قبل فترة وجيزة احترق المصباح الأمامي لسيارتي. عندما ذهبت إلى كهربائي السيارات لتبديله، رأيت في "الجراج" صبياً لم يبلغ الحُلُم. بعدما شرحت له مشكلة المصباح فتح غطاء محرك السيارة و بدأ "بالعَبَث" في الدوائر الالكترونية لنظام الإضاءة. كانت حركة أصابعه سريعة في إقتلاع القطعة المعطوبة و تبديلها بقطعة جديدة. الأمر الذي دلّ على إحترافيته و خبرته في حل مثل هذه المشاكل. استغرق موضوع التصليح منه ١٠ دقائق فقط.
من دافع الفضول سألته من أي بلد أتى و كيف أصلح المشكلة. قال لي أن عمره لم يتعدّ الإثني عشر عاماً. ولِدَ في منطقة سوريّة تسمى "دير الزور" قريبة جغرافياً من العراق. الأمر الذي فسّر لي لهجته السورية المهجّنة باللكنة العراقية. لم يكمل تعليمه الإبتدائي هناك. جلبه والده من سوريا ليجعل منه كهربائياً للسيارات في الكويت منذ بضع سنوات. شخّص علّة سيارتي بسرعة لأنها مرت عليه مرات عديدة خلال عمله في الجراج ١٢ ساعة كل يوم.
على الرغم من إستيائي من حرمان هذا الطفل من فرصة التعليم النظامي ، إلا أن فكرة "التلمذة" (apprenticeship) القديمة و الراسخة في كل الحضارات منذ فجر التاريخ أعجبتني.
"الواد بِليَة" تحت المجهر
يُستخدَم لقب"الواد بِليَة" في اللهجة المصرية للتلميذ الذي يتعلم الحرفة مباشرة من أستاذه "المعلّم". التعليم هنا يتم بالممارسة الفعلية المستمرة للحرفة. إلى أن يصل الواد بِليَة إلى درجة أستاذه يوماً ما.
في كل دول العالم ، النخبة من أوائل الثانوية العامة يلتحقون بكلية الطب. السبب الذي أضاف هيبة مبالَغ فيها للمهنة و صَنَعَ "هالة من نور" حول رأس الطبيب. لكن الطب في النهاية حرفة لا تُتقَن إلا بالممارسة شأنها شأن أي حرفة أخرى.
في الدول النامية لا يزال هناك الكثير ممن يظن أن التفوق الدراسي يوازي التفوق المهني. بمعنى ان الطبيب "الشاطر" هو الذي يقضي معظم وقته في المكتبة بدلاً من أجنحة المستشفى. قال السّير ويليام أوسلر مؤسس التدريب الطبي ...
"الطب لا نتعلمه في المكتبات. الطب نتعلمه بجانب سرير المريض"
بينما الأساتذة في الشرق لا يزالون يهتمون بالمعلومات النظرية ، بل و جعلوها نبراساً للنجاح و الرسوب في إختباراتهم. بينما الخبرة العملية همّشوها و لم يلغوها، فقط لذر الرماد في العيون. قلتها في مقالات سابقة و أقولها الآن.
طبيب الغرب يدرّب تلميذه كي يصبح طبيباً "آمناً" لبقية مشواره المهني.
بينما طبيب الشرق يدرب تلميذه لينجح في الاختبارات النظرية آخر السنة الدراسية.
الغرب ينظّم اختباراته النظرية بطريقة "تحاكي" الحالات المرضية الواقعية. لذا تلميذهم المتدرب على ايديهم يقدم الاختبارات و ينجح فيها بسهولة لأنه يشخصها و يعالجها كل يوم. بينما في الشرق الطبيب يحفظ المعلومات الطبية من الكتب ، و ينساها بعد نجاحه في الإختبارات. لأنه أصلاً لا يمارسها يومياً.
أما الاختبارات العملية عندنا ، فيها نرى المسخرة و لا شيء غير المسخرة.
في الغرب تقييم الطبيب في الإختبار العملي أغلبه يقوم على نقاط غير أكاديمية:
هل كان الطبيب حَسَن الهندام يوم الإختبار؟
هل عرّف الطبيب عن نفسه عندما التقى مع المريض؟
هل صافح المريض؟
هل غسَلَ الطبيب يداه قبل فحص المريض؟
هل إستأذن الطبيب مريضه قبل الفحص؟
هل تألّم المريض من يد الطبيب وقت الفحص؟
هل فسّر الطبيب التشخيص للمريض؟
هل كانت لغة الطبيب واضحة مؤدبة مهنية خالية من العبارات الغامضة؟
عند الغربيين ، حفظ هذه "السلوكيات" ليوم الإختبار لا يهم ، لأنهم يعاملون مرضاهم أساساً بهذه الطريقة يومياً. بينما في الشرق ، الطبيب الشرقي عليه أن يكون ممثلاً بارعاً يوم الإختبار. لأنه في وظيفته اليومية لا يمارس الطب بهذه الطريقة مع مرضاه.
الغرب ينظم برامجه الطبية التدريبية في المراكز المزدحمة بالمرضى. كي يتسنى للطبيب المتدرب رؤية أكبر عدد من الحالات المتنوعة في تخصصه و في أقصر وقت ممكن. بالتالي خبرة عالية مكتسبة في فترة وجيزة. مثلاً الجراح الذي يمارس ٥ عمليات جراحية في اليوم يختلف في خبرته عن الجراح الذي يمارس خمس عمليات في الشهر!
بينما الأستاذ الشرقي يتفاخَر بتفوق تلاميذه في اختبارات الغرب. لأن أسئلة الغرب عملية و سلسة ، أسهل بكثير من الاختبارات العربية التي تختبرالمعلومات العامة تعجيزياً على نمط برنامج "من سيربح المليون".
أنظر إلى الوظائف الأخرى و أهمية "الممارسة" فيها.
- هل تستطيع إتقان لغة دون أن تتكلم بها مع ناطقيها بشكل دوري و مستمر؟
- هل تستطيع تعلّم السباحة دون أن ترمي نفسك في الماء؟
- هل تستطيع دخول ميدان المعركة مباشرةً فقط بعد قراءة كتيّب إرشادات إستخدام السلاح؟
أنا لا يهمني اذا كانت معك شهادة الماجستير او الدكتوراه او الزمالة في تخصصك الطبي. لذلك أسأل كل من يريد العمل معي من الزملاء في مختبر القسطرة القلبية و الأطباء المتدربين تحت إشرافي:
- إذا كنت في عرفة طواريء المستشفى وحدك، هل تستطيع تشخيص الحالات و اتخاذ القرار؟
- هل تستطيع بثقة و براعة إجراء العمليات التي لها علاقة بتخصصك؟
- هل تعرف أسرار مهنتك و خباياها غير الموجودة في الكتب الدراسية؟
ما كتبته في هذا المقال مبني على رأيي الشخصي و خبرتي من ما رأيته خلال سنوات ممارستي للطب في دول متعددة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق