مركز "القلب الزايغ"
أكبر مركز متخصص لجراحات القلب التخصصية في بلاد الواقواق. تعدّى عدد الأطباء العاملين فيه المائة طبيب.
الأطباء. الدكاترة. من كثرتهم ، لا تكفيهم غرفة إستراحة الأطباء. لذلك تراهم يتسكعون في "لوبي" المركز و في ممرات الأجنحة. يجلسون و يتبادلون الحديث في غرفة الخفارة و الكافتيريا. في أغلب أيام الأسبوع ، إذا كان في العناية المركزة في يومٍ ما ، فَرَضاً ، أربع مرضى. سيكون هناك في المقابل خمس أطباء في نفس غرفة العناية! بمعنى أن عدد الأطباء في المركز أكثر من عدد المرضى.
إعلان حالة الطواريء
نظرياً. على الورق. طاقة العمل كحد أدنى في المركز عشرين طبيباً. أقل من عشرين طبيب و المركز سيقع على وجهه و الخدمات الصحية فيه ستنهار. بالرغم من ذلك ، و بعد إستقالة خمسة أطباء دفعة واحدة. أعلن المركز حالة من الطواريء و أزمة حادة في الكوادر. ساد الذعر و إنتشر الهلع بين الزملاء خوفاً من هذا "النقص الحاد" في الأيدي العاملة. و بدأ البعض في الإتصال بوكالات التعيين و مكاتب التوظيف لإستقدام أطباء جدد لسد هذا "النقص الكبير".
كنت أنا آخر من تعيّن في المركز قبل بضع سنوات. أي أنني كنت الطبيب رقم ١٠١. حاولت فهم حالة الخوف الجماعي هذه. كوني الطبيب الجديد. و إستيعاب الذعر الذي انتشر بين الزملاء. إلى أن جالستُ أحد الأطباء القدامى المخضرمين ، وكان من أوائل من عملَ في المركز. سألته محتاراً: كان عددنا ١٠١ طبيب. و الآن نزل عددنا إلى ٩٦ بعد إستقالة الأطباء الخمسة. لا تزال أعدادنا كبيرة ، أحياناً تفوق أعداد المرضى. لِمَ إذاً هذا الرّعب؟
فقال لي ...
"يا صاحبي ، الخطوط الحمراء في مركزنا كثيرة. إلى درجة تسميته بمستشفى الخطوط الحمراء عند بعض الزملاء من المستشفيات الأخرى من باب السخرية".
بعد ثوانٍ من الصمت المخلوط بالدهشة من ناحيتي ، و الإبتسامة الصفراء الساخرة من ناحية صاحبي ، أكمل حديثه...
لنبدأ بالتعريف. ما المقصود بالخط الأحمر؟
الخط الأحمر هو الحدود "العُرفية" التي لا يمكن تعدّيها. "التابو" (taboo) الذي لا يمكن مساءلته. الحصانة التي تستثني صاحبها من روتين التفتيش. عند إنقطاع أحد الأطباء عن العمل لأي سبب (إجازة ، إستقالة ، تقاعد ، وفاة)، يتم "توزيع" مهام الطبيب الغائب على بقية الزملاء. لكن توزيع المهام مستحيل لوجود هذه الخطوط الحمراء الكثيرة.
١. الإستشاري خط أحمر
الإستشاري في دول العالم المتقدمة عمله كثير و مسئولياته جسيمة لأنه يشرف مباشرة على من هُم تحته في الهرم الوظيفي. الإشراف مهمة متعبة لأن أي خطأ طبي سيحمل مسئوليته الاستشاري. لذلك في الدول الأخرى يتفادى البعض هذا المنصب و هذا المسمى لثقل المسئولية المرتبطة به.
بينما في مركزنا العتيد ، الإستشاري عمله قليل. و مسئولياته أقل. المشكلة أن الإستشاري عندنا ذاته مصونة لا تُمَس. لا يجرؤ أحد على إضافة مهام إضافية على عاتق الإستشاري. لذلك يتهافت الأطباء الصغار الطموحين على الترقية المبكرة بهدف الراحة و التسيّب عن العمل دون محاسبة. إحترام الرتبة الأعلى عندنا في المركز يشابه إلى حد كبير ما نراه في الخدمة العسكرية. الإستشاري يتربع على قمة الهرم الوظيفي. و لا أحد يجرؤ على محاسبة أعلى رتبة في هذا الهرم.
٢. "القديم" خط أحمر
في "خُف علينا يا روبن هود" ذُكِرَ الرجسترار الاستشاري. الطبيب المتواجد في نفس المهنة بنفس المنصب و نفس المسمى الوظيفي. رقّى نفسه بنفسه بالأقدمية و أعفى نفسه بنفسه من المهام الصعبة/المتعبة المفروضة عليه. حجته في ذلك "أنا غير باقي الدكاترة. أنا قديم". الطبيب القديم وظيفته ثابتة و راكدة لسنين طويلة. لكنه كوّن لنفسه خلال السنوات الطويلة علاقات جيدة مع الإستشاريين و رؤساء الأقسام فأصبح محسوباً عليهم. يعامَل مثلهم. لا نجرؤ على زيادة مهام الطبيب القديم.
٣. الإناث خط أحمر
الكفاح في مهنة الطب لا يفرّق بين الذكر و و الأنثى. بعض التخصصات الطبية مريحة نسبياً و العمل فيها بالفترة الصباحية فقط ممكن. بينما هناك تخصصات أخرى متعبة تشترط تواجد الطبيب في المستشفى في أي وقت على مدار الساعة. مثل طب الطواريء و الجراحة و قسطرة القلب و غيرها من التخصصات الحرجة. لا يوجد في المركز ما يقهرني و يفقع مرارتي أكثر من "طبيبة" تتخصص في تخصص متعب مثل القلب و تشترط فيه الراحة.
"الدكتورة" في مركز القلب الزايغ ترفض المناوبات الليلية. حجّتها "إحنا بنات ناس و أهلنا ما يخلونا ننام برة بيوتنا". فلماذا إذاً يا سعادة "الكونتيسة" إخترتِ تخصصاً صعباً متعباً كجراحة القلب؟ بسلوكك هذا أنتِ تتعبين نفسك و تتعبين زملاءك في العمل أيضاً. هذا غير أن الطبيبة أذوناتها كثيرة و إجازاتها المرضية كثيرة. و تطلب "تخفيف عمل" لأسباب كثيرة. فهل نستطيع أن نطلب من الإناث أداء مهام إضافية لتغطية العجز الموجود؟ طبعاً لا.
٤. البلطجي خط أحمر
"البلطجي" هو من ينال مراده بالوقاحة و قلّة الأدب. بطول اللسان. و طول اليد أحياناً إذا إستدعى الأمر. البلطجي لا يحترم سلسلة القيادة أو القانون. مستعد لإيصال شكواه إلى أعلى سلطة مباشرة. متخطياً بذلك رئيسه المباشر. ضارباً بعَرض الحائط التسلسل القيادي. يقطع أي شوط و يسخّر أي "واسطة" في سبيل تحقيق أهدافه مهما كانت العواقب.
مبنى "القلب الزايغ" العتيد له إطلالة على بحر الواقواق كما تعلم. عندما باشر العمل أحد البلطجية ، و منذ اليوم الأول ، قام بجولة إستكشافية لغرف العيادات. إختار العيادة ذات الإطلالة الأجمل على البحر و حَجَزَها لنفسه فوراً و بوضع اليد. بالرغم من أنها كانت محجوزة مسبقاً لأحد لغيره. دَخَلَها و رمى أثاث الزميل السابق و وضع أثاثه. بكل وقاحة غيّرَ كيلول الباب بمفاتيح جديدة. و الجميع بقيَ صامتاً مذهولاً. خوفاً من البلطجة المعتادة لصاحبهم.
البلطجي لا يساعد. و لا يتطوّع لخدمة أحد. و لا يداوم المناوبات الليلية. تخيل ما سيحدث لو كلفناه بمهام أكثر من تلك المفروضة عليه؟ البلطجي عليه أقل كمية من المهام و أعتقد الأسباب إلى هنا واضحة.
٥. المواطن خط أحمر
سياسة التعيين في الواقواق معروفة. المواطن وظيفته محفوظة آمنة. فصله من العمل خط أحمر. الأمان الوظيفي مهم جداً لأبناء البلد. لذلك مهما كان الموظف الواقواقي مهملاً أو مقصّراً ، طرده من الوظيفة أمر مستحيل غير قابل للمناقشة. بعض المدراء إبتكروا حلولاً أخرى ذكية للتخلص من الواقواقيين الكسالى في إداراتهم.
منها للمثال ، الترقية السريعة و النقل: الواقواقي الكسول يترقى بسرعة ليُنقَل إلى إدارة أخرى و بالتالي يتم التخلص منه (دفعة مَردي و الهواء شرقي). أو التجميد: حيث يظل الواقواقي في نفس مسماه الوظيفي دون ترقيات إلى أن يمل من وظيفته و يطالب بنقله إلى إدارة أخرى. أياً كانت الحيلة أو التكنيك ، فالمواطن لا يُطرَد من عمله مهما كان سيئاً.
٦. فص الملح خط أحمر
يقال عن الشخص الذي يتوارى عن الأنظار فجأة أنه "فص ملح و ذاب". و هو يشابه مقاتل النينجا في هذا الجانب. الطبيب فص الملح له الصفات العامة التالية:
- يداوم متأخر ربع ساعة و يرجع بيته مبكر نصف ساعة.
- ليتسنى له الإختفاء السريع ، فلسفته في العمل الكَروَتة.
- بين فترة و أخرى يترك رأس عمله في العيادة أو الجناح و يختفي عن الأنظار دون إنذار مسبق و عذره دائماً متوفر و جاهز: كنت أصلي. كنت في الحمّام. كان عندي مشوار في الحوادث. كنت عند رئيس القسم.
مصداقيته ضعيفة. لأنه في أغلب الأحيان يكون متواجداً في الكافيتيريا لشرب القهوة ، أو في إستراحة الأطباء لقراءة الجريدة. دكتور "فص الملح" بالكاد يؤدي الواجبات المفروضة عليه. فما بالك إذا طُلِبَ من أداء واجبات إضافية؟
٧. بروسيجرمان خط أحمر
الطب يتكون من عدة تخصصات. و كل تخصص يحوي عدة مهارات.
على سبيل المثال: طبيب النساء و الولادة. في العيادة يتابع الحوامل و يعالج حالات العقم و يصِف حبوب منع الحمل و تنظيم الدورة و غيرها من الأمراض النسائية. و يستخدم السونار لفحص محتويات الرحم و الحمل ، و يؤدي مجموعة من الجراحات النسائية من عمليات قيصرية أو تنظيفات للبطانة أو إستئصال للرحم أو ربط قنوات الإباضة ...الخ.
بروسيجرمان (procedure man) هو الطبيب المختص في مهارة واحدة. مهارة واحدة فقط لا غير. و لا يرضى بممارسة أي مهارة أخرى. مثلاً طبيب قلب لا يعرف غير القسطرة. أو جرّاح لا يعرف غير عمليات البطن المفتوح. بروسيجرمان وجوده مفيد في المراكز التخصصية المزدحمة. لأنه يتقن العملية الوحيدة التي يعرفها. مشكلته أنه غير مستعد لتغطية أي خدمات أخرى مثل العيادة الخارجية أو المرور في الأجنحة. لذلك في حال نقص الكوادر ، بروسيجرمان ليس له فائدة للمكان.
٨. "القفل" خط أحمر
"القفل" هو الذي يرفض و بشدّة أن يتعلّم أو يكتسب مهارات جديدة. تعلّم الطب في الجامعة و أكمل تخصّصه و إنتهى تعليمه عند هذه النقطة. بينما الطب الحديث في تطوّر مستمر و تحديث دائم. إلا أن "الدكتور القفل" راضٍ بالمعلومات المعتقة المحفوظة في عقله. حتى لو كان قد تخرّج من الجامعة قبل ٣٠ عاماً. الدكتور القفل مخلوق على الروتين (creature of habit) و لن يغيّر روتينه. لذلك هو غير مستعد لتغطية أي نقص في القسم.
٩. الملك السابق خط أحمر
بعض الأطباء كانت لهم مناصب رفيعة في بلدانهم. دكتور فلان كان أستاذاً في الجامعة. و دكتور علّان كان نجماً ساطعاً في عيادته الخاصة المزدحمة بالمرضى ، حيث كان المريض لا يجد لنفسه موعداً فيها لعدة شهور. أطباء كهؤلاء كانوا "ملوكاً" في بلدانهم.
لكن دوام الحال من المحال. حَكَمَت على بعضهم الظروف الإقتصادية الصعبة و الحاجة لترك بلدانهم و النزوح إلى الواقواق للعمل في مركز القلب الزايغ. المشكلة الأساسية في هؤلاء الأطباء أنهم يظنون أنفسهم أنهم "الكل بالكل" في المستشفى. عايشين دورهم الذي كانوا يعيشونه في بلدانهم.
المضحك في الموضوع ، و المثير للشفقة أيضاً ، أنهم عندما يعرّفون عن أنفسهم، ينسبون أنفسهم إلى الجامعات أو المستشفيات التي كانوا يعملون فيها في بلدانهم قبل نزوحهم إلى بلاد الواقواق. بمعنى أن لا أحد منهم يقول "معاك الدكتور فلان من مركز القلب الزايغ".
لا يعلمون أنهم بلا نفوذ خارج حدود دولهم. في الواقواق هم سواسية مع بقية الطاقم الطبي في المركز. لا أحد أفضل من أحد. لكنهم بالرغم من ذلك يعيشون الدور ، و يقول أحدهم "أنا ... ستاف الجامعة في بلدي ... أشتغل في عيادة؟ و الله عيب". و نحن في المقابل نتغاضى عن سلوكهم النرجسي من باب "إرحموا عزيز قومٍ ذَل".
لاحظ يا صديقي ...
الخطوط الحمراء هي "أنماط" و ليست أفراد.
من الممكن أن يكون للفرد الواحد أكثر من نمط. مثلاً ...
دكتورة بلطجية.
أو دكتور قديم قفل.
أو إستشاري بروسيجرمان.
الأطباء الخمسة الذين إستقالوا و بسببهم وقعت أزمة "نقص الكوادر" كانوا الطبقة الكادحة للمركز. المحرك الرئيسي الذي يدير المكان كله وراء الكواليس. كانوا يعملون بصمت. بطيبة. بتعاون مُطلَق. كانوا مستعدين لتغطية النقص في المركز (فترة الصيف مثلاً) دون جدال أو مناقشة. ماهرون في تخصصاتهم. و على إستعداد تام و إنفتاح لإكتساب مهارات جديدة. ليست لديهم "مكاتب" لأنهم لم يطالبوا بها. لأنهم من كثرة نشاطهم و مهماتهم كانوا لا يحتاجون إلى مكاتب أصلاً.
الأخلاقيات المهنية العظيمة لهؤلاء الخمسة جعلتهم في نظر من حولهم حيطة مايلة. طوفة هبيطة. تم إستغلالهم من الإنتهازيين حولهم. و بعدما إستوعبوا هذه المؤامرة المؤلمة ثاروا و لكن بصمت. حافظوا على إبتسامتهم. إستمروا في سلوكهم المهني الإحترافي كما هو.
بصمت و "من غير شوشرة" وقّعوا عقوداً برواتب مغرية مجزية في مستشفيات جديدة واعدة في دول مجاورة. بعد ذلك قدّموا إستقالاتهم. حزموا أمتعتهم. و رحلوا بهدوء. كانت الخسارة في الواقع خسارة المركز لا خسارتهم. و لا عزاء لبقية لأطباء في مركز القلب الزايغ.
مركزنا الآن يحوي ٩٦ طبيب. نعم. الرقم صحيح. و لكن كم منهم استشاري؟ و كم منهم أنثى؟ و كم منهم بلطجي؟ و كم منهم قديم؟ و كم منهم قفل؟ و كم منهم مواطن؟ لم يبقَ منهم إلا الخمسة الذين قدموا إستقالاتهم!
هل فهمتَ يا صديقي لماذا أعلنّا حالة الطواريء؟
تنويه: مركز القلب الزايغ و بلاد الواقواق و أحداث هذه القصة كلها من نسيج خيالي. و أي تشابه بينها و بين الواقع هو بمحض الصدفة البحتة.