الاثنين، 22 سبتمبر 2014

خلك غامض

تحذير
إذا كنت من محبي أفلام الخيال العلمي و لم تشاهد "ثلاثية الماتركس"
لا تقرأ المقال. لأنه سيحرق عليك القصة.

  ربما من أبرز الصفات التي ميزت الإنسان عن بقية الكائنات الحية صفة الفضول. الناس بشكل عام يقلقها الغموض و يثير إهتمامها كل ما هو مجهول و ملغوز. القاريء مثلاً  يتابع "الرواية" إلى نهايتها ليكتشف "الحبكة" فيها. و إلا مالذي حمى حياة شهرزاد من القتل على يد الملك السفّاح شهريار غير غموض قصصها التي إستمرت لألف ليلة و ليلة؟ كذلك الساحر على خشبة المسرح لا يكشف الخدعة أمام جمهوره.

ثلاثية أفلام "الماتركس" (The Matrix Trilogy) كانت من أروع سلسلة أفلام الخيال العلمي من نوعها. مثّل لورنس فيشبرن فيها دور "مورفيوس" القائد العسكري الغامض الفذ الذي شدّ بغموضه و هدوئه فضول "السيد أندرسون" الذي مثل دوره كيانو ريفز
مورفيوس القائد الغامض
مورفيوس آمن بنبوءة سمعها من "عرّافة" تنبأت بقرب ظهور "المخلّص" (The One) الذي سيحرر البشرية من طغيان عدوها الذكاء الصناعي المسمى "الماتركس" الذي سخّر عقول البشر لخدمته.

العرافة
في الجزء الأول من الفيلم كان مورفيوس هو الشخصية المحورية. هو من إكتشف بأن السيد أندرسن كان "المخلص الموعود" الذي تنبأت العرافة بظهوره. و الذي غدا لاحقاً بالإسم المستعار "نيو". النبوءة كانت صائبة. الأمر الذي عزز ثقته في نفسه وبالتالي إيمان شعب مدينة "زايون" بقيادته.

السيد أندرسن. إسم الشهرة: نيو

زايون كانت المدينة البشرية الوحيدة الناجية من سيطرة الذكاء الصناعي الذي دمر العالم كما نعرفه. شخصية مورفيوس في الفيلم جسّدت القائد الهاديء الرزين الذي أبهر أتباعه بعباراته "الموجزة المقتضبة". الصفة المميزة لأي شخص غامض.

مورفيوس الخطيب الحماسي الذي يجيش العواطف و يهز المشاعر



عبارات غامضة مبهرة


عبارات غامضة مبهرة

في نهاية الجزء الثاني إكتشف نيو بأنه لم يكن في الواقع "المخلّص الموعود". و إنما وجوده كان فقط جزءاً من مخطط مسبق متقن بتعاون و تنسيق بين "العرافة" و "المهندس" الذي بنى الماتركس. 

المهندس
لذلك في الجزء الثالث ، غدا مورفيوس شخصية عادية جداً. "كرته إحترق" كما يقال في اللهجة الدارجة. كل غموض مورفيوس و إيمانه بالنبوءات و روحه القيادية ما كانت إلا فريسة سهلة لخطة متقنة وضعها و طبقها العدو و بنجاح منقطع النظير.

على أرض الواقع البعض منا يحب الغموض. لأنهم يعلمون بأن الغموض يستقطب الأنظار. لكن للأسف منهم من هو مجوّف من الداخل مغلف بالغموض من الخارج. ربما أشهر عبارة كويتية غامضة هي "يصير خير". لأنها عائمة و تحمل ألف تفسير و معنى ، حسب ظروف الموقف و سياق الحديث.

إذا سألوا الغامض: إلى أين أنت ذاهب؟ رده المعتاد: عندي شغل.
و إذا سألوه: لماذا تكره فلان؟ رده الذهبي: لدي أسبابي الخاصة.
هو في الواقع ليس لديه "شغل" و لا "أسباب خاصة".
هو فقط يحيط نفسه بهالة من الغموض السخيف ليترك السائل في حيرة من أمره.

ربما (و الله أعلم) البعض يكره البحث العلمي لأنه يشترط الشفافية و اللعب "على المكشوف" بطريقة لا تفسح المجال لأي غموض. "المعروف" في العلم معروف. و "المجهول" في العلم يبقى مجهولاً إلى أن تتم معرفته في يوم ما.  كل عالِم يرغب في طرح نظرية أو فرضية ، يعرض في الصحف العلمية المختصة طريقة بحثه و معطياته و كيفية توصله إلى نتائجه.  يتعرض العلماء إلى "الشواء على نار هادئة" بالنقد اللاذع و المساءلة في المؤتمرات العلمية في تخصصاتهم لإيضاح أفكارهم و نواياهم للعامة. 

في الطب الحديث كل علاج فعّال قد تم إخضاعه لتجارب عديدة على مر السنين لإثبات فعاليته و معرفة آليته و آثاره الجانبية. بينما يتربع الطب البديل على عرش الغموض و الرهبة. "العشبة الفلانية" تشفي من السرطان. و "الخلطة العلانية" تقي من أمراض القلب. لا أحد يعلم عن فعالية أو أضرار هذه المستحضرات شيئاً غير شهادات شفهية مصدرها القيل و القال ..."والدليل آلولوه".

الغامض لا يتكلم كثيراً. تبريره على صمته "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب".
لكن في كثير من الأحيان ، إذا فتح فمه إنطبق عليه المثل القائل "سكت دهراً و نطق كفراً".