مقدمة
كل من سافر للعلاج أو دراسة الطب في بلاد الفرنجة لاحظ أن ملفات المرضى في المستشفى تقريباً بلا ورق. أو ما يسمى "بيبرلس أوفيس" ( paperless office). المريض يدخل العيادة أو الجناح. و الطبيب يوثّق كل معلومات المريض. من تاريخ المرض و الأدوية و نتائج الفحوصات. إدخال المعلومات مباشر. إما في الكمبيوتر المتنقل في الجناح ، أو الكمبيوتر اللوحي الشخصي (الأيباد مثلاً). بعد ذلك يصرف المريض أدويته من الصيدلية مباشرة بدون وصفة مكتوبة باليد من الممكن ضياعها او تزويرها. الملف الإليكتروني كفكرة "مجردة" جميل جداً. بل رائع و يفوق الخيال.
الملف الإليكتروني في الخيال
تخيل المريض يذهب الى المستشفى و معه هويته الشخصية فقط. الطبيب يُدخِل رقم هوية المريض في "السيستم".
و كل البيانات الطبية للمريض من كل مستشفيات البلاد تتوافر أمام الطبيب بكبسة زر...
١. لا داع لإنتظار المريض ساعات طويلة لقدوم الملف من السجلات الطبية على يد العامل "البورتر".
٢. لا خوف من ضياع الملف في مخزن السجلات بسبب إهمال أحد الموظفين هناك.
٣. لا يحتاج المريض ان يأخذ معه ملفه الطبي الى البيت عنوةً كما هو حاصل في بعض المستشفيات الحكومية بسبب تكرار ضياع الملفات الطبية.
٤. المريض يتلقى كل نتائج تحاليله بالبريد الإليكتروني (الإيميل) و يستقبل تاريخ موعد عيادته عن طريق خدمة الرسائل النصية (المسجات) على هاتفه المحمول مباشرة. الملف الطبي الإليكتروني يشابه في ذلك الخدمات الإليكترونية البنكية إلى حد ما.
٥. بسبب عدم ترابط المستشفيات ببعضها "أونلاين" ، ظهرت موضة "تسوّق المستشفيات" (hospital shopping). حيث يتسنى للمريض المحتال مراجعة أكثر من مستوصف أو مستشفى لعلاج مرضه. و بالتالي يصرف نفس أدويته من أكثر من جهة. ليشكّل عبئاً مالياً على الدولة. الملف الإليكتروني يكشف -و بسرعة- أي تلاعب أو تكرار في صرف الأدوية أو العلاج (لا سيما الأدوية المخدرة و المؤثرات العقلية) و يقضي بذلك على ظاهرة تسوّق المستشفيات.
٦. يكشف الملف الإليكتروني عن عدد أيام الإجازات المرضية بتواريخها و كشف أي تلاعب فيها. هذا النظام تم تطبيقه بنجاح على مستوى المستوصفات و المراكز الصحية فقط.
كما ذكرت سابقاً. فكرة "الملف الإليكتروني" بحد ذاتها جميلة. رائعة. تعطي من يفكر بها شعوراً من النشوة التي تجعل الطبيب المعني "فوق النخل فوق" إن صح التعبير الشعبي.
الملف الإليكتروني على أرض الواقع
الأمور على أرض الواقع للأسف ليست كما نتمناها. هذا من واقع تجربة في أحد المراكز التخصصية المتقدمة. حيث تم تطبيق برنامج السجلات الإليكترونية و بنجاح "مبدئي".
العقبات التالية لم تكن في الحسبان و هي كالتالي للمثال لا الحصر:
١. الدقة القديمة
نحن نعيش في عصر الدراية التقنية حيث الأغلبية الساحقة من الناس تتواصل مع بعضها بالكمبيوتر و الهواتف الذكية. لكن بعض الأطباء "دقة قديمة". و بعضهم الآخر تدرب في بلدان لا تزال تعتمد الكتابة على الورق أكثر من الطباعة أمام الشاشة.
بمعنى أنهم لا يعرفون أساسيات الكمبيوتر. و لا يجيدون الطباعة على لوحة المفاتيح "الكيبورد". و هم ليسوا مستعدين لتعلّم مهارات جديدة. حتى إذا أرغمناهم على الطباعة ، نراهم يستخدمون الحروف الكبيرة فقط (capital letters). طباعتهم بطيئة لعدم إعتيادهم. إنجليزيتهم ركيكة جداً إلى درجة الإحراج. و لا كأنهم درسوا الطب أصلاً باللغة الإنجليزية.
٢. إحتراف الإستعباط
في اللغة نربط "الإحتراف" بالأداء المتميز و الجودة العالية. المحترف متفرغ تماماً لوظيفته لأنه يكسب قوت يومه منها. بعض أطباءنا الأفاضل يحترفون الإستعباط. أي التظاهر بالغباء. فإذا فرضتَ عليهم تقنية جديدة مثل الملف الإليكتروني ، تظاهروا بالغباء المطلق لتفادي تعلّمها. مع علمنا بأن الذي يتخرج من كلية الطب ليس غبياً. و التناقض مفضوح. لأنهم نشطون في برامج التواصل الإجتماعي و بالذات "فيسبوك" و "تويتر". لكنهم يرفضون التعامل مع الملف الإليكتروني بحجة أنه "صعب".
لا أحد يستطيع أن يضغط عليهم لتحسين مستواهم أو تغيير سلوكهم. ذلك لضعف آلية الثواب و العقاب. فالطبيب المواطن لا يُعاقَب. و الطبيب المقيم لا يُعاقَب. و الطبيب صاحب النفوذ و الواسطات لا يُعاقَب. فالطبيب الذي يعارض الملف الإليكتروني يصل إلى آخر المطاف في لعبة التحدي:
"لن ألتزم بتعبئة الملف الإليكتروني. فماذا أنتم فاعلون؟".
تمردهم هذا نابع من علمهم الراسخ بحاجة الدولة إليهم أكثر من حاجتهم هم للدولة. خصوصاً في ظل الظروف الحالية حيث دول الخليج الأخرى تعرض مرتبات مغرية سخية لإستقطاب الكوادر الطبية.
في أحد المستشفيات التي عملت فيها في الغرب، تعبئة الملف الإليكتروني كانت مرتبطة بعواقب. فإذا تأخر الطبيب مثلاً (أو تمرّد) على تعبئة بيانات الملف الإليكتروني كما يجب ، هناك إجراءات تأديبية مثل تعليق الراتب ، أو الإيقاف عن العمل ، أو تأخير الترقية.
٣. الدعم الفني على كف عفريت
نظام "الملف الإليكتروني" بطبيعته يشترط التواجد الدائم للدعم الفني (tech support) من الشركة التي فعّلت البرنامج و ركّبت الكمبيوترات في المستشفى. الأمر الذي لا توفره كل شركات الكمبيوتر على مدار الساعة. و الطامة الكبرى إذا فسخت هذه الشركة عقدها مع وزارة الصحة و غاب الدعم الفني دون سابق إنذار. الذي هو بحد ذاته كارثة لا تُحمَد عقباها.
٤. توحيد الملف الإليكتروني
تفعيل فكرة الملف الإليكتروني في كل مستشفيات الدولة يجب ان تتم مركزياً دون تدخل المسئولين في المستشفيات المتفرقة. بمعنى ان البرنامج "السوفتوير" يجب ان يكون موحداً. و أجهزة الكمبيوتر موحدة. و الدعم الفني موحداً. من شركة واحدة لكل مستشفيات الدولة. بينما الوضع الحالي: كل مركز صحي أو مستشفى متعاقد مع شركة مختلفة بسوفتوير مختلف ، و نظام تشغيلي مختلف ، إرتباطه مع المستشفيات الأخرى محدود أو معدوم.
الخلاصة
أنا لست ضد فكرة الملف الإليكتروني. بل أنا أؤيدها و بشدة. لأنها ليست لمصلحة المريض فحسب. و إنما تفسح المجال المعلوماتي لكل موظفي وزارة الصحة في المستقبل القريب. نستطيع نحن موظفي وزارة الصحة مثلاً تخليص معاملاتنا عن طريق الانترنت و من هواتفنا الذكية ، بدلاً من تخليصها باليد ، لاهثين في أروقة الدوائر الحكومية من مكتب لآخر. كما نفعل حتى تاريخ كتابة هذا المقال.
الدولة لديها المال. و لديها الكوادر. و لديها الأجهزة (الهاردوير) و البرامج المطلوبة (السوفتوير). التحدي ليس في الملف الإليكتروني نفسه ، بل في من "يثري" هذا الملف بالبيانات و المعلومات المطلوبة. نريد فقط إدارة حازمة صارمة. يدها من حديد. تخطط للمستقبل البعيد. و تمشّي الأمور على الصراط المستقيم بالرغم من التحديات المذكورة أعلاه.