السبت، 31 أكتوبر 2015

خف علينا يا بو سيستم

كلما جلستُ مع أي طبيب متخرج من بلاد الفرنجة و سألته: مالذي  يميّز بلاد الفرنجة عن بلادنا؟ كلهم يجيبون بعد بضعة "آهات": آه. الفرنجة فيها "سيستم". لا يقف الأمر عند مفردة "سيستم" فحسب. وإنما يمتد لتلقينه لطلاب الطب المحليين جيلاً بعد جيل إلى درجة ترديدها كالببغاء... "الإفرنجيين افضل منا لأنهم عندهم سيستم". 

يتذكر خريجو الفرنجة أيام غربتهم بحسرة و يرددون في بالهم "يا زين ايام الدراسة في الفرنجة. عندهم سيستم".

لكن السؤال الذي يطرح نفسه: مالمقصود "بالسيستم"؟ 
"سيستم" كلمة انجليزية (system) و تعني "نظام". لكن في بلادنا الواق واق لدينا أيضاً نظام و قوانين و لوائح. إذا كان المقصود بالسيستم انعدام الفساد ، فالفرنجة أيضاً لا تخلو من الفساد. السيستم الذي يتحدثون عنه و يتشدقون به مفهوم أَكْبَر و أشمَل سأشرحه في هذا المقال.

السيستم في العمل
 الاستشاري الافرنجي أول من يداوم في المستشفى و آخر من يرجع بيته. يقسّم جدوله حسب مهامه. بين العيادة الخارجية و الأجنحة و العمليات و كتابة  التقارير الطبية و تدريس الطلبة ...الخ. هل سبب هذا الالتزام المفرَط حب الوظيفة؟ لا ننكر أن الشغف موجود عند البعض. لكن هناك عوامل أخرى تُلزِم الطبيب بساعات العمل

بمعنى أن المسألة ليست متروكة للضمير و الرضا الوظيفي فقط. سياسة الثواب و العقاب التي تشمل كل موظفي المستشفى لا تستثني منها الأطباء. كل طبيب يلتزم بمهام معيّنة و بساعات عمل مخصّصة يأتي ترتيبها من الإدارات العليا. ساعات العمل سواء في الأجنحة أو الطواريء أو العيادات الخارجية.

في بلاد الفرنجة ، مالذي يحدث إذا رفض الاستشاري المناوب الذهاب إلى المستشفى ليلاً لفحص حالة حرجة؟ ما هي العواقب القانونية إذا توفى مريض بسبب الإهمال المتعمد للطبيب؟ 

بينما في بلاد الواق واق ، الاستشاري الواقواقي يقسم جدوله حسب مزاجه و راحته و تفضيله الشخصي ولا يجرؤ أحد على المساءلة أو حتى النقاشحتى إذا إتكأ على كرسيه طوال اليوم و رمى واجباته على عاتق الأطباء الأقل منه رتبة.

السيستم في التعامل
تخصصات الطب المساعد و بالذات التمريض نادرة و مطلوبة أكثر من الطب في الفرنجة. الممرضين يدعمهم "إتحاد" قوي (Union)  يساندهم و يدافع عن حقوقهم و يحاسب من يظلمهم. لذلك بالنسبة لإدارة المستشفى ، استقالة الممرض أكثر خطورة من استقالة الطبيب. إسألوا أي طبيب عاش في الفرنجة: ما هي العواقب القانونية إذا أساء الطبيب معاملة الممرض؟ 

نفس المبدأ يطبّق على كل العاملين في مستشفيات الفرنجة. التنمّر (bullying) بكل أنواعه ممنوع. ليس من حق أي موظف أن يسيء معاملة موظف آخر بغض النظر عن المسمى الوظيفي. في ممرات المستشفى مثلاً ، إذا رمى الطبيب قاذوراته على الأرض ، ينظر الفراش إلى الطبيب بحزم و يطلب منه بلهجة حادة أن يرمي قاذوراته في صندوق القمامة! الطبيب ليس له إلا أن يعتذر للفرّاش و يمتثل لأوامره

السيستم في الميزان
الطبيب في بلاد الفرنجة لديه عدوّان لدودان يقفان له بالمرصاد: المحامي و المحاسِب

موقع في الانترنت للمحامين المتخصصين في كشف "النصب" في عمليات القسطرة

يافطة إعلانية لمكتب محاماة في الشارع في الولايات المتحدة
"هل الدعامة التي وضعوها لك (في قلبك) لم يكن لها داع؟ إتصل بنا"

المحامي يبحث عن أي خلل أو تقصير في تشخيص و علاج المرضى كي يسحب الطبيب من معطفه ليجرّه إلى أروقة المحاكم. والمحاسِب "الخاص" تستأجره شركات التأمين الصحي ليدقق في سجلات الطبيب المالية و مصروفات المستشفى لمقارنة الصادر و الوارد و رصد أي تلاعبات مالية محتملة. إذا كان الطبيب مثلاً يطلب فحوصات لا داعٍ لها. أو يجري عمليات جراحية غير ضرورية. أو إذا كان يفحص بعض مرضاه مجاناً و يستغل موارد المستشفى. كلاهما -المحامي و المحاسب- ينتظران زلّة واحدة للطبيب لينقضّوا عليه مثل النسور آكلة الجِيَف. لأن رزقهم يعتمد على هذه الزلّات.



النسور آكلات الجيف

لذلك الطبيب يقي نفسه من "الطلايب و عوار الراس" و يلتزم بلوائح و أصول العمل بكل حذافيرها. أو كما يقول المصريون "يمشي على العجين ما يلخبطهوش" و "إمشي عدل يحتار عدوّك فيك".

السيستم في التدريس والتدريب
مستشفيات بلاد الفرنجة ميزانياتها محدودة. لذلك ترحب إدارة كل مستشفى بأي "دعم" لميزانيتها. مثلاً بعض أثرياء البلد يتبرعون لبناء عيادة أو تجديد جناح. أو تتفق بعض المستشفيات مع كليّات الطب لتعليم طلبة الطب فيها مقابل رسوم مالية تدفعها الجامعات. أو بتوقيع إتفاقيات تعاونية مع سفارات "الدول الغنية" لتدريب الأطباء الأجانب مقابل عقود مالية سخيّة جداًلذلك تحرص المستشفيات التعليمية على تقديم أفضل تدريب طبي و على أعلى مستوى للجميع

تدريب ممتاز = سمعة ممتازة = جذب طلاب و أطباء متدربين أكثر = دعم مادي أفضل

 لذلك في بعض الأحيان إذا أخطأ الطبيب المتدرب مثلاً. ترى الإستشاري يحمر وجهه من الغضب و يبقى صامتاً. يكظم غضبه و يمنع نفسه من الصراخ و الشتيمة خوفاً من التبعات القانونية المُحتملة إذا اشتكى الطبيب المتدرب المعني عند مكتب الشئون الأكاديمية

بينما في بلاد الواق واق لا توجد قوانين رادعة توقف الاستشاري قليل الأدب عند حده. قابلت استشاريين واقواقيين تخرجوا من الفرنجة في الستينات و السبعينات و لما أرَ في حياتي أوقح منهم و لا أكثر بذاءة من لسانهم. ماذا تعلمتم من أخلاق الفرنجة بالله عليكم؟ و أي قدوة ستكونون لتلاميذكم؟

هل تعلم أن الاستشاري في بلاد الفرنجة شهادته سارية المفعول لمدة عشر سنوات فقط؟ بمعنى أنه يقدم إختبارات البورد مرة كل عشر سنوات لتجديد شهادته (recertification) لتجديد رخصة ممارسة مهنة الطب

تخيّل نفسك تقول للإستشاري الواقواقي: طال عمرك عليك أن تقدم اختبارات الزمالة مرة كل عشر سنوات. ماذا سيكون رد فعله؟ أبسط ما سيفعله أن يطردك من مكتبه

القصد 
الاستشاريون الذي يمدحون الفرنجة و يفتقدونهم لأن عندهم "سيستم" ، مديحهم كلام "مأكول خيره". هم أنفسهم سيحاربون "السيستم" إذا تم تطبيقه في بلاد الواق واقحدث أكثر من مرة أن حاولت جامعات افرنجية تطوير مستشفيات الواق واق و انتهت بفشل ذريع. لأن الاستشاريون الواقواقيون لا يريدون "سيستم إفرنجي" في مستشفياتهم و لأسباب جليّة. مديحهم لسيستم الفرنجة مثل شركات التبغ التي تدعم حملات مكافحة التدخين. أو نواب مجلس الأمة الذين يطالبون بحل القضايا المستعصية التي حلّها لا يَصُب في مصلحتهم.

السبت، 24 أكتوبر 2015

خف علينا يا ملك

رئيس القسم
خلال سنوات زمالتي في الماضي القريب ، كان في قسم القلب الذي تدربتُ فيه طبيباً آسيوياً بدرجة مسجّل (رجسترار). كان في أواخر الأربعينات من العمر. كان شعره رمادياً مع خصل جانبية بيضاء. نظارته الطبية كانت سميكة. لكن الذي لفت نظرنا جميعاً غروره و تكبّره علينا بالذات نحن أطباء الزمالة المتدربين. كان خلال المحاضرات يجلس في الصف الأول و يضع رجلاً فوق الأخرى و يلتفت الينا بنظرة دونية و نصف ابتسامة ساخرة كلما سألَنا المحاضِر سؤالاً و كانت إجاباتنا خاطئة. لم تقف وقاحته هنا فحسب. و إنما كان يتطاول على آراء الإستشاريين و رئيس القسم في الإجتماعات و يفرض رأيه عليهم بحزم. 

 جلست معه في ساعة صفاء و سألته عن قصّته قبل قدومه الخليج. قال لي أنه كان إستشارياً كبيراً و مديراً لعمليات  القسطرة في مستشفاه الذي كان من أكبر مستشفيات شرق آسيا. لكن بعد سقوط رئيس جمهورية بلاده و اندلاع الحرب الأهلية ، فرضت عليه ظروف المعيشة الصعبة السفر مع أهله طلباً للقمة العيش. للأسف كل خبرته و شهاداته الدراسية كانت "محلية". بمعنى أنه لم يحمل أي مؤهل أوروبي أو أمريكي.  لذلك في الخليج شهاداته كانت بلا وزن و لم تعنِ الكثير للجهات المختصة. بحكم ظروفه الصعبة ، رضي بمسمى "مسجّل" بدلاً من "استشاري".

الأب الروحي
في دولة خليجية أخرى ، تعرفت على طبيب آخر من جنسية آسيوية أيضاً. كان زملاء المهنة من نفس بلده ينادونني "دكتور بدر" بينما ينادونه "سير" (sir). بالرغم من أن كِلانا نحمل نفس المسمى الوظيفي. كان صاحبنا قليل الكلام. لكنه كان ينظر للجميع بنظرة دونية. كان يبدي امتعاضه كلما رآنا نعمل. المشكلة أنه لا يعجبه العجب. فمهما كانت جودة عملنا فلن يحصل على رضاه أحد.  هو استشاري فعلاً. لكنه كان إذا تحدث مع زملائه الاستشاريين الخليجيين ، خاطبهم بنبرة هادئة دونية فحواها بين السطور"أنا أفهم أكثر منكم". 

بينما زملاؤه ذوي الرتب الأقل من رتبة الاستشاري ، فهو يجلس على كرسيه -كأنه يتربع على عرش- طول النهار يتأمّر عليهم فقط. لا يرى المرضى معهم بل يعطيهم أوامره بالهاتف. غروره لا يقف هنا. بل كلما علِمَ بقدوم خبير عالمي من أمريكا لإلقاء محاضرات أو تنظيم ورش عمل في الخليج ، طلب إجازة و سافر بلاده كي لا يحضر محاضراته. 

زملاءه في المهنة من نفس بلده قالوا لي لاحقاً بأنه كان أباهم الروحي في بلاده. كان الجميع ينظر إليه بنظرة إجلال و إحترام لإنجازاته الجبارة في بلده على حد قولهم. إستشارته قاطعة. رأيه نهائي. كلامه محفور في الحجر.

"صطاف" الجامعة
صاحبنا هذه المرة قدم للعمل في الخليج من دولة عربية. كان الأول على دفعته في الجامعة في بلده. الهيئة التدريسية لأي جامعة توظّف فيها الأوائل على الدفعة و صاحبنا كان منهم. صحيح الراتب زهيد ، لكن الهيبة المصاحبة للمنصب الأكاديمي في الجامعة كانت كفيلة بإغرائه للإلتحاق بطاقم كلية الطب. الطاقم أو الكادر باللغة الإنجليزية يسمى "ستاف" (staff) ومنها إشتقت صفة "صطاف".

في أي تسلسل قيادي الرتبة الأعلى تفرض جبروتها على الرتبة الأقل منها. جامعات الدول العربية لا تختلف عن هذا المنوال. الطبيب الذي ينتمي"لصطاف الجامعة" لديه سلطة شبه مطلقة على تلاميذه. لذلك لا يتوانى عن شتمهم ، إذلالهم ، إستعبادهم ، إهانتهم ، أو حتى أن يطلب منهم "خدمات" خارج نطاق العمل. 

عندما ساءت الحالة المادية للدكتور صطاف الجامعة ، قرر السفر للعمل في الخليج. بعدما باشَر عمله ، بدأ تلقائياً بمعاملة زملاءه في الخليج بنفس أسلوب معاملة تلاميذه في الجامعة في بلده!


فيلم الإمبراطور الأخير

 في سنة ١٩٨٧ تم إنتاج فيلم رائع حصد العديد من جوائز الأوسكار. عنوانه "الإمبراطور الأخير" (The Last Emperor). يتناول الفيلم قصة حياة آخر إمبراطور للصين قبل الثورة الشيوعية التي حوّلتها إلى جمهورية الصين الشعبية. كان إمبرطوراً بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. لديه خَدَم لكل مهمة في قصره مترامي الأطراف. لكن بعدالثورة الشيوعية غدا مواطناً عادياً. عاش باقي عمره بستانياً في حديقة صغيرة و مات وحيداً دون أن يدري عنه أحداً.

رسالتي لرئيس القسم و الأب الروحي و صطاف الجامعة 
أتفهم أنكم كنتم ملوكاً و سلاطين في بلدانكم والظروف دفعتكم للعمل في الخليج. لكم التقدير كزملاء في المهنة. أحترم خبراتكم الطويلة في تخصصاتكم. لكنكم أتيتم للعمل طلباً للرزق والعيش الكريم. حالكم في ذلك من حال زميلكم الطبيب الخليجي ابن البلد. لذلك جبروتكم الذي كان في بلدانكم يجب أن يبقى في بلدانكم. أنتم في الخليج بشر كبقية الناس.

دوام الحال من المحال. فإذا تغير حال المرء. عليه أن يكيّف نفسه على حاله الجديد. المسلمين كانوا في الأندلس و وصلوا حدود الصين و اكتسحوا العالم بعلومهم. أين هم الآن؟

السبت، 3 أكتوبر 2015

صج محد يبيكم؟

 جلست مع احد الأطباء المتدربين في احد البرامج التدريبية في بلاد الواق واق. كان تعيساً بائساً. شكى لي الحال. قال لي ان مدير برنامجهم الذي تدرّب في بلاد الفرنجة قال له و لأصحابه "إنتوا أصلاً دون المستوى، منو يبيكم؟". قاصداً بذلك أن شهادات البرامج التدريبية المحلية (البورد الواقواقي) غير مُعتَرَف بها عالمياً. و بالتالي لن يحصلوا على وظيفة خارج حدود الواق واق.

هنا ابتسمت. و تذكرت قوله تعالى...

"قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ" (سورة الزمر. آية ٩)


 الأطباء الواقواقيون الذين يسافرون للدراسات العليا في الفرنجة إما يذهبون فقط للزمالة المهنية (fellowship) ، أو لتدريب متكامل (بورد + إختبارات + زمالة) للحصول في النهاية على رخصة كاملة لممارسة الطب في الفرنجة (full license).  الحصول على "رخصة" لا يعني بالضرورة الحصول على "وظيفة". مثل رخصة قيادة السيارة (ليسَن). كونك تملك رخصة القيادة ، فهذا لا يعني بالضرورة حصولك على سيارة بإسمك.

 مجتمعنا الواقواقي يمجد و يقدس الشهادات الإفرنجية. هذا أمر له أسبابه الوجيهة التي يعرفها الجميع. بين الفساد الذي ينخر المؤسسات التعليمية في العالم الثالث من جهة ، و بين السمعة الطيبة للتعليم الإفرنجي من جهة أخرى ، نجدُ الفجوة كبيرة بينهما يملؤها "الخنين و الخايس". الخنين الطبيب المؤهل المتميّز حقاً. و الخايس الطبيب الذي تدرّبَ في الفرنجة لكنه بقي كما هو: "عينة محفوظة".

أنا أسأل كل واقواقي نافش ريشه بشهاداته الإفرنجية الأسئلة التالية لتذكيره فقط هو من أين أتى.


١. هل نسيتَ كيف بُعِثتَ إلى بلاد الفرنجة؟ 

بالتنسيق مع هيئة "واق واق" العامة للتخصصات الطبية ، الملحق الثقافي في السفارة الواقواقية في بلاد الفرنجة يبذل كل سنة جهوداً جبارة لتأمين "مقاعد" في مستشفيات الفرنجة لتدريب لأطباء الواقواقيين. ضمن اتفاقيات عقودها المالية سخية جداً. هذا أمر مشروع تنتهجه كل الدول المتطورة التي تستثمر في تنمية كوادرها الوطنية.

كل المطلوب من الطبيب الواقواقي اجتياز إختبارات التقييم الإفرنجية الأولى. كإختبار الرخصة الإفرنجية مثلاً. وهو ليس بالأمر الصعب. باقي الإجراءات متروكة للسفارة الواقواقية في بلد الإبتعاث. راتب البعثة ينزل شهرياً في رصيد حساب الطبيب الواقواقي معززاً مكرّماً. بمعنى ان الواقواقي لم يكافح ليعبر البحور و المحيطات مثلما يفعل الهنود أو الصينيين للحصول على مقعد للعمل و الدراسة في بلاد الفرنجة. و لم يعمل في وظيفتين أو أكثر ليؤمّن لقمة عيشه كما يفعل غيره من المهاجرين من الدول الفقيرة.

٢. هل وظيفتك في الفرنجة تنتظرك؟

 كل من عاش في الفرنجة يعلم بأن المألوف جداً هناك أن نصادف مهندساً يقلي البطاطس في مطاعم الوجبات السريعة. أو محامياً يمسح الأرضيات في المقاهي. كل ذلك بسبب شح الوظائف. صحيح أن العمل شرف و كسب لقمة العيش تتطلب الخفّية. لكن الأمر مؤلم عندما يتخرج المرء من الجامعة ليعمل في مهنة أقل من مؤهله بمراحل. لا سيما إن كانت دون الطموح. 

بينما في الواق واق، توظيف الطبيب المواطن عن طريق "ديوان القوى الواقواقية" فوري. و بعدما يرجع من دراساته العليا ، ترقيته مرهونة بزمن تخليص المعاملة فقط. بينما في الفرنجة ، الطبيب الإفرنجي إبن البلد صاحب الرخصة الطبية الكاملة ، يبحث عن وظيفة شاغرة بعد تخرجه  وهذا بالنسبة له التحدي الأكبر. 

الوظائف في بلاد الفرنجة محدودة و نادرة. لأن الأطباء القدامى راسخون في وظائفهم. يسددون ما عليهم من قروض دراسية لسنين طويلة فيتقاعدون متأخراً. لا شواغر و لا مجال لتوظيف الدماء الجديدة. المستشفيات ميزانياتها محدودة. لذلك لا توظّف أطباء أكثر من حاجتها.

الشهادة وحدها لا تكفي.
في أي مكان في العالم و في أي مهنة: كي تحصل على وظيفة ، المؤهل الدراسي وحده لا يكفي. تحتاج لميزات أخرى كإجادة اللغة و العلاقات العامة و القاعدة الجماهيرية. ميزات كهذه لا نحصل عليها من الجامعة. و إنما تستغرق سنين طويلة لتنميتها و تطويرها. لذلك الطبيب "القديم ابن البلد" الذي يملكها له الأولوية في التوظيف على الطبيب الوافد الجديد في السوق.

فلا تعتقد ان الواقواقي الذي عبَر المحيطات قادماً من آخر الدنيا (الواق واق) ليعمل في الفرنجة، فرصته في الحصول على الوظيفة توازي فرصة الافرنجي ابن البلد. 

كنت كلما سألت أصحابي الافرنجيين "ماذا ستفعل بعد نهاية زمالتك؟" 
(What are you going to do after your fellowship)

إجابتهم التلقائية الموحدة "سأبحث عن وظيفة" 
(I'm going to look for a job)

بينما إذا هم سألوني "ماذا ستفعل عندما ترجع بلاد الواق واق؟" 
أجيبهم "هناك وظيفة تنتظرني".
(There is a job waiting for me)

الواقواقي خريج الفرنجة يعطينا إيحاء أنه اذا رجع الفرنجة سيجد حشود المعجبين بإنتظاره في المطار مهلّلين "طلع البدر علينا". ستتلاقفه الأيدي من كل المستشفيات للإستيلاء عليه و على خبراته الدفينة و أسراره الباتعة. إحساسه كإحساس ملكة الجمال التي عدّى عمرها الستين عاماً و تقول لزوجها "طلقني. طابور من الخطاطيب بإنتظاري خارج المنزل".

لكل قاعدة إستثناء. الإستثناء هنا إذا كان الطبيب الواقواقي نابغة في مجاله. أو إذا كان تخصصه نادر و مطلوب مثل طب التخدير أو طب العائلة أو طب الأورام مثلاً. أو إذا كان حظه يكسّر الصخر! الأطباء الواقواقيون من هذه النوعية يهاجرون إلى الفرنجة بهدوء. دون مشاكل و لا طول لسان و لا قلة أدب. بل و يتركون وراءهم سمعة طيبة.


٣. هل تتحمّل نمط الحياة الإفرنجي؟

 شتاء الواق واق رائع. لكن درجة حرارة الصيف الطويل ٥٠ مئوية فوق الصفر لا تُطاق.

في بلاد الفرنجة
صيف الفرنجة رائع. لكن درجة الحرارة ٥٠ مئوية تحت الصفر في الشتاء الطويل لا تُطاق. لذلك على المدى البعيد ، التطرف في درجة الحرارة أمر لا يُطاق. بالنسبة لأي موظف يعمل داخل المبنى (indoors)، درجة الحرارة الخارجية ليست مهمة.  

في بلاد الفرنجة 
 في فصل الشتاء يقضي الإفرنجي وقتاً طويلاً كل يوم في إزالة الثلج المتراكم أمام منزله بنفسه. و لأن قوانين العمالة و حقوق الانسان هناك صارمة: ماكو خَدَم! أجرة الخادم عالية لا يستطيع الكل تحمل تكاليفها.

في بلاد الفرنجة 
 أسعار الوقود نار. لذلك سيارات الإفرنجيين بشكل عام صغيرة متواضعة. يفضل الإفرنجي قضاء حوائجه ماشياً أو بالدراجة الهوائية إن أمكن.

في بلاد الفرنجة 
 راتب الطبيب ظاهرياً وفير. لكن الضرائب المفروضة على كل شيء (ضريبة دخل-ضريبة مبيعات...الخ) تكسر الظهر و معها يتلاشى الراتب. المعيشة مكلفة للغاية. آلية الرواتب تعتمد على الحوافز. تشابه إلى حد كبير آلية رواتب مستشفيات القطاع الخاص في الواق واق. كل شيء بحسابه. بمعنى أنك كلما عملتَ أكثر ، كلما راتبك صار أكثر. تدريب الأطباء له أجرة. إلقاء المحاضرات له أجرة. في المقابل ، ضريبة الدخل توازن الأمور. سن التقاعد متأخر. و يظل الطبيب "يكرف" و "يلهث" وراء الحوافز حتى سن التقاعد.

في بلاد الفرنجة 
الطبيب الإفرنجي لا يتمتع بحصانة طبلوماسية. بل بالعكس، يد التمريض فوق يد الطبيب في ظروف كثيرة. و لا يتسع له الوقت ليمارس طقوسه خلال ساعات العمل.

المواطن الواقواقي المغترب يتحمل الحياة في الفرنجة لأنها مؤقتة. لسان حاله يقول "مصيري راجع ديرتي الواق واق". لكن هل يتحمل الواقواقي هذه الحياة على المدى البعيد؟ أشك في ذلك. 
   
٤. لماذا لا ترجع الفرنجة؟ 

البنت في بيت ابوها تطلب "شنطة" سعرها ٥ دنانير. 
أبوها يضربها قائلاً "إكلي تبن".
بعدما تتزوج تطلب من زوجها "شنطة" سعرها ١٥٠ دينار. 
زوجها يعتذر عن الدفع لأنها فوق ميزانيته. 
تستنكر زوجته قائلة "شنو هالعيشة؟ في بيت أبوي أنا كنت معززة مكرمة"

نكتة كهذه انتشرت في برامج التواصل الإجتماعي لكن مغزاها جاد.
ذلك أن عاطفتنا أحياناً تحجب الحقيقة و تجعلنا ننسى من أين أتينا. 

هل تساءلتَ : لماذا بعض الإخوة العرب من الذين ولِدوا و ترعرعوا في الواق واق ثم هاجروا للفرنجة ، مصيرهم الرجوع الى الواق واق و معهم الجنسية الإفرنجية مع المؤهل الدراسي الإفرنجي؟ لماذا لم يبقوا هناك؟ لأن الذي يعتاد على نمط الحياة في الواق واق لن يتحمل الحياة في أي بلد آخر.

إذا كنتَ تتغنى (و تشهق) ببلاد الفرنجة أو بأي دولة أخرى مجاورة. شقيقة كانت أو صديقة ، يا أخي لا تحزن. هاجر إلى البلد الذي تعشقه و نحن سندعو لك من قلوبنا أن يوفقك الله.

عزيزي الواقواقي صاحب الشهادة الإفرنجية...
لماذا أنت باقٍ في الواق واق؟ 
و لماذا رضيتَ بمنصبك الأكاديمي في البورد الواقواقي الذي أنت نفسك تحتقره؟ 
و لماذا تنصح تلاميذك و أبناءك و أحبابك بالدراسة في الفرنجة؟ 
أنت فعلاً معلم ... و إحنا منك نتعلم!

الغرض الأساسي من إبتعاث الأطباء هو جلب علوم الفرنجة معهم لعلاج مرضانا و تعليم تلاميذنا في بلاد الواق واق. "محد يبيكم" عبارة مؤلمة ليس الغرض منها إلا التجريح و التحقير الذي لا داع له. لا سيما في مجال عملنا الذي يشترط المهنية و سمو الخُلُق. سواء مع مرضانا أو زملاءنا أو تلاميذنا على حد سواء. 

أطباء الفرنجة بشر. منهم الطيب و منهم الحقير. منهم العالي و منهم الداني.
لكن النظام المهني العام عندهم لا يسمح للحقير بالتعبير عن ما في داخله ، و إلا كانت العواقب جسيمة ربما تصل إلى تدمير مهنته. لذلك هم ليسوا ملائكة و لا شياطين.

تنويه
القصة كلها بزمانها و دولها و رجالها و أحداثها ما هي إلا من نسيج خيال المؤلف.
أي تشابه بينها و بين دول أو أحداث أو أماكن أو أفراد على أرض الواقع هو بمحض الصدفة البحتة.