كلما جلستُ مع أي طبيب متخرج من بلاد الفرنجة و سألته: مالذي يميّز بلاد الفرنجة عن بلادنا؟ كلهم يجيبون بعد بضعة "آهات": آه. الفرنجة فيها "سيستم". لا يقف الأمر عند مفردة "سيستم" فحسب. وإنما يمتد لتلقينه لطلاب الطب المحليين جيلاً بعد جيل إلى درجة ترديدها كالببغاء... "الإفرنجيين افضل منا لأنهم عندهم سيستم".
يتذكر خريجو الفرنجة أيام غربتهم بحسرة و يرددون في بالهم "يا زين ايام الدراسة في الفرنجة. عندهم سيستم".
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: مالمقصود "بالسيستم"؟
"سيستم" كلمة انجليزية (system) و تعني "نظام". لكن في بلادنا الواق واق لدينا أيضاً نظام و قوانين و لوائح. إذا كان المقصود بالسيستم انعدام الفساد ، فالفرنجة أيضاً لا تخلو من الفساد. السيستم الذي يتحدثون عنه و يتشدقون به مفهوم أَكْبَر و أشمَل سأشرحه في هذا المقال.
السيستم في العمل
الاستشاري الافرنجي أول من يداوم في المستشفى و آخر من يرجع بيته. يقسّم جدوله حسب مهامه. بين العيادة الخارجية و الأجنحة و العمليات و كتابة التقارير الطبية و تدريس الطلبة ...الخ. هل سبب هذا الالتزام المفرَط حب الوظيفة؟ لا ننكر أن الشغف موجود عند البعض. لكن هناك عوامل أخرى تُلزِم الطبيب بساعات العمل.
بمعنى أن المسألة ليست متروكة للضمير و الرضا الوظيفي فقط. سياسة الثواب و العقاب التي تشمل كل موظفي المستشفى لا تستثني منها الأطباء. كل طبيب يلتزم بمهام معيّنة و بساعات عمل مخصّصة يأتي ترتيبها من الإدارات العليا. ساعات العمل سواء في الأجنحة أو الطواريء أو العيادات الخارجية.
في بلاد الفرنجة ، مالذي يحدث إذا رفض الاستشاري المناوب الذهاب إلى المستشفى ليلاً لفحص حالة حرجة؟ ما هي العواقب القانونية إذا توفى مريض بسبب الإهمال المتعمد للطبيب؟
بينما في بلاد الواق واق ، الاستشاري الواقواقي يقسم جدوله حسب مزاجه و راحته و تفضيله الشخصي ولا يجرؤ أحد على المساءلة أو حتى النقاش. حتى إذا إتكأ على كرسيه طوال اليوم و رمى واجباته على عاتق الأطباء الأقل منه رتبة.
السيستم في التعامل
تخصصات الطب المساعد و بالذات التمريض نادرة و مطلوبة أكثر من الطب في الفرنجة. الممرضين يدعمهم "إتحاد" قوي (Union) يساندهم و يدافع عن حقوقهم و يحاسب من يظلمهم. لذلك بالنسبة لإدارة المستشفى ، استقالة الممرض أكثر خطورة من استقالة الطبيب. إسألوا أي طبيب عاش في الفرنجة: ما هي العواقب القانونية إذا أساء الطبيب معاملة الممرض؟
نفس المبدأ يطبّق على كل العاملين في مستشفيات الفرنجة. التنمّر (bullying) بكل أنواعه ممنوع. ليس من حق أي موظف أن يسيء معاملة موظف آخر بغض النظر عن المسمى الوظيفي. في ممرات المستشفى مثلاً ، إذا رمى الطبيب قاذوراته على الأرض ، ينظر الفراش إلى الطبيب بحزم و يطلب منه بلهجة حادة أن يرمي قاذوراته في صندوق القمامة! الطبيب ليس له إلا أن يعتذر للفرّاش و يمتثل لأوامره.
السيستم في الميزان
الطبيب في بلاد الفرنجة لديه عدوّان لدودان يقفان له بالمرصاد: المحامي و المحاسِب.
![]() |
موقع في الانترنت للمحامين المتخصصين في كشف "النصب" في عمليات القسطرة |
![]() |
يافطة إعلانية لمكتب محاماة في الشارع في الولايات المتحدة "هل الدعامة التي وضعوها لك (في قلبك) لم يكن لها داع؟ إتصل بنا" |
![]() |
النسور آكلات الجيف |
لذلك الطبيب يقي نفسه من "الطلايب و عوار الراس" و يلتزم بلوائح و أصول العمل بكل حذافيرها. أو كما يقول المصريون "يمشي على العجين ما يلخبطهوش" و "إمشي عدل يحتار عدوّك فيك".
السيستم في التدريس والتدريب
مستشفيات بلاد الفرنجة ميزانياتها محدودة. لذلك ترحب إدارة كل مستشفى بأي "دعم" لميزانيتها. مثلاً بعض أثرياء البلد يتبرعون لبناء عيادة أو تجديد جناح. أو تتفق بعض المستشفيات مع كليّات الطب لتعليم طلبة الطب فيها مقابل رسوم مالية تدفعها الجامعات. أو بتوقيع إتفاقيات تعاونية مع سفارات "الدول الغنية" لتدريب الأطباء الأجانب مقابل عقود مالية سخيّة جداً. لذلك تحرص المستشفيات التعليمية على تقديم أفضل تدريب طبي و على أعلى مستوى للجميع.
تدريب ممتاز = سمعة ممتازة = جذب طلاب و أطباء متدربين أكثر = دعم مادي أفضل
لذلك في بعض الأحيان إذا أخطأ الطبيب المتدرب مثلاً. ترى الإستشاري يحمر وجهه من الغضب و يبقى صامتاً. يكظم غضبه و يمنع نفسه من الصراخ و الشتيمة خوفاً من التبعات القانونية المُحتملة إذا اشتكى الطبيب المتدرب المعني عند مكتب الشئون الأكاديمية.
بينما في بلاد الواق واق لا توجد قوانين رادعة توقف الاستشاري قليل الأدب عند حده. قابلت استشاريين واقواقيين تخرجوا من الفرنجة في الستينات و السبعينات و لما أرَ في حياتي أوقح منهم و لا أكثر بذاءة من لسانهم. ماذا تعلمتم من أخلاق الفرنجة بالله عليكم؟ و أي قدوة ستكونون لتلاميذكم؟
هل تعلم أن الاستشاري في بلاد الفرنجة شهادته سارية المفعول لمدة عشر سنوات فقط؟ بمعنى أنه يقدم إختبارات البورد مرة كل عشر سنوات لتجديد شهادته (recertification) لتجديد رخصة ممارسة مهنة الطب.
تخيّل نفسك تقول للإستشاري الواقواقي: طال عمرك عليك أن تقدم اختبارات الزمالة مرة كل عشر سنوات. ماذا سيكون رد فعله؟ أبسط ما سيفعله أن يطردك من مكتبه!
القصد
الاستشاريون الذي يمدحون الفرنجة و يفتقدونهم لأن عندهم "سيستم" ، مديحهم كلام "مأكول خيره". هم أنفسهم سيحاربون "السيستم" إذا تم تطبيقه في بلاد الواق واق. حدث أكثر من مرة أن حاولت جامعات افرنجية تطوير مستشفيات الواق واق و انتهت بفشل ذريع. لأن الاستشاريون الواقواقيون لا يريدون "سيستم إفرنجي" في مستشفياتهم و لأسباب جليّة. مديحهم لسيستم الفرنجة مثل شركات التبغ التي تدعم حملات مكافحة التدخين. أو نواب مجلس الأمة الذين يطالبون بحل القضايا المستعصية التي حلّها لا يَصُب في مصلحتهم.