السبت، 19 يناير 2013

قبل ان "نتحسّر" على الماضي الجميل


  كتب البعض من الناس (بالذات من ولد في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي) في مدوناتهم كم يفتقدون فترة طفولتهم أو مراهقتهم التي تزامنت مع فترة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. في هذا المقال سأوضح الانحياز العاطفي لهذه الحقبة التي نعتها البعض بمصطلح "الماضي الجميل" حيث الصحة كانت أفضل والنفوس كانت أطيب والناس كانت قلوبها صافية و درجة حرارة الجو كانت ألطف ، و الصغير كان يحترم الكبير ، والناس كانت متفانية في عملها.... الى آخره من الصفات الجميلة الخالية من الذم. 

  كوني من مواليد السبعينات ، سأحاول توضيح نقطة مهمة وهي أننا حالياً نعيش أجمل و أروع عقد في عهد الجنس البشري على الإطلاق بغض النظر عن ما يظن البعض. والذين ينظرون الى ماضينا على انه أفضل من حاضرنا قد وقعوا ضحية لما يسمى بالإنحياز التأكيدي (Confirmation bias). الانحياز التأكيدي معناه أننا عندما تكون لدينا عقيدة معينة ، فإننا لا شعورياً نبحث على الأدلة التي تؤكد عقيدتنا و نتجاهل الأدلة التي تنفيها ، حتى لو كانت الأدلة النافية أقوى من الأدلة المؤكدة لصحة هذه العقيدة.  
 سأضرب بعض الأمثلة التي تثبت نظريتي:

الانترنت و تبعاتها
ربما الاختراع الثوري الذي غير نمط حياتنا و العالم بأسره هو الانترنت وكل ما ترتب عليها مثل البريد الالكتروني ومواقع التعارف والمنتديات ...الخ. فكرة اتصال العالم ببعضه البعض دون الاستعانة بخطوط الهاتف و بتكلفة رمزية فتحت قنوات إتصال لم يحلم بها أباؤنا و أجدادنا في حياتهم.

دمج جهاز الكمبيوتر بنمط حياتنا اليومية
في حقبة الثمانينات كنا نحتفظ بأغانينا و أفلامنا وكتبنا المفضلة بالترتيب على أرفف في مكتباتنا و في أدراجنا حيث تأخذ مساحات كبيرة. الآن كل الأغاني و الأفلام و الكتب محفوظة في جهاز الكمبيوتر ، و الأغاني ننسخها الى جهاز الأغاني الرقمي (mp3 player).

كل هذا بالإضافة الى الزوال التدريجي لقرطاسية المكتب و استبدالها بالكمبيوتر المحمول (laptop) و الكمبيوتر اللوحي (tablet PC). و هنا ظهر مصطلح "مكتب بدون أوراق" (paperless office). 
الكمبيوتر اللوحي
هذا الاختراع الذي بدأته شركة أبل بجهازها الآيباد غير نظرتنا لقراءة الكتب والجرائد وكتابة المقالات و الملاحظات و تصفح الانترنت و الاتصالات و مشاهدة الأفلام و سماع الموسيقى و غيرها من المعاملات و مهما وصفت ميزاته ، مقالة واحدة لن توفيه حقه. شكراً للعبقري الراحل ستيف جوبز. 

الهواتف المحمولة الذكية
في زماننا هذا لا نحتاج لحمل ساعة يد أو كاميرا فوتوغرافية أو كاميرا فيديو أو جهاز كمبيوتر أو مسجلة أغاني. لأن كل مانحتاجه من هذه الأجهزة متوفر في جهاز واحد بحجم راحة اليد. شكراً لكل من ساهم في تطوير هذه  التكنولوجيا الرائعة.

في "الماضي الجميل" كانت هذه الهواتف بالمقارنة بدائية متخلفة ، ثقيلة الوزن كبيرة الحجم، أسعارها خيالية و المكالمات عن طريقها نسبياً مكلفة. في الثمانينات كان الهاتف المحمول خاص بطبقة الأثرياء و المبذرين و رجال الأعمال فقط. 
التصوير الفوتوغرافي والفيديو
في الزمان الجميل كان التصوير الفوتوغرافي مصيبة ، لأن الكاميرا الفوتوغرافية تحتاج الى "فيلم" باهظ الثمن سعته ٢٤ أو ٣٦ صورة ، و بعد التصوير نرسل الفيلم الى المصور الذي يستغرق "تحميضه" للأفلام بالمتوسط ٢٤ ساعة. بينما التصوير الفوتوغرافي الرقمي و نشر الصور وتبادلها بالانترنت حالياً أخذ هذه المعاناة خارج المعادلة.
تصوير الفيديو الباهظ الثمن لا يختلف كثيراً، فالتصوير كان على "شريط" رديء الجودة قابل للتلف. أما الآن فلا نحتاج إلى أشرطة ، شكراً لتكنولوجيا التسجيل الرقمي. والتصوير عالي الجودة أسعاره معقولة و نشره سهل جداً عن طريق اليوتيوب. 

تخليص المعاملات الحكومية و دفع الفواتير
شكراً لتكنولوجيا الاتصالات ومن طوّرها ، تخليص العديد من المعاملات الحكومية يتم بالانترنت (أون لاين) و دفع الفواتير يتم بالسحب المباشر من رصيد البنك (كي نت أو بالبطاقة الإئتمانية). بينما في "الماضي الجميل" أكثر هذه المعاملات كان تخليصها باليد ، و دفع الفواتير نقداً (كاش). 

السفر البري
شكراً للتكنولوجيا المتطورة و الانترنت و مجلس التعاون الخليجي وجسر الملك فهد بين البحرين والسعودية ، المواطن الخليجي يستطيع السفر براً بين كل دول الخليج ببطاقته الشخصية دون الحاجة لتأشيرة دخول أو حتى جواز سفر. وفي الطريق البري محطات الوقود و الخدمات و أجهزة الخدمات المصرفية متوفرة على الطريق نفسه أكثر من أي وقت مضى. حالياً السفر براً ممتعاً إذا قارناه بالسفر البري منذ ثلاث عقود مضت. 
السفر بالطائرة
خلال السبعينات والثمانينات كانت الخطوط الجوية الكويتية تقريباً الوكيل الحصري لسفر الكويتيين. المؤسسة مدعومة حكومياً و تقريباً كانت دون منازع آنذاك.

الجيل الجديد من شباب الكويت لم يعاصر "الألم" الذي عاصرناه نحن في تلك الفترة كلما رغبنا بالسفر جواً. و "بالألم" هنا أعني:

١ - الموظفون الكويتيون في المؤسسة يعاملون العميل على أنه مراجع في أي إدارة حكومية. 

٢ - حجز و شراء التذاكر لا يتم إلا بالحضور شخصياً لمكتب السفريات، معناه ان العملاء (أو المراجعون) كانوا ينتظرون بالساعات في المكتب خلال ذروة مواسم السفر. 

٣ - يتم إلغاء الحجز تلقائياً (أو إلغاؤه بالواسطة لتضبيط أحد أقارب الموظفين) إذا لم يتم تأكيده هاتفياً قبل ٧٢ ساعة من السفر.

٤ - كون الخطوط الكويتية مؤسسة مدعومة حكومياً ، رضا العميل ليس من أولوياتها بطبيعة الحال. ناهيك عن أن الفساد الإداري الذي ينخر الدوائر الحكومية لا يستثني هذه المؤسسة. 

أما الآن ، بغض النظر عن الحالة المزرية للخطوط الجوية الكويتية ، فالخطوط الجوية الأخرى محلية كانت أو أجنبية ، تجارية أو منخفضة التكاليف (مثل طيران الجزيرة) ، تتنافس بضراوة في عدد طائراتها و رحلاتها و جودة خدماتها وأسعارها وعروضها الترويجية في سبيل إرضاء الزبون. نستطيع الآن تخليص كل إجراءات السفر جواً عبر الهاتف المحمول من الحجز ودفع تكاليف السفر ، إلى تسجيل الدخول للطائرة (check in) خلال دقائق. السفرالآن ممتع و سهل و بتكاليف معقولة أكثر من أي وقت مضى. 

الصحة: في الماضي الجميل كانت الناس بصحتها ، أما الآن فالكل يشكو من المرض. 
علم الطب شأنه شأن أي علم ، في تطور و تحديث مستمر. و من يؤمن بأن صحة الناس في "الماضي الجميل" كانت أفضل من صحة الناس الآن ، أنصحه بأن يعيد النظر في تفكيره.  ذلك لأن متوسط عمر الفرد في ازدياد مستمر بسبب تطور الوعي الصحي و تنوع الطرق العلاجية. هذا غير أن هناك العديد من الأمراض والعلل كانت موجودة منذ الأزل ولكن لم يكن لها تشخيص في السابق، للمثال لا الحصر:
- قبل معرفة و تشخيص علة عسر القراءة (ديسليكسيا Dyslexia) ، كم طالب كانت لديه هذه العلة و ظن أستاذه بأنه مهمل أو متخلف عقلياً؟
- قبل معرفة وتشخيص متلازمة البروغادا (Brugada Syndrome) وهي إحدى أمراض الموت الفجأة خلال النوم ، كم شخص كانت لديه هذه المتلازمة و مات في سريره و دفنوه ذويه دون معرفة السبب؟
  
الضرب في المدارس وانحدار أخلاق الطلاب
يشتكي عشاق الماضي الجميل من انحدار أخلاق الجيل الجديد من الطلبة ، و يعلل البعض هذا الانحدار بسبب منع ضرب الطلبة في المدارس. هؤلاء العشاق قد تجاهلوا الجانب الآخر من القصة و بذلك أعني:

١ - في كل زمان ومكان هناك من هو مؤدب و من هو قليل الأدب. مقدار الأدب يعتمد على صفات الطالب نفسه الموروثة منها والمكتسبة. تحطيم الطالب جسدياً بالضرب والإهانة العلنية (وبالتالي نفسياً) لن يغير سلوكه ، وهذه حقيقة لا مفر منها. الخوف من السلطة المتعسفة شيء و زرع الأدب الأصيل في نفس الطالب شيء آخر.

٢ - بعض الأساتذة لديهم ميول سادية ، و بالتالي يستمتعون بضرب طلبتهم دون حسيب.
٣ - مبدأ "القيادة بالقدوة" (Leadership by example) معدوم في مجتمعنا.
مثال: الأستاذ يضرب التلميذ (و ربما يفصله من المدرسة) بسبب سيجارة دخنها هذا التلميذ، والأستاذ نفسه مدخن من العيار الثقيل و لسنوات طويلة. "القيادة بالقدوة" مفهوم لن يستوعبه العرب ولا بعد مائة عام.

القصد: الأمثلة المعدودة التي وضعتها في هذا المقال أثبتت و بوضوح بأن زماننا هذا أفضل من الماضي التعيس (لأنه لم يكن جميلاً أبداً). و لكن في الوقت نفسه لا ننكر بأن كل دولة في العالم تمر بفترة رخاء ، أو ما يسمى بالعصر الذهبي.

خلال العصر الذهبي
الناس بسيطة و متفائلة و متفانية في عملها ، والمرتبات مرتفعة ، و أسعار السلع رخيصة ، و العقارات متوفرة و بأسعار معقولة ، و فرص العمل و البعثات الدراسية متنوعة ومتوفرة للجميع  وبأدنى منافسة.

فهل كانت  حقبة الثمانينات هي العصر الذهبي للكويت؟ هذا سؤال وجيه لا أعرف إجابته. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق