أبدأ موضوعي بسرد وجيز لثلاث شخصيات متميزة.
البروفيسور الصامت
سافر فلان في بعثة دراسية لدراسة تخصص نادر. صرفت عليه الدولة زليار دينار (زليار: فلوس وايد). رجع و معه شهادة الدكتوراه. توظف بها و ترقّى سريعاً إلى أن حاز على لقب "بروفيسور". بالرغم من أن هذا اللقب أكاديمي ، إلا أن صاحبنا لم يدرّس طالباً منذ رجوعه إلى البلاد. و الكليّة - التي أصبح عميدها منذ فترة - لا تزال غارقة في فيضان الفساد الإداري و الأكاديمي. الطلبة الممتازين فيها انتقلوا الى جامعات أخرى. الطلبة الفاشلين فيها يبقون إذا كانت واسطاتهم قوية لدرجة تضمن لهم النجاح بدون دراسة. سمعة الكلية هبطت إلى القاع. بينما "صاحب المعالي البروفيسور" منشغل في وضع شهاداته اللماعة في إطارات فاخرة لتعليقها على حائط مكتبه مترامي الأطراف.
الأخ الصنم
أطلقت لقب "صنم" على هذا الإنسان لأنه متبلّد الشعور من جهة ، و لأنه متجاهل عتاب المقربين إليه إلى أبعد الحدود من جهة أخرى. لا يحضر أفراح أو أحزان أهله. لا يعطي أحداً أهمية. و لا حتى يذهب إلى المستشفى إذا مرض أحد من أبنائه (يُفتَرَض أن أبناءنا هم فلذات أكبادنا). و لا يتواصل مع إخوته إلا إذا أرادهم في حاجة أو مصلحة شخصية.
الرئيس المزهرية
رئيس قسم مخضرم. إجابته الموحّدة على أي شكوى أو إستفسار "مش حأقدر أفيدك". بالرغم من تعليمه الأجنبي الراقي و سنوات خبرته المثيرة للإعجاب. إلا أن سير العمل في قسمه بيروقراطي أبطأ من السلحفاة. التواصل فيه لا يزال بالورق و نحن في عصر الإنترنت و البريد الاليكتروني. الإحباط يسود المكان. مشاكل القسم كما هي دون حل قبل و بعد وصول هذا الرئيس الى المنصب. نراه يقص الشريط في الإفتتاحات. يرتدي التوكسيدو في المؤتمرات. تظهر صورته في الجرائد و المجلات. لكنه لم يترك لنفسه بصمة في قسمه. لذلك لقّبته بالرئيس المزهرية.
العامل المشترك بين النماذج الثلاثة السابقة أنهم على درجة عالية من الخُلُق و العِلم. مؤهلاتهم الدراسية حقيقية غير مزورة. تراهم في قمة الأدب و الذوق والأخلاق و اللباقة. إجاباتهم دبلوماسية. صوتهم حليمٌ خافت. لسانهم طاهر من أي عبارات نابية أو سوقية. لذلك كلما أنا انتقدتهم أو تضايقت منهم ، رشقتني أمطارٌ من سهام محبّيهم و المدافعين عنهم.
على الرغم من إختلاف أساليب دفاع محبيهم ، إلا أن أنماط تبريراتهم معروفة و متكررة. و هذه أمثلة منها:
١. الإستفسار عن الضرر المباشر.
- هل ضرّك أخوك الصنم في شيء؟ هل شتمك؟ هل أهانك؟ هل سرق منك شيء؟ هل كادَ لك مكيدة خبيثة مثلاً؟
- لماذا أنت "زعلان" من الرئيس المزهرية؟ و أنت لا تعمل في قسمه أصلاً.
- أنت شهادتك الجامعية من الخارج. لماذا أنت إذآً متضايق من البروفيسور الصامت في الكلية المحلية؟
٢. المقارنة بالأسوأ و ليس الأفضل.
- الحمدلله أن أخاك الصنم لم يكن فاجراً أو سكّيراً أو تاجراً للمخدرات!
مثل الطالب الذي يرسب في مادة واحدة و يهديء أباه الغاضب قائلاً: يا والدي لا تحزن. غيري رسب في مادتين و ثلاث مواد!
٣. إلقاء اللوم على طرف ثالث أو ظروف الزمان و المكان.
- البروفيسور الصامت "خوش" إنسان. لكن الفساد كلّه من "حاشيته" و هو برىء منها (لكنه هو الذي وظّفَ حاشيته!).
- الرئيس المزهرية إنسان نزيه. لكن الظروف كانت ضده.
٤. طلب مهلة زمنية أو فرصة ثانية.
- أمهلوا البروفيسور الصامت فرصة أخرى أو مهلة أطول.
- هو "سيعدّل" الأمور و سيرجعها الى صوابها عاجلاً أم آجلاً. في النهاية لا يصح إلا الصحيح.
أسألُ هؤلاء المستميتين في الدفاع عن هذه النوعية السلبية من الناس...
- إذا كنت سبّاحاً ماهراً ، و رأيت غريقاً في البحيرة المجاورة يستنجد. هل تقفز إلى الماء لمساعدته؟
- إذا رأيت طفلاً يعبر الشارع العريض الممتليء بالسيارات المسرعة. هل تهب لسحبه بعيداً عن موته المحقق؟
- إذا انتشر في العالم وباء قاتل يحصد ملايين الأرواح. و أنت تملك وصفة العلاج الفعال له. هل تحفظها لنفسك؟ أم تنشرها لإنقاذ البشرية؟
- إذا مررتَ في أزمة نفسية. على سبيل المثال بعد وفاة شخص عزيز. هل تطلب من إخوتك و أصدقائك شيئاً غير تواجدهم معك للدعم المعنوي؟
"الإنسانية" ما هي إلا رد فعل الإنسان التلقائي لإغاثة أخيه الإنسان. خصوصاً في الظروف الصعبة.
ألخص وجهة نظري في ثلاث سطور عظيمة...
"كلكم راعٍ و كلكم مسئول عن رعيته"
(حديث شريف)
"السبيل الوحيد لإنتصار الشر عندما لا يفعل الأخيار شيئاً"
الفيلسوف إدمند بيرك
"الناس للناس. و الكل بالله"
مثل خليجي