الأحد، 6 أبريل 2014

مجزرة نادي المقال

  في الوسط الطبي هناك نشاط علمي أسبوعي مُتعارَف عليه يُدعى "نادي المقال" (journal club). خلال هذا النشاط ، يختار الطبيب المعني مقالة طبية عن بحث علمي معيّن أو دراسة حديثة في تخصصه ليناقشها مع زملائه و أساتذته.  الغرض من نشاط كهذا تحديث المعلومات الطبية للزملاء و بحث إمكانية تطبيق نتائج الدراسات العلمية الحديثة في علاج المرضى. 

  عندما أتى دوري لتحضير موضوع لنادي المقال ، إخترت مقالة طبية عن دراسة نادرة لموضوع حسّاس قد يغير ممارستنا للطب. إستُخدِمَت في هذه الدراسة أرقام صعبة و حسابات إحصائية معقّدة لا يفهمها غير خبراء الإحصاء. كوني أصلاً ضعيف في مادة الرياضيات ، إرتكبت غلطة كبيرة لا تغتفر. ذلك لأنني نقلت هذه الإحصائيات إلى عرض "الپاور بوينت" كما هي ، دون دراسة أو تحليل. أضِف إلى ذلك عدم استعدادي لذلك اليوم بسبب تقصيري للتحضير الكافي مسبقاً.

فمالذي حدث خلال ملتقى نادي المقال؟ بالنسبة لي: كانت مذبحة. كانت مجزرة. 

الإستشاريون أمطروني بوابل من الأسئلة و الإنتقادات اللاذعة...
- من أين أتيتَ بهذه الأرقام؟

- هل فهمتَ ما تحدثتَ عنه؟ أم أنك فقط إجتررتَ المعلومات و تقيأتها على ورق المحاضرة فحسب؟

- الدراسة منشورة فعلاً في صحيفة طبية مرموقة. لكن الإحصائيات غامضة و مبهمة و انت بدورك لم تدرسها بتمحيص. لماذا قدمتَ لنا موضوعاً لا تفهمه؟ يا أخي إذا كانت لديك صعوبات ، كان من الممكن أن تتصل بأحدنا قبل المحاضرة لنساعدك في إستيعاب بعض المفاهيم.

إنتهى الملتقى. وصَلَت دمائي إلى ركبتَي. و لكن  بعد أن تعافيت نفسياً ، اقترب مني أحد الاستشاريين القدامى و قال لي بأن المسألة ليست شخصية (it is not personal) و أي شخص غيري كان سيواجه هذه الأسئلة المحرجة مهما كان مركزه أو مسماه الوظيفي. فقط كان علي الإستعداد جيداً قبل المحاضرة. عندها أدركت الحقيقة المؤلمة.  في دول الخليج هناك أندية مماثلة للمقالات الطبية أيضاً. لكن الفرق بينها و بين الغرب هو الآتي:

١ - إذا كان البحث العلمي منشور في صحيفة علمية مرموقة ، الأطباء العرب يعتبرون الصحيفة "تعاليم سماوية" منزلة معصومة عن الخطأ. منقوشة على الحجر. غير قابلة للنقاش أو المساءلة. و إذا اكتشف أحد عيباً في الدراسة المنشورة و تجرأ و استفسر ، كان رد الجميع عليه "تنتقد هذه الدراسة بصفتك إيه؟".

٢ - عادةً الاستشاري العربي بطبعه لا ينزل من برجه العاجي و يحضر نادي المقال. الحضور يتكون أساساً من الزملاء الصغار الذين يفتقرون للمعرفة و الخبرة الكافية في النقد و التحليل العلمي. حضور الزملاء الصغار يكون إلزامياً فقط عليهم (توقيع كشف الغياب إلزامي). بينما في الغرب الحضور إلزامي للجميع و يشمل الإستشاريين أيضاً. الأمر الذي لم آلاحظه أبداً في الدول العربية. الاستشاري عندنا شبه إله (والعياذ بالله) فهو فوق كل قانون و كل إعتبار. 

٣ - إذا حدث و حضر الإستشاري العربي في نادي المقال ، فإنه "يغفو" في بداية المحاضرة و يستيقظ قبل نهايتها بدقائق.

نادي المقال و ما يحدث فيه لا يعكس عقلية الوسط الطبي فحسب. و إنما يعكس الحضارات و العقليات فيها بشكل عام. في مجتمعاتنا نعامل الشخص حسب مكانته. فإذا كان هذا الشخص ذو مكانة مرموقة ، معناها كلمته مسموعة و محتَرَمة مهما كانت تصريحاته غبية أو تافهة أو سطحية أو فقيرة للدليل العلمي الملموس. 

لذلك المسئول في الغرب (سواء في العلم أو السياسة) يراجع تصريحاته قبل إلقائها خشية الإحراج العام. الإحراج يشمل النقد الصحفي اللاذع على الهواء مباشرة ، أو تحاليل الخبراء بعد التصريح بفترة. بينما عندنا المسئول "يرمي قنابله و يمشي" أو كما يقال باللهجة الكويتية "يخنبق و يمشي". ربما أشهر قاذف قنابل من هذا النوع في تاريخنا المعاصر كان الرئيس الليبي الكوميدي الراحل معمر القذافي. و "اللي في أمه خير" كان يقول له "طال عمرك إنت فشلتنا جدام الناس".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق