الجمعة، 27 فبراير 2015

خلك قول و فعل

قبل بضع سنوات جلست مع أحد الزملاء و كان حينها في منتصف العمر. سألني عن عمري فأجبته "٣٥ سنة". 

قال لي " عندما تصل سن الأربعين سيزداد زهدك في الحياة الدنيا. و ستبدأ بالتفكير في الآخرة". 

 تأثرت جداً بكلامه الرائع. خصوصاً انه كان ملتحياً. لون شعره الرمادي زاد مظهره وقاراً. حضوره الرزين و نبرة صوته الهادئة و عباراته المؤدبة تروّض الوحوش الضارية. زِد على ذلك خبرته الطويلة في عمله كطبيب و القصص التي سمعتها منه عن صولاته و جولاته في غرفة طواريء المستشفى. الأمر الذي زاده هيبة و جعل انطباعي الأول عنه أنه "أستاذي" و ليس زميلي. 

  كلها مسألة وقت و ظهر "الأستاذ" على حقيقته. قال لي أصحابه أنه يملك ناطحات سحاب في بلده. بالرغم من ذلك ملابسه رثّة و سيارته قديمة. يزاحم الكل على الوجبات المجانية التي تقدمها شركات الأدوية في المستشفى. يجلب زوجته و أبناءه الصغار إلى المؤتمرات العلمية لأن "البوفيه" فيها مجاني بعد المحاضرات. دائماً يتصل بي من الهاتف الأرضي كي لا يكلف نفسه ٤٠ فلساً في الدقيقة ثمن المكالمة من هاتفه الجوال. 

صعقني "الأستاذ" أكثر بعدما عملت معه عن قرب في غرفة الطواريء. لغته الانجليزية كانت ركيكة. لهجته مع الممرضين كأنهم عبيد عنده. إعتماده على الحدس و السليقة أكثر من التحليل المنطقي و التخمين المدروس في التشخيص. و كل مرة كان يختم الأوراق بأختام زملائه. حجته أن "ختمه ضائع". 

لم أستطع كتم تعجبي و اندهاشي و خيبة أملي. لذا واجهته بكل جرأة...

"عفواً دكتور. نمط حياتك لا يدل على شخص زاهد في دنياه دائم التفكير في آخرته!"

إكتفى الأستاذ بإبتسامة و انصرف مسرعاً لتفادي المواجهة. 

في الوهلة الأولى ظننت أن ما فعله "الأستاذ" كان شنيعاً منفراً. لكن بعد قليل من التأمل ، عرفت ان ما فعله كان السهل. لأن مطابقة الأقوال بالأفعال امر صعب ، فيه الكثير من التحديات.   

الإلتزام بالمواعيد ربما أكثر صفة ميّزت الإنجليز عن بقية الأوروبيين. عندما يعدك الإنجليزي الساعة السابعة صباحاً معناها سيلاقيك الساعة السابعة صباحاً. في مجتمعنا الذي يحترم مواعيده نقول عنه "مواعيد إنجليز". إعتاد الغربيون على الشفافية و الصراحة. لذلك اذا سمعوا تصريحات نارية أو عنترية قالوا عنها "الأقوال أسهل من الأفعال" "Easier said than done".

في الفكر الديني: الذي يُظهر غير ما يُبطن ، أو يقول غير ما يفعل يسمى "منافق". بينما في الأعراف الإجتماعية يسمى "فهلوي" ، "عيّار" ، أو "كلكچي". حسب اللهجة الدارجة و الظروف الراهنة. و في كل الأحوال الفكرة واحدة. 

لكن لا نظلم من يقول ما لا يفعل...

١. ربما القائل هو نفسه لا يدرك حدود قدراته لأسباب هرمونية - التستوستيرون.
"أروح من الكويت إلى بغداد مشي ولا أركب معاك السيارة".

٢. أو لأن أقواله الرنانة أسبابها عاطفية رومانسية بحتة ...
"أعبر البحور السبع علشان حبيبتي". 

٣. أو أقواله عرفية...
عندما يأكل وجبة تكفي لشخص واحد و يقول لكل من يمر عليه "تفضّل. بسم الله". 
أو عندما يقول لضيفه "إعتبر البيت بيتك" أو "أنا رقبتي سدّادة".

فكر فيها. أيهما أسهل...
تنصح الناس؟ أو تطبق نصائحك على نفسك؟

تلقي خطباً حماسية؟ أو تنفذ شعاراتك على حياتك؟

لافتة في برج الحمراء بمناسبة العيد الوطني


 بعد ٢٤ سنة من تحرير الكويت عرفت معنى أغنية "أنا كويتي. أنا قول و فعل. و عزومي قوية". الذي يقول و يفعل انسان قوي. سمعته تسبقه الى الناس قبل وصوله. لذا قيل في الأمثال "لا تقاوم من اذا قال فعل". 

الأربعاء، 18 فبراير 2015

الواد بلية مطلوب فوراً



قبل فترة وجيزة احترق المصباح الأمامي لسيارتي. عندما ذهبت إلى كهربائي السيارات لتبديله، رأيت في "الجراج" صبياً لم يبلغ الحُلُم. بعدما شرحت له مشكلة المصباح فتح غطاء محرك السيارة و بدأ "بالعَبَث" في الدوائر الالكترونية لنظام الإضاءة. كانت حركة أصابعه سريعة في إقتلاع القطعة المعطوبة و تبديلها بقطعة جديدة. الأمر الذي دلّ على إحترافيته و خبرته في حل مثل هذه  المشاكل. استغرق موضوع التصليح منه ١٠ دقائق فقط.  

من دافع الفضول سألته من أي بلد أتى و كيف أصلح المشكلة. قال لي أن عمره لم يتعدّ الإثني عشر عاماً. ولِدَ في منطقة سوريّة تسمى "دير الزور" قريبة جغرافياً من العراق. الأمر الذي فسّر لي لهجته السورية المهجّنة باللكنة العراقية. لم يكمل تعليمه الإبتدائي هناك. جلبه والده من سوريا ليجعل منه كهربائياً للسيارات في الكويت منذ بضع سنوات. شخّص علّة سيارتي بسرعة لأنها مرت عليه مرات عديدة خلال عمله في الجراج ١٢ ساعة كل يوم.     

على الرغم من إستيائي من حرمان هذا الطفل من فرصة التعليم النظامي ، إلا أن فكرة "التلمذة" (apprenticeship) القديمة و الراسخة في كل الحضارات منذ فجر التاريخ أعجبتني. 

"الواد بِليَة" تحت المجهر
يُستخدَم لقب"الواد بِليَة" في اللهجة المصرية للتلميذ الذي يتعلم الحرفة مباشرة من أستاذه "المعلّم". التعليم هنا يتم بالممارسة الفعلية المستمرة للحرفة. إلى أن يصل الواد بِليَة إلى درجة أستاذه يوماً ما.

في كل دول العالم ، النخبة من أوائل الثانوية العامة يلتحقون بكلية الطب. السبب الذي أضاف هيبة مبالَغ فيها للمهنة و صَنَعَ "هالة من نور" حول رأس الطبيب. لكن الطب في النهاية حرفة لا تُتقَن إلا بالممارسة شأنها شأن أي حرفة أخرى.        

في الدول النامية لا يزال هناك الكثير ممن يظن أن التفوق الدراسي يوازي التفوق المهني. بمعنى ان الطبيب "الشاطر" هو الذي يقضي معظم وقته في المكتبة بدلاً من أجنحة المستشفى. قال السّير ويليام أوسلر مؤسس التدريب الطبي ...

"الطب لا نتعلمه في المكتبات. الطب نتعلمه بجانب سرير المريض"

 بينما الأساتذة في الشرق لا يزالون يهتمون بالمعلومات النظرية ، بل و جعلوها نبراساً للنجاح و الرسوب في إختباراتهم. بينما الخبرة العملية همّشوها و لم يلغوها، فقط لذر الرماد في العيون. قلتها في مقالات سابقة و أقولها الآن.

طبيب الغرب يدرّب تلميذه كي يصبح طبيباً "آمناً" لبقية مشواره المهني.

بينما طبيب الشرق يدرب تلميذه لينجح في الاختبارات النظرية آخر السنة الدراسية.

الغرب ينظّم اختباراته النظرية بطريقة "تحاكي" الحالات المرضية الواقعية. لذا تلميذهم المتدرب على ايديهم يقدم الاختبارات و ينجح فيها بسهولة لأنه يشخصها و يعالجها كل يوم. بينما في الشرق الطبيب يحفظ المعلومات الطبية من الكتب ، و ينساها بعد نجاحه في الإختبارات. لأنه أصلاً لا يمارسها يومياً. 

أما الاختبارات العملية عندنا ، فيها نرى المسخرة و لا شيء غير المسخرة.

في الغرب تقييم الطبيب في الإختبار العملي أغلبه يقوم على نقاط غير أكاديمية:
هل كان الطبيب حَسَن الهندام يوم الإختبار؟
هل عرّف الطبيب عن نفسه عندما التقى مع المريض؟ 
هل صافح المريض؟ 
هل غسَلَ الطبيب يداه قبل فحص المريض؟
هل إستأذن الطبيب مريضه قبل الفحص؟ 
هل تألّم المريض من يد الطبيب وقت الفحص؟
هل فسّر الطبيب التشخيص للمريض؟
هل كانت لغة الطبيب واضحة مؤدبة مهنية خالية من العبارات الغامضة؟

عند الغربيين ، حفظ هذه "السلوكيات" ليوم الإختبار لا يهم ، لأنهم يعاملون مرضاهم أساساً بهذه الطريقة يومياً. بينما في الشرق ، الطبيب الشرقي عليه أن يكون ممثلاً بارعاً يوم الإختبار. لأنه في وظيفته اليومية لا يمارس الطب بهذه الطريقة مع مرضاه.  

الغرب ينظم برامجه الطبية التدريبية في المراكز المزدحمة بالمرضى. كي يتسنى للطبيب المتدرب رؤية أكبر عدد من الحالات المتنوعة في تخصصه و في أقصر وقت ممكن. بالتالي خبرة عالية مكتسبة في فترة وجيزة. مثلاً الجراح الذي يمارس ٥ عمليات جراحية في اليوم يختلف في خبرته عن الجراح الذي يمارس خمس عمليات في الشهر!

بينما الأستاذ الشرقي يتفاخَر بتفوق تلاميذه في اختبارات الغرب. لأن أسئلة الغرب عملية و سلسة ، أسهل بكثير من الاختبارات العربية التي تختبرالمعلومات العامة تعجيزياً على نمط برنامج "من سيربح المليون". 

أنظر إلى الوظائف الأخرى و أهمية "الممارسة" فيها.
- هل تستطيع إتقان لغة دون أن تتكلم بها مع ناطقيها بشكل دوري و مستمر؟
- هل تستطيع تعلّم السباحة دون أن ترمي نفسك في الماء؟
- هل تستطيع دخول ميدان المعركة مباشرةً فقط بعد قراءة كتيّب إرشادات إستخدام السلاح؟

أنا لا يهمني اذا كانت معك شهادة الماجستير او الدكتوراه او الزمالة في تخصصك الطبي. لذلك أسأل كل من يريد العمل معي من الزملاء في مختبر القسطرة القلبية و الأطباء المتدربين تحت إشرافي:
- إذا كنت في عرفة طواريء المستشفى وحدك، هل تستطيع تشخيص الحالات و اتخاذ القرار؟
- هل تستطيع بثقة و براعة إجراء العمليات التي لها علاقة بتخصصك؟ 
- هل تعرف أسرار مهنتك و خباياها غير الموجودة في الكتب الدراسية؟

ما كتبته في هذا المقال مبني على رأيي الشخصي و خبرتي من ما رأيته خلال سنوات ممارستي للطب في دول متعددة. 

الثلاثاء، 3 فبراير 2015

In loving memory of Luc Bilodeau

Lub Bilodeau, MD. (1961-2015)
  I remember the first time I met Dr. Luc Bilodeau. It was during one of his brief visits to Kuwait back in 2013. I saw in him a humble gentleman who performed his procedures in silence. I introduced myself and told him how much I was interested in invasive cardiology. He was welcoming and friendly to my many questions. 


Luc was the director of the cardiac catheterization laboratory when I started my interventional cardiology fellowship at the Royal Victoria Hospital in Montreal later on that year. Despite his prestigious status and household name. Despite being a prominent figure in his specialty along with his various academic activities as a lecturer and trainer worldwide. He worked quietly in the cathlab next to his colleagues. As if he were an average attending physician.

One of Luc's colleagues sat next to me at the end of my very first day of the fellowship. I remember that day vividly. He told me "You are lucky you'll be with Luc. You will be trained by one of the best cardiologists in the country".

Luc was the pro-active kind of guy. He worked closely with the nursing staff and technologists during cardiac emergencies. He trained himself in a way that enabled him to perform a full procedure on his own. Independently. Unassisted. 

He kept his calm during emergency procedures. No matter how complex or critical the condition of the patient on the table was. Since his job revolved around emergencies after all. 

Luc was not much of a talker. His comments were brief, concise, well put, and straight to the point. His French accent added a majestic touch to the conversation as well.

I told him how much I admired his cool... 
He replied "if you freak out, it would neither be good to you, nor to your patient".

I told him once how much I admired his modesty and decency... 
To that he said "my father told me if you want to be on top of your game, you can't be hostile to others". 

His view on his work ethic was clear. 
He told me "when I am sad, I work. I like my job. Sometimes I like it too much".

Whenever he was called at night to perform an urgent coronary angiogram, he rushed to the hospital without arguing with the physician who called him. His rationale was "if the doctor on-duty calls you, it means he needs your help!".

I told him I joined a nearby gym. He said "Good. training should be part of your daily routine". He used to workout regularly. It was a matter of "leadership by example". A cardiologist who tells his patients to lead a healthy life should lead one himself.

On the final day of my fellowship I told him how much I anticipated his next visit to Kuwait. I told him I would be assisting him. He said "No. In Kuwait I will be assisting you". I was so close to hugging him at that moment. Only the great ones reach that level of humility.

Months have passed. I completed my fellowship and went back home. I met Luc in Kuwait later on November 2014. I told him how much I was frustrated for not always getting my way in improving the workflow. He assured me, "have faith in your technique: apply light, but constant pressure. You will be get there".

Luc Bilodeau's last visit to Kuwait
 Dr. Bilodeau died unexpectedly at a young age. He will always be in my heart. I know for a fact I am only one of the many people who were touched by him. Doctors and patients alike. I will always cherish the time I spent under his wing. He will always be my mentor, teacher, role model, and older brother. 

Rest in peace, Dr. Bilodeau.