُلقى على عاتقه. لذلك يحرص كل الحرص على تقليل عدد المرضى المنومين تحت رعايته. كما يحاول قدر الإمكان الحَد من تدفق المرضى إلى كل الخدمات الأخرى التي تقدمها المستشفى مثل العيادة الخارجية أو خدمات الأشعة و خلافه. في بلاد الواقواق المريض مثل الجمرة المشتعلة. يحاول كل طبيب تفاديها و رميها على الطبيب المجاور.


التوظيف حسب الحاجة و الأمان الوظيفي
في الفرنجة ميزانيات المستشفيات محدودة. و قسم المحاسبة المالية يضغط أيضاً على الإدارة لتقنين الميزانية قدر الإمكان. لذلك التوظيف حسب الحاجة فقط. فإذا كان القسم الفلاني مثلاً يستوعب أربع موظفين ، فلا داعِ لتعيين موظف خامس. و في حال حدوث عجز في الميزانية ، تُراجع الإدارة إمكانية سير العمل بثلاث موظفين  بنيّة "تسريح" الموظف الرابع أو ما يسمى "lay off" توفيراً للمال.

لذلك يحافظ الموظف الإفرنجي على وظيفته بشحذ همّته دوماً و تطوير أدائه و تحسين سمعته. لأن وظيفته دوماً غير آمنة. و وجوده دوماً مهدّد. فإذا حقّت حقائقها و أقدمت الإدارة على تسريح أحد موظفيها ، فإنها ستسرّح الحلقة الأضعف.

في المقابل تمتاز بلاد الواقواق بالأمان الوظيفي. ظاهرة التسريح هذه غير موجودة. فصل الموظف الوافد من العمل صعب. بينما طرد الموظف المواطن أقرب إلى المستحيل. التوظيف مفتوح "بحري" لكل المواطنين بصرف النظر عن الحاجة. فالقسم إذا احتاج مثلاً لأربع موظفين ، سترى فيه ثمانية! فلمذا يجد و يجتهد الموظف الواقواقي في وظيفته إذا كانت أساساً آمنة؟

آلية العقاب 
الجراح الإفرنجي مثلاً يؤدي عملياته الجراحية على أكمل وجه. بالتعقيم الكامل وقت العملية. و بالتوثيق الطبي الشامل في الملف بعد العملية. متبعاً بروتوكولات المستشفى بالحرف الواحد. لماذا يا ترا هذا الكمال؟ 

في حال حدوث أي مضاعفات للعملية أو إهمال طبي محتمَل ، المحامي لن يغفر أي زلّة أو هفوة لهذا الجراح مهما كانت تافهة. المحامون الإفرنجيون دَرَسوا المضاعفات الجراحية و الآثار الجانبية للأدوية أكثر من الأطباء أنفسهم

بينما في بلاد الواقواق ، بعض الأطباء المخضرمين (خصوصاً الروّاد الأوائل منهم) محصّنون قانونياً ضد أي إجراء جزائي. بل هم فوق القانون في بعض الأحيان و نفوذهم أقوى من نفوذ الوزير. لذلك جراحين الواقواق متميزون بقلّة الأدب و الذوق ، و كثرة الجلافة و الوقاحة. هذا غير أنهم يمارسون العمليات الجراحية بالطرق التي يرونها مناسبة حسب خبرتهم. دون الرجوع لبروتوكول و الأسباب واضحة

البحث العلمي
البحث العلمي في الواقواق ليس له أهمية تُذكَر. فالدولة لا تعتمد البحث العلمي مصدراً للدخل. صحيح بين الحين و الآخر يظهر لنا طبيب واقواقي على الصفحة الأولى في الجرائد لحصوله على جائزة الدولة في البحث الفلاني. أو لحصوله على براءة لإختراع ثوري في مجال عمله. لكنه فقط للإستعراض و التسويق الزائف دون نتائج ملموسة على أرض الواقع. بينما الإختراعات الثورية التي تغير مسار الطب حقاً على مستوى العالم موجودة في بلاد الفرنجة. البحوث العلمية المثمرة تستقطب المستثمرين. و لا عزاء للواقواقيين.  

نريد "بورد" معترَف به
بعد البكالوريوس يبدأ الطبيب مشواره المهني الذي سيلازمه مدى الحياة. خبراءالفرنجة صمّموا برامج تدريبية متكاملة لتخريج أطباء مؤهلين لممارسة الطب بكفاءة. هذه البرامج تُدعى "بورد" (Board). المتدربون الواقواقيون يطالبون ببورد واقواقي يعادل البورد الإفرنجي في جودته. هذا الأمر ليس صعباً ، و إنما مستحيلاً و لأسباب عديدة خارج نطاق هذا المقال. و لكن سأسرد هنا سبباً واحداً فقط. و هو إمتحانات أو إختبارات البورد. 

إمتحان البورد
كي تتأكّد من سلامة "معلومات" الطلبة ، عليك إختبارهم. هذه حقيقة عرفناها منذ اليوم الأول في المدارس. قضينا حياتنا الأكاديمية كلها في الاستعداد للاختبارات. لكننا لم نجرب قط أن نكون نحن من يضع أسئلة الامتحاناتفي الطب ، كما في كل المجالات الصعبة. تجميع و صَف و ترتيب و تقييم الأسئلة يستغرق الكثير من الوقت و الجهد. و يتم بمجهود مجموعة من الأطباء (لجنة من الممتحنين) و ليس بمجهود فرد واحد. 

في الفرنجة ، كل طبيب أكاديمي يضع على عاتقه مهمة كهذه يستلم أجراً مادياً مقابل جهوده. و لكن من يدفع أجرته؟ طبعاً الطالب الذي يقدم الإختبار. يدفعها على هيئة "رسوم". كل من قدّم إختبارات في الفرنجة يعلم بالمبالغ الباهظة لهذه الرسوم و التي يتم دفعها بالبطاقة الائتمانية. فإذا كان الإختبار ظالماً ، من حق الذي قدم الإختبار المطالبة بتفصيل الدرجات و إعادة التصحيح.

بينما في بلاد الواقواق ، إختبارات البورد الواقواقي مجانية. بدون رسوم. مهمة وضع أسئلة الامتحان شَرَفية (ببلاش). إما بدون أجرة ، أو بمبلغ رمزي ضئيل. و عادةً ما تكون مجهوداً شخصياً لفرد واحد (one man show). يضع هذا الفرد الواحد أسئلة الاختبار بينما هناك لجنة "صورية" توافق بالإجماع على قرارات هذا الشخص الواحد. فقط لذر الرماد في العيون. و لا يوجد طرف ثالث محايد يراجع الأسئلة لتقييم جودتها و عدالتها. و ليس من حق الذي قدم على الإختبار المطالبة بإعادة التصحيح. و إذا إعترَض قالوا له "مو شغلك".

ما بعد الإعتراف ... هل هناك إستمرارية؟
لنفرض - من باب الجدل ليس إلا- أن الإعتراف المزعوم أخذ مجراه بنجاح. و حازت المستشفيات الواقواقية على "الإعتراف" بعد طول عناء. ماذا سيحدث بعد إنتهاء فترة التعاون مع الجامعة الإفرنجية التي ذكرتها في بداية المقال؟ 

سيرحل الفريق الإفرنجي و يترك الواقواق خلفه. و سيأخذ معه أكياس الغنائم الضخمة كاش (cash). ماذا سيحدث في مستشفيات الواقواق بعد ذلك؟ سترجع المستشفيات كسابق عهدها قبل قصة الإعتراف. سترجع "ريما" لعادتها القديمة. هذه التوقعات مبنية على خبرة سابقة في هذا الخصوص. 

"الإعتراف الإفرنجي" و ضمان الجودة ما هو إلا محاولة يائسة لتقليد الإفرنجيين في خطوات عملهم ، على أمل تكرار نفس نتائجهم الناجحة. لن يحصل الواقواقيون على إعتراف الفرنجة إلا إذا طبّقوا بروتوكولات و قوانين و شروط الفرنجة بحذافيرها.  

ماذا سيحدث إذا فرض الواقواقيون "معايير الجودة" الإفرنجية على مستشفياتهم الواقواقية عنوة؟ غصب طيب؟ بالعافية؟ سينتهي الأمر بالجامعات الإفرنجية إصدارها لشهادات لمّاعة مختومة. مطبوعة على ورق فاخر. موضوعة في إطارات و معلقة على الحائط الأمامي عند مدخل المستشفى الواقواقي. و هذه ستكون خاتمة المسرحية الفكاهية المسماة بالإعتراف.


دهنّا... في مكبّتنا؟
قد يَزعم البعض أنه من الممكن تصميم معايير جودة محلية تليق ببنية الواقواق التحتية دون الحاجة للإعتراف الأجنبي. هذا كلام جميل "نظرياً". على أرض الواقع ، الذين يضعون خطط التنمية و معايير الجودة ، من سيدفع أجورَهم؟ أم ستكون أعمالهم مجهود شخصي شَرَفي "مجاني" كالعادة؟

الطب مهنة إنسانية نعم. و لكن هناك فواتير و أقساط تحتاج من يسددها. فإذا خَيّرنا الطبيب المعني بين عيادته الخاصة المسائية و بين الجلوس لساعات طويلة لتخطيط لمعايير الجودة دون مقابل مادي مجزي ، سنعرف الإجابة!