الأربعاء، 20 يناير 2016

خلك توحدي

  كل بلد له ظروفه و أعرافه الخاصة به. لذلك في بعض الأحيان ، إذا نجحَت فكرة معينة في بلدٍ ما ، ربما تفشل في بلد آخَر. في دولة الكويت ، و في القطاع الصحي العام بالذات ، أظنني عرفت "الوصفة السرية" لتفوق الطبيب. هذه الوصفة ناجحة في دولة الكويت فقط. بمعنى أنها لن تنجح بالضرورة في دولة أخرى. لأكون دقيقاً ، يجب أن أعرّف المقصود من كلمة "تفوّق" في هذا السياق. 

مهنة الطب تتطلب دراسة مستمرة مدى الحياة. لا لتحديث المعلومات الطبية فحسب. و إنما أيضاً لغرض التحضير للإختبارات من أجل الترقية. لصعود الطبيب على السلم الوظيفي المتدرّج في الكويت رسمياً ، الأقدمية وحدها لا تكفي. واجب على الطبيب إجتياز مجموعة من الإختبارات التي هي إما شرط لإجتياز مرحلة في برنامجه التدريبي (إختبارات البورد) ، أو كإختبار مستقل (الزمالة الملكية MRCP مثلاً).

المقصود بالطبيب "المتفوق" هنا هو من لا يقتنع بثبات مسماه الوظيفي. و إنما يقدم الاختبارات واحداً تلو الآخر و يجتهد في عمله ليترقى سريعاً. بينما الطبيب "بلا طموح" يبقى كما هو ، بنفس مسماه الوظيفي لسنين طويلة. و هو راضٍ و سعيد بمكانه. لذلك من المألوف في مستشفيات الكويت ان نرى "طبيب إستشاري" عمره ٣٥ سنة ، بينما زميله "طبيب مسجّل" (رجسترار) عمره ٦٠ سنة. 

بالرغم من صعوبة الترقية على الأقدمية فقط ، إلا أن القطاع الحكومي المدني في الكويت متميّز "بالأمان وظيفي" (job security) بعكس الحال في القطاع الخاص أو في دول الغرب. بمعنى أن فَصل الطبيب الوافد عن العمل (التفنيش) صعب. بينما فصل المواطن عن العمل أقرب إلى المستحيل. الأمر الذي -إلى حد ما- شجَّع على الكسل و ضعف الإنتاجية. وهذا ليس سراً.

"التوحد" متلازمة ذهنية معروفة و ذات طيف واسع. يتم تشخيصها في الأطفال منذ سن مبكرة. تتراوح فيها درجة الإعاقة من الشديد إلى البسيط. و منها تفرعات متنوعة مثل متلازمة أسبرجر. المتوحد لديه صفات عديدة يعرفها الخبراء المختصون. جسّدت السينما الشخصية التوحّدية في فيلمين. الفيلم الأمريكي "رجل المطر" (rain man) بطولة دستن هوفمان. و الفيلم الهندي "إسمي خان" (my name is khan) بطولة شاه روح خان.

المتوحد لديه صفات سلوكية محددة. أبرزها الصفات الثلاثة التالية.

١. المتوحّد يعيش في عالمه الخاص به.
الإنسان "الطبيعي" كائن إجتماعي. لا يكفيه التعايش مع الغير. و إنما يهمه الإنتماء لمجموعة من الأفراد. سواء كانوا من نفس العائلة/القبيلة أو الجنسية أو المهنة أو حتى الهواية. يخالطهم و يجالسهم و يتطبّع بطباعهم. ينعكس هذا السلوك الإجتماعي حتى على أمثالنا الخليجية الدارجة. "الجنّة بدون ناس ما تنداس" أو "الروح تبي أرواح". حتى حملة غِراس لمكافحة المخدرات شعارها "الصاحب ساحب" بمعنى أن الفرد يتطبّع بطباع أصحابه.

بيئة العمل في مستشفيات الكويت الحكومية تهيمن عليها عقلية الكسل. الرواتب ثابتة. و الحوافز -إن وُجِدَت-  ضئيلة لا تستحق العناء. لذلك أصبح الكسل فن. و التهرب من العمل فن. و التسيّب فن. فنون كهذه لا يتقنها إلا الطبيب الوقح البليد عديم الطموح. الطبيب المجتهد الطبيعي للأسف يتسيّب  تدريجياً على مدى شهور و سنوات ، إذا جالَسَ زميله البليد. 

بينما الطبيب المجتهد المنعزل عنهم. الذي يعيش في عالمه الخاص به. يركز على تحقيق أهدافه. لا ينسى من أين أتى (شرح ذلك يأتي في مقال آخر). و لن ينسى وجهته. ينجح عادةً في اختباراته بسرعة و في زمن قياسي. 

٢. المتوحّد يفهم الكلام حرفياً.
جَرَت العادة في دول العالم الثالث أن القوانين فيها نوعان.

قوانين رسمية: مكتوبة على الورق و لكن لا يحترمها و لا يطبقها أحد.
و قوانين أخرى ضمنية عُرفية: مكتوبة بين السطور. يلتزم بها و يطبقها الجميع. 

على سبيل المثال لا الحصر...
قانون رسمي: الطبيب يلتزم بحسن الهندام و ربطة العنق (الكرفتة).
قانون عُرفي: الطبيب يرتدي ما يحلو له من لباس (حتى لو بيجامة النوم) طالما انه يرتدي فوقها المعطف الأبيض. 

قانون رسمي: المحاضرة الفلانية الحضور فيها إلزامي لنشر الفائدة.
قانون عُرفي: إذهب الى قاعة المحاضرات. اكتب إسمك في قائمة الحضور و إنصرف. إرجع عند نهاية المحاضرة لتستلم شهادة الحضور.

الطبيب الطبيعي إذا باشَر عمله في بيئة عمل جديدة ، يبقى يقِظاً بكل حواسه منتبهاً للقوانين العُرفية المتداولة في المكان و يطبقها. ليندمج بذلك مع "القطيع". بينما الطبيب التوحدي يطبق القوانين الرسمية فقط. لا يستوعب القوانين العُرفية لأنه بطبيعته لا يجيد قراءة ما بين السطور. لذلك لا يفهم حتى النكتة أو السخرية بسهولة مثلاً. لأن النكتة فقط مضحكة بمعناها الضمني المبطّن. 

٣. المتوحّد يلتزم بنفس الروتين أبداً دون ملل.
إذا تعلّمَ الطفل التوحدي عادة معيّنة في وقت محدّد ، يلتزم بها و بأوقاتها و لا يغيرها مهما كانت الظروف و بدون ملل أو توقف. فإذا كان يشاهد التلفزيون الساعة السابعة كل يوم ، معناها الساعة السابعة إذا لم يشاهد التلفزيون ... تنقلب الدنيا عاليها أسفلها! تعلّم الروتين من الممكن أيضاً أن يكون مفيداً كتعليم الصلاة في أوقاتها مثلاً. 

طبيعة عمل الطبيب روتينية تكرارية. يقوم بخطوات العمل نفسها مع كل حالة مرضية: فحص المرضى. تعبئة السجلات الطبية. طلب الفحوصات. متابعة النتائج. إستنتاج التشخيص. إجراء العملية المطلوبة. وصف الأدوية. متابعة في العيادة الخارجية. و هلم جرا. 

الطبيب الطبيعي مع الوقت يصيبه الملل من هذا الروتين. ليبدأ تدريجياً بكروَتة العمل و توزيعه على بقية الزملاء. يرمي جزءاً من عمله على الأطباء الأصغر منه بحجة "إحنا عايزينك تتعلم" ، و يرمي جزءاً آخَر من عمله على الأطباء الأكبر منه بحجة "حضرتك صينيور و فاهم كل حاجة". هذا بالإضافة إلى ميوله للإختفاء من رأس عمله و تواجده في مكانين لا ثالث لهما: الكافيتيريا و غرفة الخفارة. هذا غير الإستعباط المحترف. على سبيل المثال ، الواحد منهم عضو فعّال مشارك في كل برامج التواصل الاجتماعي. فيسبوك و تويتر و انستغرام و سناب تشات. لكن إذا أردتَ إرسال قرار إداري له بالبريد الاليكتروني، قال لك "ما عنديش إيميل". 

الطبيب التوحدي يلتزم بالروتين كما هو منذ سنة الإمتياز إلى التقاعد. نفس البروتوكول بنفس خطوات العمل. يرتدي الزي الرسمي كاملاً مع حسن الهندام يومياً. لذلك ترى شغله كاملاً نظيفاً و يبرّد القلب. بلا كروَتة ولا إستعباط.

التوحد إعاقة شديدة. و لا توجد أخبار أسوأ من أن نقول للوالدين أن ابنهما فيه توحّد. لكن الصفات "التوحدية" التي ذكرتها تميّز الطبيب الناجح عن الفاشل في بيئة عمل نفس بيئتنا. 

فإذا سألني أحد الزملاء الطموحين عن سر التفوق. لن أقول له "ادرس الكتاب الفلاني" أو "شد حيلك و إجتهد". و إنما سأقول له "خلّك توحدي".