"ما شاء الله عليك دكتور بدر ، جداً متواضع"
جملة سمعتها مراراً من الزملاء والمرضى على حد سواء.
أنا لست متواضعاً. أنا انسان واقعي. واقعي مع نفسي قبل أن أكون كذلك مع الغير.
لإيصال وجهة نظري قررت كتابة هذه المدونة المختصرة.
البعض يظن بأن التواضع نابع من التدين (من تواضع لله رفعه). التدين يعزز التواضع و لا يؤسسه. التواضع في هذا السياق لا يحتاج التدين لتعزيزه ، وهذا الذي لاحظته في علماء الغرب الفطاحل وتواضعهم الرهيب مقارنةً ببعض علماء عصرنا "المسلمين" و غرورهم الذي يوازي الجبال في ضخامته.
ثلاث نقاط بسيطة نحتاجها لنتواضع: مكاننا في الكون ، أهمية الحظ ، و الأمر الواقع.
مكاننا في الكون
قارن حجمك و و وزنك و عمرك الافتراضي كإنسان بحجم و وزن و عمر الكرة الأرضية. ثم قارن كوكبنا الصغير بكواكب المجموعة الشمسية الأخرى. ثم قارن مجموعتنا الشمسية الضئيلة بمجرتنا "درب التبانة" التي تحوي مليارات النجوم والمجموعات الشمسية. ثم قارن مجرتنا بالكون المترامي الأطراف وملايين المجرات التي تتباعد فيه بسرعات خيالية. إذا ظننتَ بأن هذا الكون ، الذي لا تستطيع عقولنا البدائية استيعاب حجمه المروع ، قد تم خلقه ليدور حولك و يتمحور عليك انت فقط ، ستكون بلا شك هدفاً سهلاً لسخرية الغير منك.
نحن نحاول إطالة أعمارنا بالوعي الصحي و بالتقنيات الطبية الحديثة ، ونجعل لحياتنا قيمة بتخليد ذكرانا قدر المستطاع. لكن في النهاية حياتنا ما هي إلا صراع خاسر و أعمارنا الافتراضية ما هي إلا وميض سريع مقارنة بعمر الكون. نحيا ثم نموت: من التراب الى التراب. حالنا حال مليارات الكائنات الحية التي عاشت و ماتت و انقرضت على سطح هذا الكوكب الساخن ذو القشرة السطحية التي لاتزال في طور التبريد.
الحظ : العامل المشترك الواحد.
نظريتي عن صفات مثل الغرور و التكبر و الغطرسة بأنها صفات مميزة ، لأنها تشترط بالضرورة على صاحبها أن يكون انساناً ذو انجازات اسطورية ضخمة تركت بصمة مميزة للجنس البشري. فالمغرور أو المتكبر أو المتغطرس أصبح كذلك لماله ، أو ذكائه ، أو قوته ، أو نفوذه ، أو حسبه ، أو جنسيته ، أو لأنه ، بكل بساطة، كذب كذبة و صدقها. كل هذه الظروف لها عامل مشترك واحد ألا وهو "الحظ". والحظ يأتي من نفسه دون أي مجهود يستحق الغرور و التكبر.
الحظ يأتي مع الانسان منذ اللحظة الأولى وهو نطفة ملقحة مزروعة في رحم أمه. لذلك ، و في هذا السيناريو الواقعي -حتى النخاع- ليس للتواضع أي وجود هنا. ذلك لأن الانسان يولد الى هذه الدنيا دون أن يختار والديه أو جنسه أو جنسيته أو دينه أو مذهبه أو حتى جيناته التي ستحدد لون بشرته و قوة نظره و جسده و طباعه و معدل ذكاؤه و حتى أمراضه الوراثية التي ستحدد مستقبله وعمره الافتراضي.
و أهمية الحظ لا تقف هنا فحسب ، فالحظ يلعب دور في الزمان أيضاً. فالذي يولَد في العصر الذهبي في السنين السمان حظه غير حظ الذي يولَد في السنين العجاف و الفترات العصيبة. والأمثلة على أهمية الحظ كثيرة جداً نراها في حياتنا وحياة غيرنا بشكل يومي ، منها الآتي:
"باراك أوباما"ورث قدراته القيادية و الكاريزما التي يتميز بها من أجداد أمه. و لو ولِدَ أوباما في الولايات المتحدة قبل مائة عام (الزمان) أو في بلد غير الولايات المتحدة (المكان)، لكان من المستحيل أن يكون رئيساً لأقوى دولة في العالم في عصرنا هذا مهما حاول أو كافح. لذلك هو محظوظ.
و ألبرت آينشتاين لو لم يهرب من ألمانيا النازية ، أو لو هرب الى دولة أخرى غير الولايات المتحدة ، لما استفاد العالم من نظرياته التي أسست الفيزياء الحديثة. و جراح القلوب مجدي يعقوب لو لم يحالفه الحظ بهجرته الى بريطانيا لما أصبح أشهر جراح قلب في العالم. و ستيف جوبز لو أخذه أبوه السوري معه الى سوريا لما أسس شركته "أبل" التي لولاها لما طبعت هذا المقال على جهازي الأيباد.
و المواطن الكويتي محظوظ لأنه يعيش في دولة نفطية ريعية ديمقراطية خالية من الضرائب ، توفر التعليم و الرعاية الصحية بالمجان ، فيها للمواطن كرامة. ميزات كهذه يفتقدها الكثير من الناس في دول أخرى.
و أهمية الحظ لا تقف عند العظماء فحسب. فإلى حد ما ، كلنا محظوظون لأننا نعيش في القرن الواحد و العشرين ، نتمتع الآن بتقنيات لم يحلم بها أجدادنا الأوائل ، تقنيات تابعها أباؤنا في أفلام الخيال العلمي فقط. لذلك اذا وقعتَ في فخ الغرور لجمالك أو ذكائك أو جنسيتك أو...الخ ، فاعلم بأن حظك له دور كبير في تكوينك و ولادتك في الزمان المناسب و المكان المناسب أيضاً ، لذلك ليس هناك ما يستدعي الغرور. لأنك في نهاية المطاف كان حظك الوافر سبب ما أنت عليه الآن.
الأمر الواقع : لا تعش الدور.
في حقبة الثمانينات كان هناك مسلسلاً كويتياً بعنوان "الغرباء" يروي قصة حاكم ظالم مستبد ، كان هذا الحاكم "أعرجاً" و بالرغم من إعاقته ، كان يلقب نفسه "بكامل الأوصاف". من هنا يأتي التناقض المضحك (والمقصود في المسلسل) في طبيعة البشر: عندما يظن الحاكم الأعرج أنه "كامل الأوصاف". أدركتُ لاحقاً بأنه من السهل جداً أن يكذب الانسان و يصدق كذبته. لقب "كامل الأوصاف" كان رسالة واضحة لنا عندما كنا أطفالاً ايصال هذه الفكرة. و لكنني لم أستوعب الدرس آنذاك. في اللهجة الدارجة نقول عن الذي يصدق كذبته بأنه "عايش الدور" أو "عايش الوهم".
أول من عاش الدور كان ابليس ، عندما قال لربه "خلقتني من نار وخلقته من طين".
فالطبيب الذي يتخرج من كلية الطب بعد ١٥ سنة بسبب رسوبه السنوي المتكرر ، يحصل على وظيفة محترمة فقط لأنه محسوب على استشاري في قسمه ، يتضايق إذا ناداه أحد بإسمه فقط دون لقب "دكتور". شخص كهذا عايش الدور.
و البنت ذات الجمال دون المتوسط تفوز في مسابقة ملكات الجمال (لأن والدها رئيس لجنة التحكيم) تسير مختالة رافعة أنفها في السماء ، ترفض كل من يتقدم لخطبتها و لا تذهب الى مجمعات التسوق خوفاً من أن "يتحرش" بها أحد لجمالها الأخّاذ! بنت كهذه تعيش الدور.
والمطربة اللبنانية صباح التي لا تزال ترى نفسها "شحرورة" بينما أطباء التجميل بذلوا ما في وسعهم "لِشَد" بشرتها قدر الامكان لإخفاء تجاعيدها ، لا تزال عايشة الدور.
و محمد علي كلاي الذي كان يقول عن نفسه "أنا الأعظم" (I am the greatest) مرض الشلل الارتعاشي (مرض باركينسون) كان أعظم منه. كلاي عاش الدور آنذاك.
و شاه ايران عاش الدور في جبروته عندما أطلق على نفسه "شاهنشاه" (بالفارسي: ملك الملوك) أين هو الآن؟
و صدام حسين الذي عاش الدور كونه "سيف العرب" و "حامي البوابة الشرقية" ، أين هو الآن؟
و معمر القذافي الذي عاش الدور و أصبح "ملك ملوك أفريقيا" ، أين هو الآن؟
و غيرهم الكثير ممن عاشوا الدور و تناسوا موقعهم في الكون بتأليفهم الكذبة و من ثم تصديقها.
القصد:
تستطيع أن تكذب على كل الناس ، ولكن لا تكذب على نفسك. كن واقعياً مع نفسك على الأقل.
الخلاصة
تذكر النقاط الثلاث أعلاه كلما أغرتك نفسك للغرور و التكبر على غيرك.
فإذا كنتَ جميلاً أو نابغة أو ممشوق القوام
فأعلم انك لم تحصل على جمالك/ذكائك/قوامك بمجهودك ، انما كنت محظوظاً عندما ورثت الجينات المناسبة من والديك. و اعلم بأن هناك دائماً من هو أفضل منك حتى إذا كنت قمر زمانك ، فجمالك ليس دائماً.
إذا كنت طبيباً ناجحاً على سبيل المثال ، فتذكر انك حتى لو كنت الأول على دفعتك ، كنتَ محظوظاً لحصولك على مقعد في كلية الطب ، ومحظوظاً أكثر لأن هناك من دعمك و ساندك في دراستك المضنية الطويلة. و تذكر عند ارتدائك للمعطف الأبيض كل يوم بأن هناك الكثير من الأمراض التي لا يزال الطب عاجزاً عن تشخيصها أوعلاجها ، و مهما كنتَ نابغة زمانك فهناك من هو أذكى منك (و هناك من يفوقك تواضعاً أيضاً).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق