الأحد، 6 أبريل 2014

إبقى قابلني إزا نجحت

  في البحث العلمي ، دراسة أي ظاهرة معينة تتطلب عدة شروط. منها شرط "المرجعية". فإذا قلنا مثلاً بأن فلان طويل أو قصير ، طول "فلان" مقارنة بطول من؟ هل وحدة القياس هي المتر؟ أو القدم؟ أو الياردة؟ لذلك إذا قمنا فرضاً بتجربة علاج ما، يجب أن تكون هناك مجموعة "مرجعية" من الأفراد بدون علاج لغرض المقارنة. أو ما تسمى بالإنجليزية مجموعة "الكونترول" (control group).

 نسمع من عامة الناس تعليقات شفهية (word of mouth) عن المطعم الفلاني بأنه سيء. أو عن الخطوط الجوية الفلانية بأنها أفضل من نظيراتها. عامة الناس أيضاً تقول بأن التعليم "برة" أفضل من التعليم المحلي. حاولت التعمق في تفاصيل الفروقات بين التدريس "عندنا" مقارنة بالتدريس "عندهم". و لم أجد أمامي مثالاً حياً أفضل من مدرسة أبنائي.  ذلك  لأنني أدرجتهم  في مدرسة ثنائية اللغة (عربي-انجليزي).

خلال كل إجتماع دوري لأولياء الأمور ، أقابل المدرسين الأجانب من العالم الناطق باللغة الإنجليزية (بريطانيا ، أمريكا ، أستراليا ، جنوب أفريقيا..الخ). و بعد ذلك بدقائق أنتقل لأقابل نظرائهم مدرسين المواد العربية ، إخواننا العرب. خلال الإنتقال أرى نفسي و كأنني أعبر حاجز من "البلازما" ينقلني من عالم إلى عالم آخر. أو من بُعد إلى بُعدٍ آخر. كما نرى في أفلام الخيال العلمي!  

المدرسين العرب رأيت فيهم هذه الصفات المشتركة

١. الإفتخار بالأقدمية في مهنة التدريس. 
قال عادل إمام في مسرحية مدرسة المشاغبين عبارته الفكاهية الشهيرة "بعد ١٤ سنة خدمة ثانوي بتقول لي أوقف!". انفجر الجمهور ضاحكاً لأن عادل إمام صوّر لنا في إطار كوميدي العقلية العربية التي تعتز بالأقدمية بدلاً من كفاءة الأداء و جودة  الإنتاج
مقطع من مسرحية مدرسة المشاغبين


٢. إفتقاد "أيام زمان الجميلة".
خصوصاً فترة ما قبل منع ضرب الطلبة و إيذاؤهم جسدياً. في نظرهم الطالب إنسان محتاج لهم. و المحتاج عليه أن يذل نفسه في سبيل قضاء حاجته. تمسكهم بهذا المعتقد نابع من حكمة "من علمني حرفاً صرت له عبداً". 

٣. التدريس ليس رسالة. و إنما وظيفة و باب رزق فقط.
و عليك استنتاج ما يترتب على ذلك من غياب الإبداع في الأداء المهني للمعلّم. و عدم صياغة المادة العلمية بشكل ممتع للطلبة. 

٤. إستخدام طريقة واحدة ثابتة جامدة في التدريس و التركيز على الحفظ أكثر من الفهم.
مثل محل الملابس الذي يبيع كل بضاعته بمقاس واحد و لون واحد. نموذجهم التدريسي واحد. شاء من شاء. و أبى من أبى. بمعنى آخر: فَهِمَ من فهمْ. و حَفِظَ من حفظْ.  و مخرجاتهم التعليمية يندى لها جبين الإنسان. ذلك لأننا إذا سألنا أحدهم عن تفسير ظاهرة محفوظة صم، كانت الإجابة التلقائية "ما هيّة كِدَة". الذي لا يفهم على طريقتهم يلقبونه "بالغبي".

٥. عندما يتحدثون ، يقعون في فخ المغالطات الفكرية الكلاسيكية.
الأمر المضحك و المثير للشفقة في الوقت نفسه لأننا نعيش في القرن الواحد والعشرين. 

٦. يحكمون على ذكاء التلميذ إعتماداً على عوامل أخرى غير قدراته.
 إحدى المدرّسات العربيات قالت لي بأن الأداء الأكاديمي في الرياضيات لإبني لم يكن بالمستوى المطلوب. شرحتُ لها بأنني تعثرت بنفس هذه العقبات عندما كنت في مرحلته لكنني تغلبتُ عليها و لله الحمد اليوم أنا طبيب. عندما سَمِعَت المدرّسة مني كلمة "طبيب" ، تغيرَت لهجتها و لغة جسدها بشكل واضح. قالت لي عن مستقبل إبني "الواعد" لأن ابن الوز عوام و كل "حَب يطلع على بذره". بعد ذلك بدقائق غيّرت الموضوع و طلبت مني "إستشارة طبية" بخصوص أخاها المصاب بمرض في القلب! (كلش مو وقته يا بنت الناس).

بينما المدرسين الناطقين باللغة الإنجليزية رأيت فيهم هذه الصفات المشتركة

١. الكفاءة في التدريس أهم من الأقدمية. 
بعض المدرسين الأجانب من مواليد التسعينات. الأمر الذي أثار استغرابي.

٢. هناك طرق لعقاب الطالب المشاغب أفضل و أنجع من الإيذاء الجسدي.
عل سبيل المثال إبقاء الطالب في الفصل وقت الفسحة (detention) أو العقاب الصامت (silent treatment).

٣. فلسفتهم في العمل: إذا لم تستمتع في التدريس ، ربما مهنة التدريس ليست مناسبة لك. 

٤. البحث عن طرق بديلة لتدريس المعلومة في حال فشل الطريقة الاعتيادية.
بصراحة الوسائل التعليمية باللغة الانجليزية "تشرح النفس".

٥. يفكرون من منطلق واقعي مبني على التجربة العلمية.

٦. معاملة الطلبة على أنهم متفاوتون في قدراتهم و ميولهم. لكن حقوقهم متساوية.
مثلاً هناك طلبة قدراتهم التحليلية في الرياضيات ممتازة. بينما غيرهم لديهم القدرة على إكتساب المهارات اللغوية بسهولة.


ربما الإخوة العرب ستأخذهم العزة بالإثم بعد قراءتهم رأيي في هذا المقال.
عواطفهم الجياشة ستجرفهم (كما هو متوقع) ليردّوا علي برسالة فحواها ...
"أنتم الحفاة العراة ناكرون الجميل. كنتم تحت الصفر و نحن الذين علمناكم و على أكتافنا رفعناكم".

أقول لإخواننا العرب: كلامكم صحيح ١٠٠٪. في الخمسينات و الستينات من القرن الماضي كنتم تأكلون بالشوكة و السكينة على طاولة الطعام بينما كنّا نأكل بيدنا متربعين على الأرض. كنتم تركبون السيارات في الشوارع المعبدة عندما كنا نركب الحمير و الإبل. كانت جامعاتكم في قمة إزدهارها عندما كان القليل من أجدادنا من يجيد القراءة و الكتابة. و كنتم الأفضل في الطب الحديث عندما كنّا على حافة الإنقراض من وباء الطاعون و الجدري. 

السؤال هنا: من هو "الكونترول"؟ إذا قارنا التعليم النظامي العربي القديم بتعليم الكتاتيب في الخليج ، بالطبع التعليم العربي أفضل.
و لكن إذا قارنا التعليم العربي القديم بالتعليم الغربي الحديث؟ لا يوجد هناك مجال للمقارنة! كأنك تقارن سرعة الحصان و سرعة السيارة. ثم تقارن سرعة السيارة بسرعة مكوك الفضاء. أو تقارن وزن الريشة بوزن وحيد القرن. زماننا هذا غير أيام زمان. التغنّي بالمجد القديم لن يجدي نفعاً في ظل التحديات الحديثة.    

الناس تستجيب للحوافز
الحق يقال هنا بأن الشغف في المهنة لا يكفي. خصوصاً إذا كان الحافز المادي ضئيل. مهما كان المعلّم متحمساً مندفعاً ، هناك أقساط لقروض طائلة و إيجار و فواتير أخرى تنتظر من يسددها كل شهر. راتب المدرس العربي لا يقارَن براتب نظيره الغربي. المدرس الغربي لن يعيش في الكويت براتب المدرس العربي مهما كانت ظروفه صعبة. الاستثناء هنا القوى العاملة من أوروبا الشرقية (الشيوعية سابقاً) لظروفها صعبة و المختلفة عن نظرائهم من أوروبا الغربية في هذا السياق

مبدأ "الخطأ الأساسي في توجيه الأسباب" (The fundamental attribution error) 
يتطرق هذا المبدأ إلى سوء فهمنا لسلوك البشر و تغاضينا عن الظروف المحيطة التي قد تؤثر على سلوكهم. سهل جداً علينا أن نفسر تصرفات الإنسان حسب نيته الشخصية. بينما نغض البصر عن الظروف الخارجية التي دفعته لهذه التصرفات. 

المعلم العربي غالباً لم تسنح له فرصة التعليم الجامعي في الغرب. بعضهم من عاش طول عمره  في الكويت. منهم من وُلِدَ و ترعرعَ فيها. بالرغم من ذلك يبقى "وافداً" في نظر الجميع. لا يستطيع الرجوع إلى بلد آبائه لأسباب سياسية و إقتصادية و إجتماعية. و مستعد للعمل براتب ضئيل لعدم توفر اختيارات أخرى. 

المعلم الأجنبي في الجانب الآخر لم يأتِ للعمل في الكويت  إلا بعقد دسم و مغري يستحق العناء والغربة. يعمل هذا الأجنبي في الكويت لفترة وجيزة مخطّطة. يجمع له فيها "قرشين" ليرجع إلى بلده المستقر سياسياً بعد انتهاء عقده. لذلك هل تتوقع من أداء المعلم العربي (مع ظروفه الصعبة) أن يضاهي أداء زميله الأجنبي؟

مقارنتي هنا المدرسين العرب بنظرائهم الأجانب كان كالفرق بين الأبيض و الأسود. و هذا ليس صحيحاً. فالواقع يفرض علينا أطيافاً رمادية. ففي الولايات المتحدة تتصاعد أزمة انخفاض جودة التدريس. لأن المدرسين مرتّباتهم دون المستوى. و شغفهم للتدريس في إنحدار. في المقابل ، هناك الكثير من الأساتذة العرب الفذين الذين بدونهم المؤسسة التعليمية تقع على وجهها و تتهشم. 

ما رأيته في مدرسة أبنائي منحني ومضة من ماضي دراستي منذ الروضة لغاية الثانوية العامة. في أحيان كثيرة لم أفهم المادة العلمية بالطرق التعليمية التقليدية. بعدما تخرجت من ايرلندا و التحقت بالبورد الكويتي للباطنية ، واجهت نفس العقليات العربية مرة أخرى بعد السبات الإيرلندي العميق ذو السنوات السبع. عندما كنت تلميذاً لأساتذتي العرب في الكويت على مر السنين الماضية كانت شعاراتهم لي في حال عدم فهمي لدروسهم .. "إبئى قابلني إزا فلحت. يا نكرة. يا حسالة المجتمع".   

بينما الطبيب الفرنسي الكندي "جان-فيليب" أحد أساتذتي في مونتريال قال لي "كلها مسألة وقت و سترجع بلدك لتصبح رئيس نفسك و تعالج مرضاك هناك. لذلك سأترك لك القرار الإكلينيكي لعلاج المرضى هنا. تستطيع من الآن فصاعداً الإعتماد على نفسك في التشخيص و العلاج بعدما علمتك الأساسيات العلمية المطلوبة للمهنة". 

مجزرة نادي المقال

  في الوسط الطبي هناك نشاط علمي أسبوعي مُتعارَف عليه يُدعى "نادي المقال" (journal club). خلال هذا النشاط ، يختار الطبيب المعني مقالة طبية عن بحث علمي معيّن أو دراسة حديثة في تخصصه ليناقشها مع زملائه و أساتذته.  الغرض من نشاط كهذا تحديث المعلومات الطبية للزملاء و بحث إمكانية تطبيق نتائج الدراسات العلمية الحديثة في علاج المرضى. 

  عندما أتى دوري لتحضير موضوع لنادي المقال ، إخترت مقالة طبية عن دراسة نادرة لموضوع حسّاس قد يغير ممارستنا للطب. إستُخدِمَت في هذه الدراسة أرقام صعبة و حسابات إحصائية معقّدة لا يفهمها غير خبراء الإحصاء. كوني أصلاً ضعيف في مادة الرياضيات ، إرتكبت غلطة كبيرة لا تغتفر. ذلك لأنني نقلت هذه الإحصائيات إلى عرض "الپاور بوينت" كما هي ، دون دراسة أو تحليل. أضِف إلى ذلك عدم استعدادي لذلك اليوم بسبب تقصيري للتحضير الكافي مسبقاً.

فمالذي حدث خلال ملتقى نادي المقال؟ بالنسبة لي: كانت مذبحة. كانت مجزرة. 

الإستشاريون أمطروني بوابل من الأسئلة و الإنتقادات اللاذعة...
- من أين أتيتَ بهذه الأرقام؟

- هل فهمتَ ما تحدثتَ عنه؟ أم أنك فقط إجتررتَ المعلومات و تقيأتها على ورق المحاضرة فحسب؟

- الدراسة منشورة فعلاً في صحيفة طبية مرموقة. لكن الإحصائيات غامضة و مبهمة و انت بدورك لم تدرسها بتمحيص. لماذا قدمتَ لنا موضوعاً لا تفهمه؟ يا أخي إذا كانت لديك صعوبات ، كان من الممكن أن تتصل بأحدنا قبل المحاضرة لنساعدك في إستيعاب بعض المفاهيم.

إنتهى الملتقى. وصَلَت دمائي إلى ركبتَي. و لكن  بعد أن تعافيت نفسياً ، اقترب مني أحد الاستشاريين القدامى و قال لي بأن المسألة ليست شخصية (it is not personal) و أي شخص غيري كان سيواجه هذه الأسئلة المحرجة مهما كان مركزه أو مسماه الوظيفي. فقط كان علي الإستعداد جيداً قبل المحاضرة. عندها أدركت الحقيقة المؤلمة.  في دول الخليج هناك أندية مماثلة للمقالات الطبية أيضاً. لكن الفرق بينها و بين الغرب هو الآتي:

١ - إذا كان البحث العلمي منشور في صحيفة علمية مرموقة ، الأطباء العرب يعتبرون الصحيفة "تعاليم سماوية" منزلة معصومة عن الخطأ. منقوشة على الحجر. غير قابلة للنقاش أو المساءلة. و إذا اكتشف أحد عيباً في الدراسة المنشورة و تجرأ و استفسر ، كان رد الجميع عليه "تنتقد هذه الدراسة بصفتك إيه؟".

٢ - عادةً الاستشاري العربي بطبعه لا ينزل من برجه العاجي و يحضر نادي المقال. الحضور يتكون أساساً من الزملاء الصغار الذين يفتقرون للمعرفة و الخبرة الكافية في النقد و التحليل العلمي. حضور الزملاء الصغار يكون إلزامياً فقط عليهم (توقيع كشف الغياب إلزامي). بينما في الغرب الحضور إلزامي للجميع و يشمل الإستشاريين أيضاً. الأمر الذي لم آلاحظه أبداً في الدول العربية. الاستشاري عندنا شبه إله (والعياذ بالله) فهو فوق كل قانون و كل إعتبار. 

٣ - إذا حدث و حضر الإستشاري العربي في نادي المقال ، فإنه "يغفو" في بداية المحاضرة و يستيقظ قبل نهايتها بدقائق.

نادي المقال و ما يحدث فيه لا يعكس عقلية الوسط الطبي فحسب. و إنما يعكس الحضارات و العقليات فيها بشكل عام. في مجتمعاتنا نعامل الشخص حسب مكانته. فإذا كان هذا الشخص ذو مكانة مرموقة ، معناها كلمته مسموعة و محتَرَمة مهما كانت تصريحاته غبية أو تافهة أو سطحية أو فقيرة للدليل العلمي الملموس. 

لذلك المسئول في الغرب (سواء في العلم أو السياسة) يراجع تصريحاته قبل إلقائها خشية الإحراج العام. الإحراج يشمل النقد الصحفي اللاذع على الهواء مباشرة ، أو تحاليل الخبراء بعد التصريح بفترة. بينما عندنا المسئول "يرمي قنابله و يمشي" أو كما يقال باللهجة الكويتية "يخنبق و يمشي". ربما أشهر قاذف قنابل من هذا النوع في تاريخنا المعاصر كان الرئيس الليبي الكوميدي الراحل معمر القذافي. و "اللي في أمه خير" كان يقول له "طال عمرك إنت فشلتنا جدام الناس".