قبل بضع سنوات جلست مع أحد الزملاء و كان حينها في منتصف العمر. سألني عن عمري فأجبته "٣٥ سنة".
قال لي " عندما تصل سن الأربعين سيزداد زهدك في الحياة الدنيا. و ستبدأ بالتفكير في الآخرة".
تأثرت جداً بكلامه الرائع. خصوصاً انه كان ملتحياً. لون شعره الرمادي زاد مظهره وقاراً. حضوره الرزين و نبرة صوته الهادئة و عباراته المؤدبة تروّض الوحوش الضارية. زِد على ذلك خبرته الطويلة في عمله كطبيب و القصص التي سمعتها منه عن صولاته و جولاته في غرفة طواريء المستشفى. الأمر الذي زاده هيبة و جعل انطباعي الأول عنه أنه "أستاذي" و ليس زميلي.
كلها مسألة وقت و ظهر "الأستاذ" على حقيقته. قال لي أصحابه أنه يملك ناطحات سحاب في بلده. بالرغم من ذلك ملابسه رثّة و سيارته قديمة. يزاحم الكل على الوجبات المجانية التي تقدمها شركات الأدوية في المستشفى. يجلب زوجته و أبناءه الصغار إلى المؤتمرات العلمية لأن "البوفيه" فيها مجاني بعد المحاضرات. دائماً يتصل بي من الهاتف الأرضي كي لا يكلف نفسه ٤٠ فلساً في الدقيقة ثمن المكالمة من هاتفه الجوال.
صعقني "الأستاذ" أكثر بعدما عملت معه عن قرب في غرفة الطواريء. لغته الانجليزية كانت ركيكة. لهجته مع الممرضين كأنهم عبيد عنده. إعتماده على الحدس و السليقة أكثر من التحليل المنطقي و التخمين المدروس في التشخيص. و كل مرة كان يختم الأوراق بأختام زملائه. حجته أن "ختمه ضائع".
لم أستطع كتم تعجبي و اندهاشي و خيبة أملي. لذا واجهته بكل جرأة...
"عفواً دكتور. نمط حياتك لا يدل على شخص زاهد في دنياه دائم التفكير في آخرته!"
إكتفى الأستاذ بإبتسامة و انصرف مسرعاً لتفادي المواجهة.
في الوهلة الأولى ظننت أن ما فعله "الأستاذ" كان شنيعاً منفراً. لكن بعد قليل من التأمل ، عرفت ان ما فعله كان السهل. لأن مطابقة الأقوال بالأفعال امر صعب ، فيه الكثير من التحديات.
الإلتزام بالمواعيد ربما أكثر صفة ميّزت الإنجليز عن بقية الأوروبيين. عندما يعدك الإنجليزي الساعة السابعة صباحاً معناها سيلاقيك الساعة السابعة صباحاً. في مجتمعنا الذي يحترم مواعيده نقول عنه "مواعيد إنجليز". إعتاد الغربيون على الشفافية و الصراحة. لذلك اذا سمعوا تصريحات نارية أو عنترية قالوا عنها "الأقوال أسهل من الأفعال" "Easier said than done".
في الفكر الديني: الذي يُظهر غير ما يُبطن ، أو يقول غير ما يفعل يسمى "منافق". بينما في الأعراف الإجتماعية يسمى "فهلوي" ، "عيّار" ، أو "كلكچي". حسب اللهجة الدارجة و الظروف الراهنة. و في كل الأحوال الفكرة واحدة.
لكن لا نظلم من يقول ما لا يفعل...
١. ربما القائل هو نفسه لا يدرك حدود قدراته لأسباب هرمونية - التستوستيرون.
"أروح من الكويت إلى بغداد مشي ولا أركب معاك السيارة".
٢. أو لأن أقواله الرنانة أسبابها عاطفية رومانسية بحتة ...
"أعبر البحور السبع علشان حبيبتي".
٣. أو أقواله عرفية...
عندما يأكل وجبة تكفي لشخص واحد و يقول لكل من يمر عليه "تفضّل. بسم الله".
أو عندما يقول لضيفه "إعتبر البيت بيتك" أو "أنا رقبتي سدّادة".
فكر فيها. أيهما أسهل...
تنصح الناس؟ أو تطبق نصائحك على نفسك؟
بعد ٢٤ سنة من تحرير الكويت عرفت معنى أغنية "أنا كويتي. أنا قول و فعل. و عزومي قوية". الذي يقول و يفعل انسان قوي. سمعته تسبقه الى الناس قبل وصوله. لذا قيل في الأمثال "لا تقاوم من اذا قال فعل".