هل تساءلتَ يوماً لماذا بعض الطلبة النوابغ يلتحقون بكليّات الطب و ينسحبون (يتفلترون) منها بعد أول سنة أو سنتين؟ نفس الظاهرة موجودة أيضاً في الدراسات العليا ما بعد البكالوريوس. في كل تخصص نسمع عن "الدكتور فلان" الذي سحب أوراقه من البورد أو من برنامج الزمالة بالرغم من إنه كان من خيرة الأطباء.
السبب هو حقيقة راسخة لم يعلّمني إياها أحد: من أول يوم لك في كلية الطب و حتى آخر يوم لك في دراساتك العليا. ستواجه مجموعة من الأشخاص وظائفهم مختلفة و أهدافهم متنوعة. تجمعهم كلهم مهمة أساسية واحدة: تطفيشك من المكان و تحطيمك معنوياً. لذلك أنا أطلقت عليهم لقب "المطفّشون".
المطفّشون...
- يضغطون عليك بشكل مباشر أو غير مباشر.
- يراقبوك عن بُعد و يمسكون عليك أي زلّة أو هفوة.
- لا يعذروك مهما كانت ظروفك صعبة.
- لا يقدروك حتى لو كنتَ قديساً.
إضطهاد المطفّشون يوصلك إلى درجة الغليان ، لتعلن هزيمتك رافعاً العلم الأبيض.
خلال مشوارك الدراسي الطبي الذي قد يستغرق ١٥ عاماً كحد أدنى (٧ سنوات طب. سنة إمتياز. ٧ سنوات دراسات عليا من بورد + زمالة) ، أنت تعلم أن المطفّشون محصّنون. لا تستطيع إيذاؤهم و لا حتى التطاول عليهم. و إن خاطرتَ و دافعتَ عن نفسك مثلاً ، أنت من سيدفع الثمن. بينما هم لن يتضرروا.
المطفّشون متواجدون في كل دول العالم. في كل زمان و مكان. يشغلون كل المناصب. على سبيل المثال:
المطفّش قد يكون مدير برنامجك التدريبي.فقط لأنه لا يحب لون بشرتك أو جنسيتك أو أصلك أو حتى دينك.
المطفّش قد يكون أحد أعضاء الهيئة التدريسية. يخاف على منصبه و يعتبركَ تهديداً له على المدى القريب أو البعيد. خصوصاً إذا كان وافداً و انت من أبناء البلد. لأنه يعلم بأولوية التوظيف للمواطن.
في الدول الغربية بالذات ممكن أن يكون المطفّش ممرضاً أو فنياً أو حتى إدارياً.
بعض الزملاء كانوا نوابغ و عباقرة. لكنهم لم يستطيعوا التعايش مع المطفّشين. لذلك إنسحبوا مبكراً و غيروا خططهم الدراسية كلها و بالتالي ضيعوا مستقبلهم. سواء في كلية الطب أو في الدراسات العليا.
أمثال من أرض الواقع...
المطفشون أيام الكليّة...
طالب الطب في المملكة المتحدة و إيرلندا لا أحد يحترمه و هذه حقيقة يعرفها كل من دَرَسَ هناك. فهو كيس الملاكمة الذي يتلقى الضربات من الكل دون تمييز. عندما كنت طالباً في إيرلندا خلال فترة التسعينات قابلت سكرتيرة لأحد الإستشاريين لآخذ منها بعض الأوراق الرسمية. كانت أخلاقها "زفت" مع كل الطلبة بلا إستثناء. أنا قابلتها مبتسماً. إستلمت منها أوراقي و مشيت بعيداً بهدوء. بينما أحد الطلبة كان عصبياً. لم يتحمل إهاناتها و تشاجر معها. فكان مصيره التعزير الشديد من قِبَل الإستشاري المسئول و تهديده بالطرد من الجامعة. صادفتُ في دبلن أمثال هذه السكرتيرة الحقيرة الكثير. تغاضيت عن تفاهاتهم و قلة أدبهم و ركزت على الهدف الذي من أجله تغربت: البكالوريوس.
المطفشون أيام البورد و الزمالة...
في الكويت و السعودية عملت مع بعض الزملاء العرب و الأجانب في عدة مستشفيات خلال فترة سنوات البورد و الزمالة. كان هدفهم رمي أعمالهم و مسئولياتهم على كاهلي. رتّبوا خفاراتي لتصادف العطل و الأعياد الرسمية بينما هم "يريّحون" في بيوتهم. ضبطوا إجازاتهم الدورية السنوية بطريقة تمنعني أنا من أخذ إجازة و حجتهم "لتغطية النقص في عدد الأطباء". كلما إمتعضت من حركاتهم قالوا لي "زعلان ليه؟ إحنا عايزينك تتعلم".
و كلما إستنكرتُ المعاملة الدونية للإستشاريين الآسيويين لي ، ردوا علي بالرد المعتاد "أنت مجرد عَبْد لا يستحق التقدير" (you are just a slave and you do not deserve gratitude).
و كلما إشتكيت لمدير بورد الباطنية في تلك الفترة قال لي "بدر... إذا مو عاجبك البورد ، إطلع".
المطّفشون أيام الزمالة التخصصية...
في كندا -و العالم الغربي عموماً- التمريض مهنة نادرة و مطلوبة. و الممرضين لديهم إتحاد قوي يساندهم و يعطي وظيفتهم هيبة لا نراها في دول العالم الثالث. لذلك الممرض عادةً له اليد العليا على الطبيب. كنتُ أتلقى الأوامر و أحياناً الإهانات من بعض الممرضات ضعيفات النفوس. كنت أعمل بصمت و لا أنطق بكلمة واحدة. لأنني أعلم أنني لو خاصمتهم سيكون الحكم لصالحهم على حساب مستقبلي.
قصص السابقين
أحد أساتذتي الإستشاريين الكويتيين القدامى قال لي أنه بعدما أنهى دراساته العليا في أمريكا و التي إستغرقت سبع سنوات ، قالوا له "المطفشون" في مستشفاه: نحن معجبون بك لأنك تحمّلتنا سبع سنوات. رهاننا منذ البداية أنك لن تصمد معنا ثلاث شهور!
ماذا سيحدث لو حاربتَ هؤلاء المطفشون؟
طبيب كويتي. أعرفه شخصياً. أستاذي و صديقي العزيز. عمره يناهز الخامسة و الستين (وقت كتابة المقال). لا يملك مؤهلاً دراسياً حتى الآن غير البكالوريوس. في الكويت الأقدمية وحدها لا تكفي للترقية. كان حزيناً تعيساً لأن تلاميذه أكملوا دراساتهم العليا و سبقوه على سلّم الترقيات. قال لي أنه عندما سافر للغرب في فترة الثمانينات لإكمال دراساته العليا ، تشاجر مع أستاذه (و كان أستاذاً عالمياً) بحجة أن هذا الأخير كان "يكدشه في الشغل" كثيراً. طردته الجامعة. و منعته من تقديم أي إختبارات في أي كلية تحت مظلتها مدى الحياة. رجع صاحبنا بذيول الهزيمة. عض أصابع الندم لن ينفع الآن.
الحل
وجودك مع المطفّشين يزعجهم. لذلك هم لا يريدونك معهم. التحدي هو أن تدوس على كرامتك و تمسك لسانك و تعمل بصمت و تفانٍ طوال مدة تدريبك. إلى أن تتعدى خط النهاية و تتخرج لتتركهم في غيّهم يعمهون (بلعنة تلعنهم). هم يعلمون أن مستقبلك الأكاديمي على كف عفريت. لذلك أنت لا تريد المخاطرة بالسجال معهم.
الفكرة
ليس القوي بلَكَماته فحسب. و إنما بقدرته على تحمّل لكمات الغير. إذا كانت لك عند الكلب حاجة قُل له "يا سيدي". سكوتك عن المطفّشين ليس مذلة. إنما أنت فقط تختار معاركك. و ليس من الحكمة أن تقحم نفسك في معركة خاسرة.
هذه النصيحة لكل زملائي طلبة الطب و الأطباء المتدربين.